أبجد

مستويات السَّرد في “حكايا على ورق من زجاج” لهديل الرحامنة

مستويات السَّرد في “حكايا على ورق من زجاج” لهديل الرحامنة
مستويات السَّرد في “حكايا على ورق من زجاج” لهديل الرحامنة مستويات السَّرد في “حكايا على ورق من زجاج” لهديل الرحامنة

سليم النجار

عتبة ….

في مقدمة كتابها المؤسس (الميتا- سرد: النظرية والتطبيق في الأدب الواعي بذاته) تقول (ياتريشياووه):

ما يتكيء الميتا- سرد على نسخة من مبدأ عدم التأكد لها يزنبرغ، فحواها أنه بالنسبة لأصغر الوحدات البنائية المكونة للمادة، تتسب كل محاولة للرصد في اضطراب ما في طبيعة المرصود. وبالتالي فإنه لا يمكن التحقق من وجود عالم موضوعي مفارق لعين راصد.

لذا يتجلى في المستوى الأعقد من السرد في المجموعة القصصية “حكايا على ورق منزجاج” وهي الأولى لمؤلفتها (هديل الرحامنة)، وليكون كلامنا مفهوما عن مستوى ما من السرد فعلينا أولاً أن نبدأ من حيث انتهت قراءة المجموعة الصادرة مؤخرا عن دار الآن ناشرون وموزعون- عمان- :

السرد هنا يتحقق في ثلاثة مستويات. أبسطها هو مستوى الواقع، وفوقه مستوى الحلم، وفوق الاثنين- وربما في مكان محايد يراهما ويسخر منهما ومن العالم ومن السرد نفسه- مستوى الكتابة !

– المراوغة ليست أخيرة.

أما المستوى الأبسط (الواقع) فإنه يوجد بكثافة في قصتين هما (لوحة ناقصة “تدفق تشرين” ) والرغبة، أهدت الكاتبة ثانيتهما الى (والدتها)، وهي في هذه فقط توجد البطلة البسيطة التي لا تقف لتفكر في أفعالها ثم لتفكر في التفكير أكثر مما (تفعل) ! فقط في ( الرغبة) يوجد ما يشبه (الراوي الحليم) الذي لم يمنحنا قصر القصة فرصة للأطلاع على كل ما يحمله – وربما لهذين السببين- وربما لسبب آخر لا أعرفه – وربما ليكون هذا القصر شكلا من أشكال التواصل مع طريقة راسخة في السرد سلكها الأباء الراحلين كإبراهيم أصلان وخيري شلبي وغيرهما للتعبير عن هموم البسطاء في نصوع يتناسب ونصوع خبرة هؤلاء البسطاء بالحياة، ولتكون في الوقت ذاته إعلانا عن تدشين سرد جديد في غير هذه القصة، وتعتزم الكاتبة أن تسلكه بعيدا عن طريق الأباء: (- كم مرة كررت تلك الكلمات، وهذا الماء- وهي تزيح الكأس من أمامها باستخفاف ولا تكاد حتى أن ترفع عينيه عليه- هناك طعم غير مستساغ بالماء هل العلبة مفتوحة، أم أن الكأس غير نظيفة!؟) ص45.

في (لوحة ناقصة “تدفق تشرين”) يوجد واقع أيضاً لكنه واقع النخبة المثقفة / المعقد بالضرورة. العنوان- بما له من دلالة في الوعي الجمعي تفترض وصولا الى الحكمة واقترابا من عتبة النبوة المنصوبة على سن الشباب- يتراسل مع المحتوى المقسم الى مقاطع متفاوتة الطول، تصف لحظات مختلفة من الحوار الدائر على صفحات القص بين شخصيتين ربما يكون أحدهما مجرد آخر خيالي جردته الكاتبة من ذاتها. المهم أن الحوار يصل دائما أشخاصاً الاحتفاء بالحيرة والركون الى الكآبة: (- هل ننتظر قليلا لحين توقف المطر، أم نفعلها و نغرق بالبلل؟ عليكِ أن تكوني متمردة، فتقرري ما لا يجب القيام به.

– أهذا هو التمرد، أم أنه عصيان فقط!؟ ص16) .

