أ.د . رحمن غركَان
ناقد أكاديمي – العراق
أ.د . رحمن غركَان
ناقد أكاديمي – العراق
تصدر القصيدة عن ثنائية واحدة أو بنية ثنائية واحدة هي: (الحياة-الموت) متوزعة على تحولاتهاالتسعة أعني مقاطعها التسعة، بدءاً من بنية المستوى المعجمي إلى بنية المستوى الايقاعي إلى بنية المستوى التصويري إلى بنية المستوى التركيبي إلى بنية المستوى البنائي إلى بنية المعنى الشعري. وهو ما تحاول هذه القراءة الأسلوبية البنيوية أن تستشرفه في خلال ستة محاور هي مكونات الاداءالشعري.
بين يدي هذه الثنائية، أو على ضفتيها، أو على اُتجاهيها المتعاكسين، يعزف البردوني أنشودة تحولاته/ هذي التي نبتت في رماد، أو اُنتبهت في صحراء، فهي (أعشاب رماد) بلغة مجاورة هي نباتات صحراء، أعشاب رمال. ثم أن العنوان جاء بنية مسند إليه مكون من تتابع إضافات، لمسند هو النص كله، فكأنه يقول: (تحولاتُ أعشاب الرماد القصيدة كلها) بما جعل التحولات مسنداً إليها والقصيدة مسنداً. على أن في (التحولات) كثيراً من سيرة البردوني وفي أعشاب الرماد كثيراً من شعره، بما جعل العنوان د الا عليه: إنساناً أولاً وشاعراً ثانياً. والقصيدة دالة عليه إنساناً أولاً وشاعراً ثانياً حتى جاء الانسان منه متقدماً على الشاعر لأن الشاعر فيها صادر عن الانسان (البردوني) الذي تتوزعه ثنائية (الحياة لا لموت)
1- بنية المستوى المعجمي:
يتوزع معجم القصيدة على نوعين من الكلام المعبر فنياً من المعنى؛ النوع الاول هو الكلام باللفظ. والثاني هو الكلام بعلامات الترقيم وبياض الورقة. وفي كليهما ينفرد معجم القصيدة بعناصر ومنبهات أسلوبية تحفل بخصوصية في الاداءوفي إبداع المعنى الشعري. على اُمتداد مقاطع القصيدة التسعة أو تحولاتها التسعة.
في المقطع الاول أربعة أبيات، الحاكم الموضوعي لتحولها هو التأرجح أو التعدد أو اللا انتماء حتى جاء معجمها صادراً عن لغة: التضاد والمقابلة في آن معا: في البيت الاول التضاد بين: يعطيني ويأكلني والمقابلة بين الشطر الاول والشطر الثاني. وفي الباعث على القول في المعنى الموضوعي بين التراب الذي انخلق منه (عبدالله): الذي يعطيه الخبز ويأكله وبينه حين يؤول به التحول من عبدالله الانسان إلى عبدالله/ التراب الذي هو: قتلي وقاتلي. بما جعل لغة التضاد والمقابلة في المطلع تبدع معجمه اللفظي انطلاقا من خصوصية الشاعر من شيوع المعنى الذي هو: كلنا لآدم وآدم من تراب. وأن الاستفهام بعلامة السؤال في ختام البيت، والنقاط كونها علامة مسكوت عنه والفاصل بين الشطرين وعلامة الفارزة بوصفها عتبات نصية جاءت امتداداً لمعجم البيت، امتداداً بصرياً عند القراءة يعوّض عن فنية الالقاء كونها جزءاً إنشادياً هو امتداد صوتي للمعجم أيضاً.
ومن الارض في البيت الاول إلى الريح وليس الرياح في البيت الثاني فجاء التكرار في (الريح) و(اليوم) أي في المكان غير المستقر والزمان المتعدد. وشبه التكرار في الانتساب أي في: اليماني والباهلي؛ لا مكان لديه غير ما يجده بين يديه. كانت الارض في البيت الاول: حياته أولاً ومماته آخرا حتى جاءت الريح في البيت الثاني انتماءه/ اللا منتمي، حتى اسلمه اللانتماء إلى اللحظات العابرة: الطور والحنين فاقترن بالنشيد بوصفه صدى، في البيت الثالث الذي أسلمه إلى الزمان في البيت الرابع الصادر عن لغة المقابلة بين الوقت واللا وقت في الشطر الاول والقناع واللإقناع في الشطر الثاني. جاء معجم المقطع الاول موصولاً بأربعة عناصر هي: ( الارض والمكان والجهات والزمان) هكذا على التوالي. وكان معجم علامات الترقيم فيه امتداداً لمعجم الالفاظ: أعني الاحرف والكلمات فاستعان بـ: النقاط وعلامات الاستفهام والتعجب و الاقواس والفوارز، بما جعل المنشد يتغنى حين يقول، والقارئ يتأمل حين يقرأ بمجبسات البصر ونزعات البصيرة.
