عبدالرزاق الربيعي
عبدالرزاق الربيعي
إذا كانت الرواية فنّ تتبع مياه النهر في مجراه من المنبع للمصب، كما يقال، من حيث أنّ العمل الروائي يستوعب الكثير من التفاصيل، والأحداث، ودقائق الأمور، فإنّ رواية الكاتبة العمانية (عزّة الكمياني) الصادرة عن (كنوز المعرفة) الأردنيّة، جسّدت هذه المقولة بشكل جليّ، فقد أخذت القارىء في رحلة عبر الزمان والمكان، فتجوّل بنا بطلها (فارس) في مسقط، ونزوى، وزنجبار، وجلاسكو ببريطانيا، وتايلاند ، والعديد من المدن، منقّبا في ذاكرة تلك الأماكن، عن ماضيها، وأسرارها، وعاداتها ، وتقاليدها، وأساطيرها الشعبية، لأن البطل يؤمن بأن “للأماكن ذاكرة” و “وحدها الأماكن تحفظ التاريخ جيدا”، منتقدا كتب التاريخ التي يرى أنها “ربما تكون فيها الكثير من الأخطاء بحسب أهواء كاتبيها”.. فهي “متخمة بالأكاذيب” كما يقول، وحين يرحل إلى (زنجبار)، مرافقا لـ(مسعود) الذي به خبل، وهو قريب صديق له، يبحث عن زوجة له ، فإنّه يجد خلال تجواله فيها فرصة لسرد صفحات عديدة من تاريخ الوجود العماني هناك، ويتوقف طويلا عند الانقلاب الدموي الوحشي الذي جرى في يناير 1964 وراح ضحيّته آلاف العمانيين، الذين “لم يهتم أحد بتسجيل عددهم ، قيل ستة آلاف ، وقيل خمسة، وعشرون ألفا، وقيل خمسون ألفا كلهم سقطوا في الإنقلاب المشؤوم الذي حدث في ليلة مروعة جدا”، كما يدون البطل، فتتوقف دائرة السرد لندخل دائرة واسعة من دوائر التاريخ، الذي يمتد على صفحات عديدة، حتى أنّ الكاتبة ذكرت في ص 347 من طبعة الرواية الثانية الصادرة عام 2016 م المراجع التاريخية التي استندت إليها، وكأنها تكتب بحثا تاريخيا، علميا، هذا البحث في ذاكرة الأمكنة يشغل الكاتبة (عزّة) كما رأينا في روايتها الثانية (اغتراب مرير) الصادرة العام الماضي أيضا، التي استندت إلى ( قصة واقعية مع بعض الخيال وتحوير بعض الشخصيات حتى لا يعرف أصحابها) كما تقول في ص(5) ، والملاحظة تشبه العبارة التي صدرت بها روايتها( عائد إليك) “الشخصيات الواردة في الرواية بعضها حقيقي في الجانب التاريخي، وبعضها من الخيال، فإن تشابهت مع أسماء من الواقع، فهي من قبيل المصادفة لا أكثر”، وقد وضعت في (اغتراب مرير) هوامش تشير إلى مراجع استندت إليها، وهذا يؤكد نهجا اختطته الكاتبة يتمثل في التركيز على قراءة التاريخ العماني، قراءة مكثفة قد تطغى على المدونة السردية في بعض المواضع التي نجد فيها اسهابا في المدونة التاريخية، وكم كنت أتمنى أن يكون ذلك جزءا من سير الأحداث، ذائبة في وعائها، فتنصهر بها، فلا يشعر القارىء أنه يطالع كتاب تاريخ، كما تهيّأ لي في بعض مواضع الرواية التي تتكىء على حدث مركزي يتمثل بتعرض بطلها( فارس) الطالب الجامعي إلى حادث مروري أليم بعد ليلة ساهرة أمضاها مع أصدقاء، أحدث نقلة في حياته، جعله يعيد ترتيب أوراقها، فيكتب مذكراته التي هي أشبه بالاعترافات، بكثير من الألم النفسي الذي يتعاضد مع الألم الجسدي نتيجة الحادث الذي سبب له كسرا في القدم، وجراحات أخرى لن تندمل “آه مما حدث ، آه من الحياة حينما تحجز لنا مقعدا للألم والحزن ، آه منها حين تحجز لنا مقعدا للذاكرة”، ساردا الكثير من الأحداث التي مرت به، والأماكن التي سافر لها، والأشخاص الذين قابلهم في تلك الأماكن، فيشعر القارىء أنه يتصفح كتابا من كتب أدب الرحلات، باثا الكثير من الرسائل، والمواعظ الدينية، والدروس الاجتماعية، منبها إلى الكثير من السلوكيات الخاطئة للشباب، ومن التاريخ ، إلى جغرافيا الأمكنة، والسيرة، والرسائل الأخلاقية، يطوف بنا مركب (عزة محمد الكمياني) في روايتها (عائد إليك) على مدى 347 صفحة في جولة سياحية ممتعة، نافعة، غزيرة بالمعلومات التاريخية، التي تدل على ثقافة وجهد، واهتمام شخصي بتتبع مفاصل ذلك التاريخ، وستكون المادة السردية أكثر متعة لو وظّفت الكاتبة تلك المادة توظيفا فنيا، بحيث تكون جزءا من سير الأحداث، خيوطا في نسيجها، لا نقوشا فضفاضة على قماشتها، واعطاء مساحة أوسع للخيال، في الرواية التي جاءت واقعية، بعيدة عما بلغته الرواية الحديثة من مغامرات فنّية على صعيد البناء ، واللغة، والرؤى، وأنا واثق من أن الكاتبة ستراعي هذا الجانب في أعمالها القادمة.