فهنا اللايقين هو النبوة المرتبطة بسن الشباب التي وصلت اليها البطلة فهي نبوة غنوصية أو سالبة. وإن جاز التعبير، ربما تمتاح من بئر الإرث الغنوصي الحائر الموجود في مدارس التصوف ولا سيما الإسلامية (كالدعوة التي ينسبها ابن عربي الى النبي عليه الصلاة والسلام والتي ترفض نسبتها فرق إسلامية كثيرة: “اللهم زدني فيك تحيرا ). ولا يمكن إغفال تراسل حالة الديالوج القائمة في كل المقاطع مع الدعوة القرآنية للتفكير:” قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا” إذ إنها ربما تخلق في الملتقى استعدادا للتحاور مع النص وتأهبا لتجريد آخر من نفسه على غرار ما يمكن أن تكون الكاتبة قد فعلته .

مستوى (الحُلم) يضم نصوص متتالية هي (اتفاق/خضرة مدهشة/ الشيء الذي حدث / إنسان

تعمدت الكاتبة في الأوليين الى الديباجة الأشهر لسرد الأحلام : ( وهناك ثلاثة أشياء تصنع الذاكرة، وتختلق الواقع، وتشكل الروح لتصير الحكايا كاملة، لا يمكن إقصاء أي منها عن وجودنا واستمرارنا وهي المدينة، والفصول والجسد،ص7). ثم تغلفها فيما يتلوهما، …لوازم أسلوبية بعينها، وفانتازية صارخة في بعض الأحداث تحيلنا الى عالم الأحلام. فمن اللوازم المشار إليها التفكير المصاحب للمفردات الأساسية في الحدث: ( هي عمان، بكل مكان فيها طعم شهي، ولذة ما يصعب علينا أن نجتمع فيها، لكننا لن نختلف، ص13). وهو ما يضفي ابهاما حُلميا على الأحداث من البداية. أما الفانتازية فكما في الحدث (الشيء الذي حدث): ( هل ترسميني!؟ هل نخرج معاً!؟ لدي أقلامكثيرة و ورقة بحجم لوحة، كل شيء جاهز إلا أنتِ! ص 15) في تقديري أن هذه النصوص هي محاولة من الكاتبة للإفلات من قبضة وعيها المفرط بالكتابة ( والتي سنتحسسها معاُ بعد قليل)، فهي تسلم نفسها لطزاجة الخبرة الحُلمية دون تدخل منها فيما يبدو، وتدعنا نطلع على همومها الشخصية للبطلة في القصة دون أن تُنضجها نار القلم إذا جاز التعبير، والتي من بينها بالتأكد السعي للوصول الى مشترك إنساني رحب مع المختلفين فكريا كما في ( إنسانية) ، والحيرة أمام حماقة الجنس البشري وعنفه المفرط كما في (العشق) ، والهم المكاني الأني كما في ( الشيء الذي حدث) حيث تقول: ( ابتسمت وهي تسترد إحساسها برجل يعجبها، الوقت في الأربعين ليس صغيراً حتى يكتفي بالحب وحده، إنه كبير بالقدر الذي عليه أن يعجبك أولاُ و أخيراً ص14) .

مع متابعة مستوى (الكتابة) نجد الإحالات الى نصوص أدبية عالمية مؤثرة أكثر تجسيدا وصراحة، ففي (الشريرة) تحيلنا القاصة الى مسرحية (أميديه/أد: كيف نتخلص منها) ل (يوجين أونسكو ) في بداية القصة، وترسم موقفاُ مشابها لكنه يلفت أنظارنا إلى أن الكاتبة البطلة هنا تعرف من أين جاءت فكرة الشر بخلاف أونسكو. في تقديري أن هذه الجملة البسيطة تحمل إشارة الى إرهاصات تيار في الكتابة الأدبية/ المسرحية ربما يكون من اللائق أن نسميه ( ما بعد العبث )، يتشارك مع تيار العبث في وجود الحدث العبثي، بخلافها تُقر بمعرفة جذور ذلك الحدث، حيث يتنحى السؤال المعرفي تماما ( من أين ) لتفسح المجال للوجودي (ماذا نفعل الآن). وفي تقديري أن هذا التيار (ما بعد العبث) هو بالضرورة أقل تشاؤمية كما أنه ربما يحصر العبث في ( عبث مجتمعي) قابل للتعامل معه، لا عبثا كونيا فوق طاقة البشر، إنها مراوغة بين الخيال والواقع، فالقاصة تدفعنا للسؤال: أهي الكلمات أم أصواتها أم أشكال حروفها أم عاطفتها أم جنونها؟

أنثى السيرة ….