جاء المعجم على مستوى الالفاظ متشكلاً في صور تركيبية متشابهة في ثمانية تراكيب من أربعة أبيات حيث يلحظ المتلقي أن كل شطر في المقطع الاول يتكون من صورة تركيبية من تكرار أو تضاد أو مقابلة يقابلها نضيرها في الشطر الثاني. وحيث البيت الاول يقابل البيت الرابع في معنى أنه خبر و الارض قناع. ثم أن لفظ (القافية) في البيت الاول جاء موصولاً بـ (ياء) المتكلم، بينا كانت في الابيات الثلاثة الآخر يات (ياء) الآخر ؛ إيحاء بغلبة الآخر له. كأنه لم يرو حكايته بعد، لذا جاء المقطع الثاني مستهلاً بأستفهام: أأروي حكاياتي؟؟ وقد توزع على أربعة أبياتأيضاً. وإذا كان التحول الاول /المقطع الاول في معنى: الحياة القلقة، الحياة التي تبدأ حاملة نهايتها، فإن المقطع الثاني في معنى الحرية القلقة الحرية التي تبدأ حاملة سجنها، وفي المقطع الثاني حريتان: حرية القلم الذي يبدأ من (عبدالله) لينتهي به المطاف مُقلداً من الآخر ين، فأوله حرية المبدع الكاتب وآخره سجن التقليد، وحرية عبدالله التي تبدأ منه إنساناً لتنتهي به أسير الآخر ين سواءً كانوا مطامح تستعبد الانا أم أناساً يحتلون الآخر ولا يتسعون به.
ومعجم هذا المقطع يصدر عن لغة التقابل بين: (جفوني محابر لأقلام غيري وحبرُ غيري أناملي) في البيت الاول. وبين الشطر الاول والشطر الثاني في الابيات الثلاثة المتبقية من هذا المقطع. وقد جاء معجمه موزعاً على حقلين: حقل الكتابة وحقل السجن.
فأما في الكتابة فهناك: حكاية، محبرة، أقلام، أنامل، رواية، الآخر (غيري). وأما في السجن فهناك: السجن الذي تكرر أربع مرات والقعر والعبء والكاهل، أما المعجم الصادر عن العتبات النصية فقد غلبت عليه علامات الاستفهام والتعجب. وقد بدا التكرار حاضراً في معجم هذا المقطع بنوعيه: الالفاظ وعلامات الترقيم.. فليس من بيت لا تتضح فيه لغة التكرار، وفي ألفاظ مفصلية، وليس من بيت الا وتحضر فيه لغة الاستفهام وعلامتها أكثر من مرة بما يجعل شعرية الجملة تحفل بها بقوة تعبيره لافتة. وقد بدت أسلوبية المعجم في هذا المقطع أوضح منها في غيره، لاتصالها بنزعةٍ القيد (السجن) الذي يعيشه البردوني بصرا مفقوداً من جهة ونزعة الابداع الشعري الذي يعيشه البردوني رواية موصولة بذاكرة الآخر ؛ ذاكرة التدوين.
أما معجم المقطع الثالث فكان معجم الحوار مع الآخر الذي هو (أنا) أولاً، وقد يكون ( الآخر ) ثانياً، وقد توزع على سبعة أبيات، هو مقطع التحول إلى محاورة الآخر ، فجاء مبنيا على الحوار مع الآخر الذي تعدد ولكنه تعدده أنصبّ في أثنين: أولهما الايام وثانيهما الآخر الذي هو نفسه إذ اعتاد على مخاطبة الآخر الذي هو نفسه، ذلك إنه يدرك نفسه ويدرك الآخر ولكنه لا يراهما بصريا بل معنوي، فكأنَّ غياب حاسة البصر عنه جعله يرى وجوده الحسي و الآخر بكثير من التقارب، فكما يحاور الآخر قاصداً معانيه التي يفصح عنها، صار مجتهداً في محاورة نفسه بوصفها آخر مفصحاً عن مكنون ذاته. وهنا كان أسلوب الاستفهام بعلامته وكذا أسلوب التعجب والنقاط والفوارز وغيرها واضحة الحضور في معجم المقطع الثالث. ولما اضفى الحوار تماسكا عضويا على المقطع هنا فقد جاء التكرار عنصراً لافتا في معجمه، فليس من بيت الا وتضمن تكراراً لفظيا، أو معنويا على مستوى التصوير. وقد فرض اسلوبا: الاستفهام والحوار على معجم المقطع تكرار بعض الالفاظ والتوظيفيات الكتابية لأن المقطع مبنى عليها. ثم أن معجم القافية جاء متصلاً بضمير المتكلم في خمسة أبيات بينا اتصل بـ (ضمير الآخر ) في بيتين فقط، لأن الشاعر موصول بذاته ومحاورة نفسه وكشف تحولاتها حتى أن الآخر هنا هو الشاعر نفسه.
