شبيب بن ناصر البوسعيدي
شبيب بن ناصر البوسعيدي
الفساد هو الانحراف في استخدام السلطة في غير موضعها الصحيح، فهل يمكن قياس هذا الانحراف؟ وما أدوات القياس التي يمكن الاستعانة بها؟ وإلى ماذا ترتكن المنظمات في قياس مؤشر مدركات الفساد؟
على الرغم من أن الفساد يُعدّ ظاهرة خطيرة تُحاك دسائسه في الخفاء وتحاط وقائعه بسرية ودهاء، مما يصعب معه اكتشافه ومعرفته بجلاء إلا أنه يمكن رصد الفساد وقياسه نظريا من خلال بعض المؤشرات، مثل مقياس الموضوعية الذي يعكس ما تم كشفه وليس ما حدث فعلا، وكذلك ما ترصده أجهزة الرقابة ودواوين المحاسبة، والقضايا المتداولة في الادعاء العام ومعدل أحكام الإدانة القضائية، وحجم الأموال المستردة من قضايا الفساد، وحجم الأموال الملطخة بغسيل الأموال، كما أن هناك بعض المؤشرات التي ترصدها المؤسسات الدولية من خلال مقاييس للرأي العام يهتم بها الخبراء ورجال الأعمال والرؤساء التنفيذيون في القطاع الخاص وأساتذة الجامعات وغيرهم.
كل هذه المؤشرات وغيرها من المؤشرات التي يتم استقاؤها إما بانتقاء مقصود من شخصيات محددة أو من خلال عامة الناس كما هو الحال في بعض استطلاعات الرأي أو من خلال ما يتم نشره عبر مختلف وسائل النشر من صحافة وإذاعة وتلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي.
من خلال ما سبق نجد أن منظمة الشفافية الدولية قد أصدرت تقريرها لمؤشر مدركات الفساد لعام 2016، والذي يُعرف بمؤشر CPI (Corruption Perceptions Index) هذا المؤشر الذي لا يَعرِف الكثيرون عن آلية إصداره ومن يعمل خلفه وأمامه فغالبية الناس لا تهمهم هذه التفاصيل بقدر ما يهمهم نحن أين وصلنا في ترتيبنا لمكافحة الفساد، وهذا أمر منطقي فواضعوا المؤشرات يعلمون بأن السواد الأعظم من الناس يهمهم كم ترتيبهم في القائمة فقط!
التقرير أفرز 176 دولة في قائمة طويلة رُتَّبَت فيها الدول ترتيبا من الأقل فسادا إلى الأكثر فسادا، وهناك من هو عَوان بين ذلك، حيث تُصدر المنظمة تقريرا سنويا حول الفساد، وهو تقييم على مقياس بالدرجات من صفر إلى 100 ( حيث الصفر الأكثر فساداً و100 الأقل فساداً)، ويستند التقرير إلى بيانات تجمعها المنظمة من 12 هيئة دولية منها، البنك الدولي وتقرير التنافسية العالمي، ومؤسسة برلتسمان العالمية ومشروع العدالة الدولية والمنتدى الاقتصادي العالمي، على أن المنظمة تأخذ قياس المؤشر لكل دولة من ثلاث منظمات على الأقل.
