د. علي نسر
يوم قال الشاعر الراحل محمود درويش في جداريته: …ولدنا في زمان السيف والمزمار/ بين التين والصبّار/ كان الموت أبطأ/ كان أوضح… ظننّا وقتها أنّ الشاعر كغيره من المهزومين الخائفين من الحاضر والمستقبل، يقوم بعملية نكوص نحو الماضي، متّخفّياً بتراثه حفاظاً على الهوية والكيان… لكنّ المشهد الدموي الحاليّ، يشير إلى ما يشبه التكهّن عند الشاعر. فما هو متفق عليه رغم اختلاف الناس على كل شيء، هو الموت (تخالف الناس حتى لا اتّفاق لهم/ إلا على شجب والخلف في الشجبِ – المتنبي)، ذلك اللغز الذي حيّر صنّاع الحضارات والفلاسفة والمفكّرين.. بيد أنّه، وفي ضبابية المشهد القائم، لم يعد ذا قيمة للبحث، أو محطّة للتفكير، إذ استحال سلعة مستهلكة رخيصة… وبدلا من السؤال عن المصير ما بعد الموت، وأسباب حصوله لتجنبها، أصبح التكيّف معه أمراً واقعاً، وصار السؤال عن الطريقة أو الشكل المتغير له كلّ يوم… فكما قصد الشاعر، فإنّ الموت صار ذا سرعة لا تقاس ولم يعد من جدوى للاهتمام بوضوح حصوله أم لا، طالما أنّ الخلاص صار عبره، ما دامت السماء تنتظر الوافدين إليها، الباحثين عن مكان ينفض عنهم غبار الدنيا التي زُرع في أذهانهم أنها لا تستحق الاهتمام بها…
من المعروف، أنّ كلّ حركة حين تتعرض لعراقيل خارجية أو داخلية، أو حين تصل إلى ذروة ما تسعى إليه ترتدّ على نفسها، فتستحيل نظامًا جامداً غير قادر على نشر ما كان باستطاعته فعله أثناء حركته، وإن أصبح أكثر اتساعاً وسيطرة على الصعيد الجغرافي والعسكري.. إلا أنّ تأثيره في النفوس يصبح بطيئاً ومحدوداً حتى ينهكه التراجع ويقضي عليه. لكنّ المخيف اليوم، أنّ حركة التغيير لدى المتصارعين تقوم على الموت، ذلك المتجدد يوميًّا، والمرحّب به لدى جميع الأطراف، بحثاً عن النبع الإيماني الأول والصافي حسب وجهات النظر المختلفة، ما يجعل المعركة طويلة الأمد… فليس المشهد القائم وما يتخلله من دماء وفناء مدبّر، هو مكمن الخطورة فقط، إنما الخطر يكمن في إطالة الأزمة، هذه الأزمة الشبيهة بالمأساة المتكررة، لكنّ تشبّثنا بالماضي وما أفرزه من صراعات لم يجعل من تكرارها مهزلة (كما يقول ماركس) يُشار اليها بأصابع السخرية، كتكرار أية مأساة عبر التاريخ، بل جعلها تتكرّس فكراً وعقيدة.. ليس الخوف في ما نشاهده منذ ستّ سنوات فحسب، إنما الخوف من الآتي، من جيل تشرّب الصورة المرئية، وشبّ على حجر الموت، وتغذّت مخيلته بصورة الأجساد والرؤوس المفصولة عن الأبدان، وتطبع فكره بما يراه ويسمعه وما صار عليه شهيداً بعد أن كان، قبل الحرب، شاهداً عليه من خلال قراءاته واطلاعاته فقط… الخطر في أنّ الفكر أضعف من أن يغيّر الوعي القائم وإن كثرت الأحلام بوعي ممكن، لأنّ الوعي يحدّده الوجود ويحتاج إلى سنوات طوال ليترك حفرة تغييرية في صخره وجلموده على الصعيد الثقافي والفكري والسياسي والاجتماعي