ومن محاورة ( الانا) إلى غيابها في المقطع الرابع ذي البيتين اللذين يقولان (بأن دمه صار ماءً) ومن ذلك الماء الذي صار وصلاً تسلل إليه العمى، وهنا يتساوى معجم الالفاظ/ الاسماء ومعجم الالفاظ/ الافعال التي يغلب فيها المضارع على الماضي بما يكشف عن وطأة راهنه عليه، والبيتان يصدران عن أسلوب الاستفهام وهو ما يعبر عن أنه شاعر مسكون ب الاسئلة. ومن الاحساس بالخسارة في المقطع الرابع إلى الاحساس بالثالث، فقد كان فيما سبق هو و الآخر وحين افصح عن أن الآخر إنما هو: هو نفسه، صار يحس بثالث:
أبيني وبيني ثالث اسمه أنا؟
أمنّي أتى غيري؟ أيبدو مشاكلي؟
وقد غلبت الاسمية على الفعلية في البيتين فهناك ثلاثة أفعال مضارعة وفعل ماض واحد في مقابل أربع عشرة صيغة اسمية، بحضور لافت لأسلوب الاستفهام ولغة التعجب وعنصر التكرار، والمعجم في كل هذا محتفل بنسغ اسلوبي يمتد في كلام القصيدة كله. لهذا حين يجيء المقطع السادس ذوالبيتين أيضاً، يحتفي بغلبة الصياغات الاسمية، فهناك ثلاثة أفعال مضارعة وفعل ماض واحد، في مقابل ثلاثة عشرة صيغة اسمية تحفل بالتكرار في ألفاظ: الموت والميلاد والغاية. حتى أن القافية جاءتبشكل من تجانس ناقص بين الوسائل والتساؤل موصلتين بضمير المتكلم الذي هو الشارع. وفي المقطع السابع ذي الابيات الثلاثة مقطع (الميلاد) يغلب معجم الصوت: صوت، صيحة، نداء، حنين، مراحل، أتيت، أرتويت، أجرّب، بما كانت الالفاظ الدالة في حقل (المجيء والولادة) هي الغالبة، ولغة التكرار ذات حضور معبر بدءاً من أول التحول حيث السؤال: (أصوتي سوى صوتي؟) كما أن القافية جاءت موصولة بـ (ياء المتكلم/ الانا) ولكنها في المقطع الثامن ليست كذلك لأنه مقطع مخاطبة الآخر المختلف وليس الآخر الذي هو نفسه، وبدأ ب الآخر : المكان (قاع جهران) بما يشي به المكان من انخفاض (قاع) ومضاف إليه يشي بالبوح (جهران) فأي منى في مكان مخنوق؟ ولهذا حين خاطب الآخر : الانسان توقع منه الانكار: (اتعرفني يا عم (عيبان) من أنا؟) بما يدل عليه اسم الذي يخاطبه من غياب (عيبان) حتى أته إلى أقصى الوضوح في الشطر الثاني: (أتنوين يا شمس الضحى أن تغازلي) بحيث جاءت الياء معبرة عن الآخر وليس الانا، لأن الشاعر هنا في حوار الآخر : المكان (قاع جهران) والنبات (الشعير القبائلي) و الانسان (عم عيبان) ومركز الكون (شمس الدجى) فالمعجم هنا موصول بخطاب الحياة كل الحياة التي يعيشها البردوني، ولكنه يشي بانها حياة شبه ميتة فصاحبها للاماني وليس الحقائق أو الوقائع، وغذاؤنا أمانٍأيضاً إذ لم يحصل حتى من الشعر على غير لونه، حصل على اللون لا الطعم، فإذا ما انتقل إلى المقطع التاسع أو التحول التاسع في الختام ينتقل معجمه إلى خطاب الاشياء بوصفها حيوات تستمد من موته عنفوانها، وهو يستمد منها وجوده فقام معجم بيتي الختام على التقابل بين الحياة والموت، بين الميلاد والوفاة بين شهوة العرس وقسوة الموت فجاءت ألفاظ: (شهوة الاعراس/ قطع الشريان، بدت التواصل، كنت ميتا، كنت اعتلي، صرت أعلو، أسرجت مد فني، اجتث قاتلي…) في شبه حوار مع الذات تتقدم فيه الحياة على الموت.
ومن ذلك نخلص إلى أن أسلوبية المعجم عند البردوني تتمثل في جملة إشارات أو منبهات أسلوبية لعل أوضحها ما يمكن إيجازه فيما يأتي:
1- تصدر أسلوبية المعجم على مستوى اللفظ عن نمط من إحساس باللغة بوصفها كلاما للروح يصدر عنه المعنى الشعري الصادر عن اللغة الشعرية وليس قبلها ولهذا تكتسب اللغة فاعلية عمودية على مستوى النص كما في بنية القافية التي جاءت ألفاظها موصولة بضمير المتكلم (أنا الشاعر) في ثلاث وعشرين قافية من ثمان وعشرين وهو ما يؤشر فاعلية الانا الإبداعية في أبداع المعنى الشعري على مستوى المعجم في التقفية.
2- بدا أسلوب التكرار لافتا للنظر على مستوى الالفاظ المفردة وعلى مستوى التراكيب وهو ظاهر في كل بيت تقريبا، كما بدا التكرار في أسلوب الاستفهام لافتا حتى بدت القصيدة تنبض بشعرية الاسئلة.
3- أفاد معجم القصيدة من علامات الترقيم، أفقياً على مستوى الابيات وعموديا على مستوى البناء عبر توزيع القصيدة على تسعة تحولات (مقاطع) حرص على الفصل بينهما بعلامات أيقونية. وقد جاء ذلك الفصل د الا في شعرية النص كله.
4- جاءت الالفاظ في كل مقطع/ تحوّل منتمية لحقل دلالي معين، لأن أسلوب الاداءالشعري يكثف التعبير عن معنى معين بألفاظ من حقل دلالي واحد أو أكثر إيحاءً بالقصد وإثراءً للتعبير
1-
2-
3-
4-
2-بنية المستوى الايقاعي:
الايقاع أسلوب من حيث هو التزام بعناصر وآليات بما يؤدي إلى ظهور النص منتظماً على وفق تلك العناصر و الاليات انتظاما متناسبا في أدائه منسجما في تراكيبه، يؤدي على نحو متقارب الخطوات موصول النقلات في بثٍّ إيقاعي محسوسٍ يتميّز من خلاله جنس الشكل الادبي؛ ولكن مما يؤخذ على هذا المنحى التقارب بين ما هو ابداعي ذو أسلوب لافت وما هو مصنوع ذو أسلوب تقليدي. بمعنى أن النظر إلى الايقاع بوصفه أسلوبا يتساوى فيه شعر المتنبي مع منظومات الشعر التعليمي، لأن أسلوب الايقاع واحد من حيث هو: أوزان وقواف وأساليب بثٍّ إيقاعي كالتكرار والجناس والسجع والطباق التقابل وغيرها من الفنون أو الاساليب التي يجيء انتظامها أو حضورها في النص باثاً نمطاً من إيقاع محسوس. ويدخل في الايقاع كل أداء أو تركيب يأتي حضوره في النص على وفق أداء متناسب ملحوظ باثاً نزوعاً إيقاعياً وحساً إيقاعيا يتضح صداه في ذائقة المتلقي اتضاحاً قد تقتنيه القواعد والمحدودات كما في العروض والقافية وقد تصفه القراءة وتؤشره وتحلله إيقاعيا ولكنها لا تقننه بأنظمة وحدودات.