أهم ما يلفت الانتباه في حكايا على ورق من زجاج” أنها تتحدث عن ذاتها عن عائلتها عن جيرانها وهي في كل ذلك تلتقط مشاهد حية من المجتمع تمثل

الثاني هو دور المرأة التي يتأرجح وجودها بين الحقيقة والخيال الوعي السائد وتعبر عن أسلوب في الحياة وطريقة عيش في مجتمعا ولذلك نجد هديل الرحامنة تفاصيل حياة حياتية مثيرة.

لا يفوتنا أن نلقي الضوء على ثلاثة أدوار مهمة تلعبها المرأة بين أدوارها المختلفة في هذه المجموعة. الأول هو دور المحرضة المغوية في (لوحة ناقصة ) حيث الجميلة التي وسوست بشكل ما للبطل المتخيل أن يعيش في حلمها :(اختلست عيناها عليه مرة أخرى وهو ما زال ينظر إليها، لم يزغ أحدهما عينه عن الآخر، حتى بمرور الجميع بين المسافة التي تفصلهما،ص10 ) وهي امرأة لا تظهر في الحقيقة إلا مرة واحدة قصة “المكان” كأنها (هتشكوك ) مؤنث أن يتحفنا بظهور عابر في أحد أفلامه! المرأة هنا مخرجة المشهد الماكر! : (وأحبك حيث نلتقي، وألتقيك حين أحبك…وأيار فصل المكان الذي يقرر قلبك ويعيد اكتشافك ص10)

، وهي ابنة الضباب صاحبة المكان/ العشقية السرية العمانية، للفصول في ( شارع لا يعبره الغرباء) والشارع المقصودة هنا هنا القلب، المتعارف عليه، عند المرأة، أن قلب الرجل شارع، يسير فيه كل من ترغب من النساء: ( وهل يخاف الرجل إلا من قلبه على قلبه، هو فعل امرأة واحدة، تلك التي يجعلك غيابها تؤمن بالغولة وتعتقد بالوحش وتخيفك تفاصيل العتمة، ص113).

إنها المحور شديد اللطف لدوران أحداث هذه القصة، حتى أنها للطافتها وافتقارها الى الجسد يذكرني بمفهوم (الاختلاف المرجيء) عند (دريدا) ! السياق يفرض هذا التركيز في الحقيقة، لأنها كالاختلاف المرجيء في فلسفة دريدا – تمنح الأحداث حق الوجود دون أن يكون لها هي نفسها وجود ملموس!: (لم أسألك مرة ما معنى اسمك !

قالت له: – قبل أن تناديني به أم بعد ذلك !؟

لا أحد يأتي عبثاً عندما يكون هو من يصنع الصدفة و آذار حديث المدينة، ص117) . هذا ما طرحته في قصتها “حنكة الضباب” .

الثالث هو دور البطلة (أي كان اسمها) في جميع قصص المجموعة حيث تبدأ شخصية عائمة ابتكرتها القاصة بديلا عن شخص ذكر ( أي كان اسمه ) و تندرج في التجسد حتى تثور في النهاية على مبدعتها (هديل الرحامنة) وتقرر لنفسها حق اختيار الوجه الأنثوي التي تريد، لتدفع شخصايتها الى أن تدير جدلاُ حول حدود الاختيار بينها وبين القاصة وبين القدر، وكأننا في نقاش حول مستويات الخلق، وهو في الحقيقة نقاش يحتدم بالضرورة في عالم الميتا- سرد كما تخبرنا ( الشخصية الأنثوية ) في قصصها جميعاً، ولا يخفي هذا الوصف للمرأة لهنريك إبسن حيث تثور المرأة على وضعها الاجتماعي. أما هنا، فان (المرأة) تتجاوز ما فعلته في عالم (إبسن) وتتصالح ضمنياً مع وضعها الاجتماعي حيث تقرر ألا تترك الرسالة الى مجتمعها وتهرب منه، بل تناقشه، لكنها تبدأ ثورة اهدأ ربما على تراتبية كونية وجدت نفسها محكومة بها كشخصية مخلوقة في قصة (حنكة الضباب) غفل من الأسماء (فأسمها ببساطة: قصة قصيرة ) !

هذه رؤية قصصية أنثوية متشابكة محيلة الى ذات المرأة.

يتحقق فيه السرد على مستويات عدة، أبسطها الواقع و أعقدها الإمعان في الكتابة للهروب من ضرورة مجابهة الواقع، ورغم سطوة وعي الكاتبة بذاته و بموضوعية، يؤصل لديمقراطية ما من خلال منح السلطة التقليدية التي تقاومها فرصة التعبير عن نفسها. حاولت الكاتبة ان تستمتع بموسيقى فرحة لليلة قصيرة، لكن ميلودرامية العالم لم تسمح لها بذلك، فأمعنت في الكتابة، ولم يبق لنا من الزجاج إلا إسمخ، ماثلا أمامنا في العنوان !