والمتتبع الجيد لهذا المؤشر يدرك بأن هناك دُولاً مُحددةً هي دَائما تَتصدّرُ القائمة (الدنمارك ونيوزلندا وفنلندا) وهناك دُولاً معينة هي دائما تتصدر خاتمة القائمة (الصومال وجنوب السودان وكوريا الشمالية)، وبالنسبة للدول العربية فقد عَنونت منظمة الشفافية في موقعها الإلكتروني www.transparency.org عند حديثها عن المؤشر في الدول العربية بقولها (الدول العربية تزداد سوءًا على مؤشر مدركات الفساد لعام 2016) فغالبية الدول العربية تراجعت تَراجعاً ملحُوظا في العلامات حيث إن 90% من هذه الدول حَقّقت أقل من درجة 50 بالمئة، وبقيت كُلُّ من دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر رغم تراجعهما فوق المعدل، وبخاصة التراجع الذي شهدته دولة قطر حيث لمّحت المنظمة بأن أسباب انخفاض موشر دولة قطر يرجع إلى الفساد الذي أحاط بالاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) واستضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم 2020 – على الرغم من أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) قد برّأَ قطر من تهمة دفع الرشاوى-، وقد عبّرت المنظمة عن التراجع الذي شهدته الدول العربية بقولها (غالبية الدول العربية لم تستطع تحقيق نتائج حقيقية تعكس إرادة الشعوب في بناء أنظمة ديمقراطية فعّالة تعطي مساحة للمساءلة والمحاسبة) ومع ذلك فقد أثنت المنظمة على التقدم الجيد لترتيب تونس في المؤشر وذلك لقيامها باتخاذ العديد من الإجراءات لمحاربة الفساد من بينها إقرار قانون حق الحصول على المعلومة، وتطوير قدرات هيئة مكافحة الفساد، والمصادقة على الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، ووجود مساحة مساءلة جيدة نوعا ما لمؤسسات المجتمع المدني، كما أن البرلمان التونسي صادق على مشروع قانون لإنشاء محكمة قضائية متخصصة في قضايا الفساد الكبرى.
بينما عبّرت المنظمة أيضا عند حديثها عن تقرير المؤشر في دول أوروبا وآسيا الوسطى (بالركود العام) مشيرة إلى أنه في هولندا استقال أحد المسؤولين بسبب التحقيق معه عن صرف فاتورة عشاء باهضة الثمن صرفها من ميزانية الدولة! وترتّبَ على هذا التصرف أن انخفض ترتيب هولندا عالميا من الترتيب الخامس في عام 2015 إلى الثامن في عام 2016.
إذًا مؤشر المساءلة – بحسب رؤية منظمة الشفافية – عن فاتورة عشاء كان له دور في تحديد ترتيب الدول الأوروبية، في المقابل أشارت المنظمة في تقريرها إلى أن تراجع مصر في الترتيب كان بسبب ما وصفته بأنه تعدي الحكومة على الهيئات المستقلة حين أقال الرئيس عبد الفتاح السيسي بمرسوم رئاسي رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات وإدانته ومحاكمته قضائيا عندما كَشَفَ عن حجم ما كلف الفساد في مصر في الأربع سنوات الأخيرة، وذلك ضمن القضية المعروفة إعلاميًا بـ”فساد الـ600 مليار جنيه”.
وأخيرا أختم بمقال نشرته جريدة عكاظ بتاريخ 13/4/2013 للكاتب منصور الطبيقي يتساءل فيه لماذا الدنمارك الأولى عالميا في مكافحة الفساد؟ حيث أشار الكاتب إلى أنه (يوجد في الدنمارك والسويد وفنلندا وهي الدول الأولى في هذا التصنيف، نظام نزاهة وطني صارم ومتكامل يقيم ويراقب جميع السلطات في البلد، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأعمال القطاع العام والخاص والمجتمع المدني وإنفاذ القانون، وحرية منضبطة في الإعلام حيث دلت دراسات حديثة أن ذلك له تأثير إيجابي جدا للسيطرة على الفساد ومحاربته، وتقترب نسبة الأمية لديهم للصفر، أما حقوق الإنسان فهي أولوية بكل تأكيد، كما يوجد لديهم إفصاح شفاف عن جميع المعلومات الخاصة بميزانية الدولة، لدرجة أنه يسمح للمواطنين بتقييم واقتراح أوجه الصرف على المشاريع العامة للدولة، كما يعتمدون الإفصاح المالي لكل الموظفين بالدولة وأولهم الوزراء، حيث يلزمون شهريا بنشر مصروفاتهم في السفر والهدايا التي يتلقونها). كذلك يوجد في الدنمارك سجل عام يحتوي على معلومات عن الملاك الفعليين من جميع الشركات المسجلة في الدنمارك.