أما الايقاع بوصفه أسلوبية فهو إيجاد لعناصر ذات بث إيقاعي وليس تطبيقاً لآليات قبل النص يفتعلها الكاتب بين يدي الكتابة، بمعنى أن يصدر الايقاع لا شعوياً عن تلقائية الطبع وفاعلية الروح في الابداع بما يكون الايقاع موجوداً في نبض المعنى الفني وليس زينة على جسد الكلام، وهنا تجيء أسلوبية الايقاع فردية في حين كان أسلوب الايقاع جماعياً، كما تجيء أسلوبية الايقاع أستثنائية أداءاً، أما اسلوب الايقاع فاُتباع وتقليد. ولما وكان الشاعر الاستثنائي مبدع كلام اُستثنائي فإنه بالتوقع الفني تصدر عنه أسلوبية إيقاع ذات بث جمالي مؤثر يبعث على التأويل، تلحظها في كيفيات أدائه، وتجيء منتظمة جسد القصيدة صادرة روحها الذي هو جوهر المعنى الشعري.

2- إيقاعية التضاد: وهي إنبناء النص على أشكال من التضاد والتقابل والمجاورة بين التراكيب ومن ثمة بين المعاني بما يخلق حساً إيقاعياً وأسلوبية إيقاعياً تميّز أداء النص وتشي بعنصر تفرد فيه. وقد أنبنت قصيدة (التحولات) على هذا النمط الأسلوبي من أول بيت الى الختام، وفي المقطع الثاني نقرأ أسلوبية هذا في (جفوني محابر لأقلام غيري/ حبر غيري أناملي) و(لأني دخلت السجن…/ أصبح السجن داخلي) و(لقد كنت محمولاً على نار قعره/ فكيف تحملت الذي كان حاملي) وكذلك بين الشطر الاول والشطر الثاني من ختام هذا المقطع. وكما كان ذلك سمة تفرد أسلوبي ذات بث إيقاعي في كلام القصيدة كله فقد أنتجت أسلوبية إيقاعية جعلت الاداءالمنتج لها متقدماً في إبداع المعنى الشعري وليس مصنوعاً للايحاء به، ولا سيما أن القصيدة كلها قد بنيت على هذا التقابل بين نزعة الحياة ونزعة الموت فجاء مناسباً حضور التقابل أو التضاداً منبهاً أسلوبياً ذا بثٍ إيقاعي مؤثر جمالياً.
إيقاعية التضاد:
3- إيقاعية الاستفهام: هو أن تصدر القصيدة عن أسلوب الاستفهام في أكثر ابياتها وأن تجيء لغة الاستفهام فاعلة في إبداع المعنى الشعري، فيشكل تكراره حساً إيقاعيا على مستوى الاداءومنبهاً أسلوبياً على مستويات كيفية الاداء، وفي أبيات القصيدة الثمانية والعشرين، هناك عشرون بيتاً صدرت عن لغة الاستفهام، بما جعل هيمنته على كلام النص مؤثراً إيقاعياً، وإن وضوح النزعة الحسية في معانيه، يجعل نزعة الايقاع أوضح وأقرب إلى ذائقة المتلقي.
إيقاعية الاستفهام:
4- ايقاعية التكرار: هو أن تتكرار البنية اللفظية حاملة بثاً من معنى إضافي، وكيفية التكرار تحدد الحس الايقاعي من جهة والمنبه الأسلوبي من جهة أخرى، بمعنى أنه ليس كل تكرار يبدع تكراراً أسلوبياً ذا حس إيقاعي، لأن الأسلوبية تستلزم الفرادة وتستدعيها وتكشف عنها، وهي في قصيدة البردوني تبعث على التأويل لأن بنية الجملة ذات ثراء فني وفائض انزياح يلفت النظر بدءاً من المطلع، إذ جاءت لغة التكرار فاعلية في أسلوبية إيقاع الجملة وفي إبداع المعنى الشعري، في تسعة عشر بيتاً من ثمان وعشرين، وبدا البردوني في كل تكرار يكشف عن كيفية مائزة في إيقاع الجملة إيقاعاً يسهم في إثراء المعنى و الايحاء بخصوصية الشاعر في الاداءالشعري.
