الدكتور رجب بن علي العويسي-كاتب ومؤلف وباحث في التنمية والأمن الاجتماعي والتطوير المؤسسي والفكر الشرطي والتعليم
مع الجرم بأن التعليم ليس العصا السحرية الوحيدة، التي بمكن خلالها بناء قدرات وطنية لتحقيق الاكتفاء الذاتي لسوق العمل، لكون الأخير عملية متغيرة كثيرة التحول؛ إلا أن دوره يبقى الأساس في رسم موجهات أساسية مشتركه لكل المهن والوظائف، بما يضمن بناء فرص الدافع للعمل والإنتاج، وفهم الأنظمة واللوائح والتشريعات، والتعامل مع معايير وأدوات وأطر تحقق مستويات التمكين والاستيعاب للتحولات الحاصلة في سوق العمل ، قائمة تتسم بالكفاءة والفاعلية، فان مؤشرات واقعنا المعاصر تضع التعليم أمام مسؤولية تأصيل البناء الفكري والاخلاقي الداعم لمفهوم الانتاجية، والذي يتعدى حصره في مخرجات تتجه مباشرة لسوق العمل، عبر ترسيخ مسارات الإيجابية لديه في الحياة، من خلال قدرته على تقدير نفسه وفهم وتوظيف ملكاته الفكرية والمهارية، وصقل البعد الوجداني والنفسي والعاطفي لديه، وتهذيب المشاعر والأحاسيس، وترقية أنماط التفكير خارج الصندوق، وإيجاد معالجات ترتبط بالتعامل مع حالات الفشل والإخفاق، والضعف والوهن، والسلبية وحالات القلق، والخوف من المستقبل وعدم الثقة، والتي يبدوا أن التعليم بحاجة، إلى أن يضعها في قائمة أولوياته لبناء الانسان الواعي، والعامل المتقن، والموظف المبادر، والمسؤول المخلص، والقيادي الناجح، بالشكل الذي يمنحه قوة الإعداد لتحمل أعباء الحياة، المتسعة الطموحات والغايات، وليتمكن من دخول سوق العمل كعامل نجاح ومصدر تأثير، لزيادة الإنتاجية، وتقليل الرتابة والروتين، والقضاء على حالات التكدس الوظيفي، أو الترهل في العمل، وتحقيق معايير العمل وموجهاته الوظيفية والمهنية بجدارة عالية، وبالتالي كان على التعليم أن يبني هذه الموجهات المستدامة في سلوك المتعلمين، ويؤصّل فيهم مفهوما أعمق للإنتاجية المعززة بدافع العطاء بلا حدود، والعمل بلا توقف، إذ من شأن ذلك كله، أن يسهم في فتح الطريق لتعدد البدائل، والتنوع في طبيعة المهام، وزياده في المعروض والمنتج المقدم من الوظائف، بالشكل الذي يصنع من المواءمة المتوقعة، استراتيجيات أوسع في سياسات الدولة التعليمية، تتجاوز مجرد توافق طبيعة التخصص مع نوعيه الوظائف أو المهام أو التكاليف الوظيفية؛ إلى كونها استشعار الفرد بقدرته على التعاطي الإيجابي مع محددات الواقع والمنافسة فيه، عبر تعدد المشاريع والمبادرات، وتعميق قيمة التعلم كنمط حياتي متجدد، وفرصة لتقوية رصيد الانتاج والعطاء، دون النظر الى نوعيه الوظيفة وحجم الراتب الذي يتحقق منها.
من هنا شكّل البحث في مسألة المواءمة واقصاء المفهوم وتحجيمه في هذه الزاوية فقط، تهديدا للسلم الاجتماعي الوطني، وتحديا أمام التعليم، وضعه في موقع المتّهم الوحيد في قضية السلوك والقيم والهوية والانتاجية، في ظل تزايد أعداد الباحثين عن عمل، والمنتظرين للوظيفة الحكومية أو المكتبية، مع وجود فائض في بعض الوظائف في القطاع الخاص والحكومي على حد سواء؛ وهو ما يضعنا أمام محددات وسيناريوهات جديدة وأطر تصحيحية، علينا البحث عنها واكتشافها، عبر مهارات الخريجين وقدراتهم، وجوانب القوة في أدائهم ، وإيجاد فرص عمل متجددة تضمن استيعاب هذه الكفاءات وتعميق صلتها بها، واثبات وجودها عبر تبنيها لأنشطة وممارسات منتجة بديلة، لها قيمة مضافة على الانتاج، وعوائد اقتصادية تضمن لمفهوم التعليم المنتج الاتساع والحضور في واقع الممارسة التعليمية بالمدارس والجامعات، وكان علينا معالجه هذه الأفكار والقناعات السائدة، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، المتداولة في المنتج التعليمي بشكل يضع جودة التعليم وقياس نواتجه متسعة للمحددات الواردة في معرض تقرير ” أمة في خطر”، يضاف إليها التعليم القيمي للتسامح والتعايش في ظل اختلاف، باعتبارها معادلة تقرأ التعليم في ظل تقييم لنواتجه وتصحيح لمساراته، ونعتقد بأن أولوية التعليم، يجب أن تتجه بالاضافة إلى ما أشرنا إليه؛ إلى تعزيز وعي ولي الأمر والمجتمع بمفهوم العمل المنتج، وتوضيح الصورة له حول العمل الحكومي، ومنح العمل الخاص قيمة نوعية في استراتيجيات التنمية، والبناء الفكري الاجتماعي، وأنّ التعليم لا يمكن أن يحقق هذه الغاية؛ إلا في ظل موجهات أخرى داعمة، قائمة على التدريب والوعي والاستيعاب والقناعة والتصحيح والشراكة والتكامل، والتنويع في المسارات التعليمية منذ السنوات المبكرة للدراسة، بما يتيح مزيدا من سيناريوهات المعالجة النوعية لهذا الملف، ويقيه حجر عثرة المساومة وحدة الاختلاف.