الحب بوصفه حبا مغايرا

تقول المجموعة القصصية ” حكايا على ورق من زجاج” إن الانسان إذا ملك القدرة فإنه يسيء استعمالها لتنمو بنسبة أكبر من نسبة نمو الحكمة، وهذه هي مأساة الانسانية.

إن سليمان الذي سخر الله له الجن والإنس والرياح وكل القوى الطبيعية لم يستطع أن يجذب إليه قلب بلقيس، لأن القلب البشري كما رأى توفيق الحكيم هو الأعجوبة العظمى، حيث لا تحب بلقيس سلمان بقدر ما تحب أسيرها منذر الذي لا يحبها وانما يحب وصفيتها شهباء، ومهما كانت بلقيس ملكة لها عرش عظيم واستطاعت أن تهزم الأمير منذر و تأسره، فإنها بهذا السلطان لم تستطع أن تثني منذر وتجعله يحبها.

نسوق هذا المثل الضارب في تراثنا العربي، وبالنظر الى حجم ما راكمته السرديات القصصية من إبداعات، على مستوى تثوير النص اتجاه الحب، أثمرت مفاهيم وأدوات تحليلية ساعدت كثيرا في معرفة آليات اشتغال الخطاب، وساهمت في إعادة بناء الدلالة النصية، وطوال مراحل تطورها أبدت السرديات نجاحا مهما في تطويع المفاهيم و تسخيرها لخدمة أغراضها دون المساس بجوهرها الأصلي، وفتحت هديل الرحامنة في قصصها نافذة للسرديات التي تتناول الحب كقضية فكرية، وركزت اهتمامها ببنية المحكي أساسا، على عناصر الزمن والمكان والشخصية والحدث المنظور، لتغطية الجوانب الإنسانية الأساسية: ( في الأربعين لا يحتاج أحدهما أن يثبت بطولته، فالبطولة لا تعود تمارس في السرير، بل على الأريكة، في الأماكن الضيقة الصغيرة، الجسد ليس هو سيد الموقف، انه بالعمر الذي يبدأ به بالتنازل عن سيادته لأشياء أخرى، يصير مواطنا له حقه الذي يشتهيه فيحصل على متعته الكامنة، ص21)

كما أن نصوص الرحامنة السردية لا تعدم وجود انفلاتات الخيال، كما أن المادة التي تقترحها ، تدخل بالأساس ضمن إطار المتخيل: ( أنتِ من تصنعيه، إذاً يتحتم عليكِ أن تملئيه، التفاصيل أماكن ممكنة، إما مفقودة فلا شواغر فيها حتى نفتقدها، إما موجودة تفرغ عند الغياب، فتصير شاغرة،ص82) .

وهذا ما يجعل قصص الرحامنة تتميز بالبعد الخيالي المحض، بكونها مزدوجة القيمة، فهي من جهة تعرض حقائق ومشاهدات من صميم التجربة الإنسانية،: ( وردة بلاستيكية، قالت له حينها لماذا لم تحضرها طبيعية؟ فأجابها: حتى تبقى حية. فقالت له: لكنها ميتة! فقال لها: الموت حالة أبدية، هو الحي الوحيد بيننا لأنه لا يموت ولا يهتريء ولا يرحل،ص104).

مع هديل الرحامنة ……لا أقرأ حروفا وكلمات وجملا أنيقة ورشيقة على الورق، بل أقرأ أحاسيس ومشاعر، لا تقوم الكاتبة بالتعبير عنها بل بالتخلص منها- على حد قول اليوت!!

والسؤال: أهي في سردها تكتب حياتها داخل عمان أم تكتب عمان داخلها؟

” حكايا على ورق من زجاج” شهادة

  • كاتب وناقد من فلسطين

جريئة على وطن ينتظر بزوغ الشمس، لا تهدر ضوءها، ولا تربك هندسة خيوطها ضحكات غيم غادر!!!

مستويات السَّرد في “حكايا على ورق من زجاج” لهديل الرحامنة
مستويات السَّرد في “حكايا على ورق من زجاج” لهديل الرحامنة مستويات السَّرد في “حكايا على ورق من زجاج” لهديل الرحامنة
Your Page Title