ايقاعية التكرار:

4- بنية المستوى التصويري:-













4- بنية المستوى التركيبي:-
غلبت على لغة التركيب ثلاثة أساليب رئيسة هي: أسلوب الاستفهام وأسلوب التقابل وأسلوب التضاد، بما جاءت كيفية الصدور عنها في جسد القصيدة مشكلة سمات أسلوبية سادت على كلام القصيدة كله في المقاطع التسعة التي هي تحولات من سيرة حياة البردوني، فجاء التحول الاول: رحلة حياة توزعت الكشف عنها أربعة أبيات مؤسسة على الاجابة عن؛ سؤال المعرفة: (عرفتُ لماذا كنتُ قتلي وقاتلي) حيث جاءت الابيات الاربعة إجابات شعرية عن سؤال المعرفة ذاك الذي تصوره القصيدة بعد العنوان، وقد تشكلت لغة السؤال كما لغة إجاباته من التقابل والتضاد، فكان التقابل هو الباحث لشعرية الجملة أما التضاد فهو الفاعل في معجم الكلام، فجاء التقابل حاكماً أسلوبياً في كل شطر من الاشطر الثمانية حيث تتضمن جملة تقابل بدت مثيرة للأسئلة الشعرية ومستدعية التأويل في إبداعها الصورة الشعرية المنسوبة لكيفية في الاداءبالتقابل بدت منسوبة للبردوني في هذه القصيدة، وكأنّ هندسة التراكيب الثمانية بكيفيتها الأسلوبية قامت على التقابل أسلوباً والتضاد معجماً والسؤال باعث تأويل.
أما في التحول الثاني ذي الابيات الاربعة فقد اٌنفعل بقلق السجن (سجن العمى) الذي فتح له حرية الشعر فجعل قصائد غيره تصدر عن أنامله: (جفوني محابر لأقلام غيري، حبرُ غيري أناملي…) وقد جاءت لغة الاستفهام مفتاحاً للنص: (أأروي حكاياتي؟) ثم جاءت أشطر النص الثمانية بعد ذلك مبنية على لغة التقابل، فالتركيب أو المعنى الشعري في الشطر الاول يقابل التركيب أو المعنى الشعري في الشطر الثاني وهو ما بدا مرتكزاً للبث الفني وتركيباً أسلوبياً لا تقليدية فيه، ترتفع بساطته بكيفية من أداء شعري باذخ، وقد مثّلث (مألوفية التركيب) في كل بيت أسلوبية الاداء المنسوبة للبردوني، فقد صنع من المألوف خصوصيته ومن الشائع تميّزه، ومن العمى بصيرة نافذة في أخيلتها الشعرية.
أما في التحول الثالث ذي الابيات السبعة فقد أنفعل بحوار مكثف ذي أسئلة شعرية نافذة مع ذاته ولهذا آخذ مساحة من الكلام هي ضعف ما كان في التحولين السابقين، ثم أنه لم يبدأ التحول بالسؤال كما سبق إنما يبدأ بالوصف ثم ينفعل بالسؤال ثم يقف على إجابته التي يريدها، وهذا التدرج من الوصف للسؤال للإجابة يغلب عليه أسلوبان هما: الاستفهام والتقابل كما كان في تحوليهِ السابقين:
4- بنية المستوى التركيبي:-

قام الوصف في الشطر الاول على التقابل بين: (تخشبه وتخشب الايام) ثم جاءت أسئلة مكررة بسؤالين وكأن الاول إجابة لتخشّب الايام والثاني إجابة لتخشّبه..!! ليقف ختام البيت على المحاولة. وحين يجيء البيت الثاني تتكشف أسئلته الشعرية على النهج نفسه، حتى أن الوصف بني على صورة الراهن: (من اللآن حاول أنت) ثم بسؤالين: كيف تريدني…
لماذا سكتَّ؟ ليقف ختام البيت على المحاولة: (هزني من مفاصلي). ثم يكثف ختام البيتين السابقين في البيت الثالث الذي أنبنى على التضاد: حقي/ باطلي وختمه ب الانجاز وليس المحاولة: (إليه أمتطي ظهر باطلي) ثم قام البيت الرابع على التقابل بين الغربة و الاغتراب، فيما قام الخامس على التقابل بين النية والعمل ( الانجاز) أما البيت السادس فجاء مبنياً على التقابل بين الاحتراق ضوءاً والفناء حلولا، ليختم التحول الثالث بالتقابل بين نار الانجاز و الاختلاج. ونسج تراكيب المقطع بأبياتها السبعة على كيفية أسلوبية موصولة لحواره مع ذاته: نار أسئلة ودفء إجابات.
أما التحول الرابع ذو البيتين والمنفعل بجمر الخسارات فقد تركب من التقابل بين رمَدَ العيون والشواعل التي تفيق: (رمدتني وحوله…. تفيق شواعلي) وفي البيت الثاني بين: الاصغاء إلى الهجوع ونداءات المجادلين، ولعل جملة التشبيه التي اُستهل بها المقطع: (دمي صار ماءً) أقسى في تصريحيتها من تأملات الاستفهام في أوائل المقاطع السابقة وكأنّ الاحساس بالخسارة دفع الشاعر إلى التصريح تنفيساً أكثر من الايحاء أو التلميح تأملاً.
أما التحول الخامس ذو البيتين والمنفعل ب الاحساس بالتعدد واللا أحادية فقد تركب من التقابل بين الحياة والصمت السلبي: (قلبي ركض ولادة –اللا صمت واللا رعب) في البيت الاول. وبين الانا المتعددة أو اللا أحادية و الآخر : (فيَّ ثالث هو أنا = لا يشبهني غيري ولا يشاكلني) في البيت الثاني.
وبنية التقابل في هذا المقطع ليست مفصحة عن شكلها في ظاهر اللفظ إنما هي مضمرة يشي بها المعنى الشعري، وموصولة بالتعبير عن إحساس الشاعر ب الآخر في مقابل إحساسه بتعدد الانا فيه…!!!
أما التحول السادس ذو البيتين أيضاً والمنفعل بثنائية (الموت/الميلاد) فقد تركب من التقابل بين البداية من الموت وانتهاء الوسائل إلى غاية أعلى: (من الموت اُبتدي إلى غاية أعلى ستضحي وسائلي) في البيت الاول. والتقابل بين الميلاد الذي يؤول إلى الموت والميلاد المتعدد الذي يؤول إلى الخلود: (أ للمرء ميلاد يموت ومولد بلا أي حدٍ؟؟) وإذا كانت جملة: (أحسُّ بقلبي) هي مفتتح التقابل في التحول الخامس، فإن جملة: (تحولت غائياً) هي مفتتح التقابل في التحول السادس. وهو ما جاء متناسباً مع جملتي التقابل في كلِّ منهما، متناسباً مع المعنى الشعري الذي تشي به بنية التقابل.
وفي التحول السابع ذي الابيات الثلاثة حيث خطاب الميلاد، و الانفعال بثنائية (الموت= الميلاد) وحيث الانتماء للولادة أقوى، جاء مفتتح التحول موحياً بذلك/ (أصوتي سوى صوتي؟) حتى جاءت التراكيب هنا متميزة من لغة التركيب وأسلوبيتها في كل القصيدة، ذلك أن كل بيت هنا جاء مركباً من ثلاث جمل فاعلة في إبداع المعنى يتصاعد معها بثُ الانتماء للميلاد؛ في البيت الاول: صوتي يجرّب صيحةً…. هنا مولدي يا فجرُ… قبل خمائلي، فجاء أسلوبية التركيب متناسبة تصاعدياً نحو الولادة: (صوت، ميلاد، فجر، خمائل) وهكذا الامر في أسلوبية البيت الثاني: سقوني كي أرتوي فنادتني الخمائل، فكانت ألفاظ: (السقيا، الارتقاء، النداء، المناهل) هي الفاعلة في إنتاج المعنى الشعري أما في ألفاظ: (دمي، بلا حنين) فهي ألفاظ في توجيه دلالة التركيب لما يعزز المعنى (معنى الولادة) ثمأيضاًح التقابل بين الموت والميلاد باتجاه انتماء الشاعر للميلاد وهو ما هتف به بخطابية في ختام المقطع (التحول):

وهو تركيب مفصلي في التعبير عن كون القصيدة بعض سيرة من حياة البردوني، وفي الايحاء بأن ثنائية (العمى/ البصر) فاعلة في البوح بالنص وفي توجيه تراكيبه اُسلوبياً.
وفي التحول الثامن ذي البيتين يصل للمكان والمكين إذ كان قبلهما في (الولادة) مسترجعاً اليوم مشهداً من طفولة الولادة في (قاع جهران ومن عبث الطفولة ولون الشعير القبائلي على أزراره ومسافات جيوبه، ومع أسئلة ألعم (عيبان) وجهل الراهن بطفولة الماضي ثم الالتفات إلى المكين الازلي (شمس الربى) في مغازلتها طفولة كانت، فهذا التحول قائم على التقابل في الزمن بين الراهن البردوني والماضي الذي كان في رحم الطفولة، وهنا يفصح عن خطاب الآخر المباشر بأسلوبية رمزية في المكان (قاع جهران) والمكين (عم عيبان) و(شمس الربى).
أما تركيب مقطع الختام ذي البيتينأيضاً فقد انفتح على خطاب المستقبل الذي يسكنه في تراكيب من تقابل في الاشطر الاربعة بين: شهوة الاعراس والمدفن المسرج ثم الشريان المقطوع والتواصل ثم بين الموت والعلو بالحياة ثم بين علو المقتول وانتصار القاتل. بما بدت تراكيب القصيدة مأهولة التقابل في بنياتها الأسلوبية.
5- بنية المستوى البنائي:-
تخضع القصيدة المؤثرة لبنية خاصة تتحكم فنياً بكيفية بنائها من المطلع إلى الختام، وإذا كانت مكونات القصيدة الافقية من المعجم إلى الايقاع إلى التصوير إلى التركيب إلى المعنى الشعري قابلة للقراءة المجزّأة فإن المكوِّن البنائي لا يمكن أن نقرأه الا عمودياً، بمعنى تأمل النسغالمتحكم بكيفية البناء بالشكل الذي جعل جسد القصيدة يجيء مؤثراً على هذا النحو الذي يتعذر معه أي نحو آخر للبناء، وهو ما يؤشر مدى انسجام الشاعر مع نفسه إلى إبداعه الشعري بين يدي كتابته قصيدته حيث لا مجال للتصنع في بعض اشكال البناء ولا سيما تلك التي يبدو الشاعر فيها غير قاصد عقلاً ذلك، إنما هناك روح شعري يوجهه وفطرة فنية سليمة تأخذ بمجسات أدائه وتلابيب قلبه فيذهب منسجماً معها على هذا النحو من الاداءوعلى وفق بنية من نوع ما تذهب بمستوى البناء وعناصره مذهباً يجد المتلقي معه أن القصيدة ذات تماسك عضوي فني على مستوى البناء.
5- بنية المستوى البنائي:-
وأجد مع قصيدة (تحولات… أعشاب الرماد) أو مراحل من سيرة البردوني أن النسغ المتحكم في عناصر بنية المستوى البنائي هو ما يمكن أن أصطلح عليه هنا بـ(ثنائية المجاورة) أعني تلك التي يكون الشاعر أعني (أنا الشاعر) طرفاً فيها على اُمتداد النص والطرف الثاني جزء يجاور (أنا الشاعر) قد يكون عنصراً لغوياً، وقد يكون عنصراً موضوعياً، بمعنى أنه قد يكون نصياً أو سياقياً، وغالباً ما يتوفر النصي والسياقي في (بنية المستوى البنائي) وفي هذه القصيدة اُجتمعت عناصر نصية وأخرى سياقية، اُتصل الاول منها ب الأداء اللغوي الفاعل في بناء نصية القصيدة تلك المنفعلة بعناصر إبداع شعري، فيما اتصل الثاني بذلك البث الذي يسكن الشاعر قادماً إليه من نفسه كالعمى أو من المحيط الاجتماعي ك الانسان الآخر أو المحيط التاريخي أو المحيط الديني، وقد شكّل الاتجاهان نسغاً فنياً فاعلاً في اكتساب المستوى البنائي تماسكاً عضوياً لافتاً وهو ما يمكن تأشيره في ما يأتي:
-لغة التقفية جرت على نسق واحد من أول القصيدة إلى آخرها يقوم على اُتصال (صوت اللام المكسور) بصوت الياء سواء كانت (ياي المتكلم) أم (ياء الآخر ) وقد غلبت (ياء المتكلم) بواقع اثنتين وعشرين قافية في مقابل ست قوافٍ متصلة بضمير الآخر ، بما بدت القصيدة مأهولة بـ(أنا الشاعر) من أولها إلى آخرها كونه قصد ذلك بدءاً وختاماً:



-لغة الوزن من خلال إيقاع البحر الطويل أضفت على النص تماسكاً عضوياً، أعني هناك خصوصية البردوني في الصدور عن هذا البحر، فليس كل من كتب بإيقاعه جاء بنص متماسك، إنما لغة البردوني في خلال البنيات المجردة (لهذا البحر) جاءت متصفة بكثير من التفرد الأسلوبي تشي به القصيدة كلها ومنها الايقاع الصادر عن البحر الطويل.
– لغة التقابل الدلالي الا ويصدر في جزء منه عن واحد من هذه موصولة بلغة التضاد ولغة التكرار بدت مهيمنة على كلام القصيدة، فليس من بيت الاساليب: (تقابل، تكرار، تضاد) حتى جاء جسد القصيدة مبنياً منها معاً وهو ما أكسب بناءها العمودي تماسكاً عضوياً لافتاً ولعل المقطع الاول يثير اُنتباه المتلقي، وكذلك المقطع الثاني بدرجة أقل. وهذه الغلبة تعبر عن نزعة الاحساس بالمجاورة، مجاورة الذات لأهوائها ورغباتها وجودياً، ومجاورتها للآخر مكانياً وإنسانياً، ومجاورتها للمتغيرات مرحلياً، كل ذلك ينعكس على كلام القصيدة بوصفه (أنا الشاعر) كأن هذه القصيدة مرآة هائلة يتعرى البردوني أمامها جزئياً.
ما كان لهذه الاساليب أو الطرائق أو العناصر أن تكون جزءاً من بنية المستوى البنائي هنا لو لم تسكن غالبة مهيمنة متحكمة بخطاب النص موصولة بكيفية الاداءالشعري عند البردوني، مضفية على النص حيوية النسغ البنائي الممتد بذكاء فني من المطلع إلى الختام، وكأن القاريء أو المتلقي حين ينتهي من قراءة النص بتأمل يجده بيتاً واحداً لأن الروح الشاعرة وروح الاداءالشعري اللتين تغذياته تجريان في اٌتجاه واحد بكثير من التناسب وبثراء من المجاورة، فليس لاتجاه منها حضور طاريء، ثم أن كل هذه العناصر النصية لم تأتِ عن صنعة مصنوعة باُفتعال، إنما عن اُنتماء لتجربة حياة ومعاني يعيشها نبضاً نبضاً، لذا جاء تعبيره شاعراً بتلك التجربة كاشفاً عن تلك المعاني، موجوداً بها، حتى اكتسب البنيات النصية حضورها في المستوى البنائي العام.
أما العناصر (السياقية) التي نبتت في تربة النص واُمتدت جذورها في كل جسد القصيدة وأضفت على مستواه البنائي تماسكاً عضوياً فهي ما يمكن تأمله في مقاطع أو تحولات القصيدة بكثير من تناسب وتسلسل جعل النص ينمو عضوياً من بدء مناسب لينتهي عند خاتمة هي المعنى الشعري الكاتب النص (شاعره).
-توزعت القصيدة على تسعة مقاطع هي في الباعث على القول كما يشي بها العنوان (تحولات) ليست من (أعشاب الرماد) إنما من سيرة البردوني وقد اُستعار لفظ (أعشاب الرماد) للتعبير عن مراحل أو مسافات حياته، اُستعارة إحساس وليست نبض واقع، وكأنه يقول لحياته: (إني لما أنزل الله عليّ من خير فقير) فلم تحترق حياته كأعشاب رماد، كما يصرح إنما هو موصول بطموح أكبر مما يعيشه واقعاً، الحقيقة التي ينشدها غير الواقع الذي يعيشه، لذا تراه يستعير هذه القسوة: أعشاب الرماد واقعاً كونه مسكوناُ بـ(ماء والحياة) حقيقة، ولكنه لا يلمس تدفقه بين يدي واقعه. لذا جاءت التحولات في شكل مقاطع حيناً أو وحدات شعرية في بنية القصيدة أحياناً أخرى، وقد خضع تسلسلها لأسلوب متصل بإحساسه لا بعقل البناء الفني، ويكون الامر إحساساً دقيقاً بالغ التأمل فقد تتابع بناء التحولات بما جعل بعضها يصل بعضها الآخر ، بمعنى كان المقطع الاول يكتمل في الثاني الذي يكتمل في الثالث الذي يكتمل في الرابع وهكذا حتى جاء البيت الختامي جواباً شعرياً للمطلع، وإيجاداً بما ذهبت إليه أحاسيسه هناك بين يدي المطلع.
ثم أن غلبه البيتين على شكل المقطع في المقاطع: الرابع والخامس والسادس والثامن والتاسع يشي من جانب بعيد بقوة حضور (الثنائيات) في الاداء الشعري، ولا سيما أن أسلوب بناء المقطع ذي البيتين مأخوذ بهذا المنحى، وهو ما أضفى على كيفية تتابع المقاطع تماسكاً عضوياً.
-عتبات البناء المرسومة كتابياً أو خطياً موظفة للتعبير عن المعنى، جزءاً من بناء النص، توظيفاً لافتاً للنظر، وأحسب أن البردوني كان يوجّه كاتبه بها فهو بصير يتعذر عليه الخط بيده، بما يجعله يجتهد في أن يأتي النص مكتوباً ليس نقط ب الاحرف التسعة والعشرين (من الهمزة إلى الياء) إنما اُشتغلت علامات الترقيم جزءاً في التعبير أولاً ثم في البناء ثانياً، ولعل النقاط في بياض الورقة بين الكلمات وعلامة الاستفهام وكذا التعجب أوضح العتبابات الكتابية، ولكن النجمات الثلاث التي رسمها بين المقاطع أو التحولات بأسلوب واحد هي أوضح العتبات المرسومة خطياً، وقد جعلها علامات في أبعاد القصيدة ذات المسافة الواحدة، ليجعل بصر المتلقي يقف عندها في تأمل خصوصية كل مقطع وأسلوبية تناسبه البنائي مع المقاطع الآخر ى، وهو نهج يلجأ إليه بعناية فنية كل شعراء القصيدة الحديثة الكبار.

6- بنية المعنى الشعري:

مما يتميز به أسلوب إبداع المعنى الشعري ذلك الحضور الفاعل لـ(أنا) البردوني؛ روحاً ومعاناة وعاطفة وتجليات، وتوقاً إلى الايجاد وليس مجرد وجود عابر. وعلى الرغم من صدور المعنى الشعري عن أساليب بيانية عالية، وإنزياحات يغلب عليها الرمز الا أن البردوني موجود في نبض الكلمات وإذا كان الأسلوب من صنع الانسان نفسه كما قال (بوفون) فإن المعنى الشعري من إبداع الذات الشاعرة نفسها. وأجد أن صدور البردوني عن البصيرة قبل البصر المباشر الذي يفتقده هو ما جعل فاعلية الخيال أكثر ازدهاراً لأنه بين يدي البصيرة ينجز؛ البصر والرؤى و الاخيلة، ويبتكر للمكان أبعاداً وللزمان مسافات نسبية يراها بوجدانه، ولذلك يشعر المتلقي بعد أن يقرأ هذا النص مراراً وتكراراً، أن المعنى الشعري ظل للأشياء مبينا حينا () ، وشيء يحاول أن يكون موجوداً، وقد تتأمله حضوراً إنسانياً كاملاً أو شيئاً يكشف عن حضور إنساني كان أو سيكون، قد نجده موجداً للمدعي الانساني أو كاشفاً عنه، أو تقرؤه معاني تتجلى في صياغات متعددة تتعذر أن تحيط بها قراءة أحُادية ذلك أن المعنى الشعري يستدعي قراءة كاملة أعني قراءة تكشف عن إنسان يوجد الحياة في لحظة معينة، في نص معين، المعنى الشعري قبل الكلام قوة ولكنه بعد الكتابة فعل، وهو قبل البوح: فكرة أو مضمون لو مغزى أوهاجس وهو عند استخدام وسيلة لإنجاز المعنى الشعري شكل من فن مخصوص أو فن يتشكل في أبعاد متخيلة يجليها النص الشعري ذلك أن المعنى الشعري عند السطر الكتابي يتجه إلى القراءحاملاً مافيه ليكون هو، أو ليصير إلى قراءات بحسب ما تعبأ به أولئك القراء إذ هو مقصود لذاته، ولما يحمل في آن معاً.
وإذ يصدر المعنى عن الانسان أعني هنا الشاعر يكون فعلاً ماضياً يجد حاضرهُ في كل قراءة ومن هنا كانت القراءةُ هي مستقبل المعنى.().
المعنى الشعري الصادر عن كلام البردوني هو البردوني نفسه، الانسان المثخن بالمعاناة، المنفعل ب الآخر انفع الا إيجابياً، المسكون ب الالفة، المكتنز بالبساطة، الثري بالمحبة، ولهذا يجيء المعنى الشعري (البردوني) في صورة إنسان هو الشاعر نفسه، إنسان له ما يشبهه ظاهراً ولكن ليس له ما يشبه باطناً، فهو شاعر مسكون بـ(باطنيته) الالفية جداً، و الانسانية جداً