أثير- د.عبدالله عبدالرزاق باحجاج
تمر بلادنا منذ منتصف عام 2014م، بتحول جوهري في دورها التاريخي ، من دور ريعي يعتمد على النفط كمصدر وحيد أو أساسي إلى دور جبائي ، يعتمد على الضرائب والرسوم ورفع الدعم الحكومي عن المجتمع ، وبالتالي ، هل ينبغي أن تكون علاقة المجتمع بالدولة – الحكومة – قائمة كما كانت في الدور الريعي أم أن هناك حتميات يفرضها الدور الجبائي الجديد للدولة ؟ وما هي طبيعة هذه الحتميات ؟
الباحث والمطلع في تاريخية العلاقة بين الدولة والمجتمع ، وماهياتها التي تأسست منذ عام 1970 ، إبان الانطلاقة المباركة للنهضة العمانية الحديثة ، وخصوصيات البنية المجتمعية ، وتجذراتها التاريخية ، سيجد امامه ، الخيار الذي عنونا به مقال اليوم .
وأهم التساؤلات التي يطرحها هذا العنوان تدور حول تلك الحتمية الثنائية ، وبقوتهما التناسبية ، التي ربما لم تكن مسبوقة في تاريخنا الحديث ، ولماذا الان ؟ فقبل عام 2014 ، لم تكن هذه الثنائية مطروحة ، فكيف تطرح نفسها الآن بإلحاح ؟وفرضيتهما تكمن كذلك ، في آنيتهما وفي تزامنهما وتوازيهما ، وكذلك تكاملهما المتناغم الطبيعي .
وتلكم الأخيرات شروط وجوبية ، لابد أن تتحقق حتى نضمن أن تكون النتيجة طبيعية في معادلة القوة الثنائية ، لكن ، ما هي ماهيات وخصائص القوة المجتمعية ؟ في المقابل ، التساؤل نفسه يطرح بشأن الميزة التفضيلية لقوة الدولة – الحكومة – ؟ ولماذا ينبغي أن تكون هذه القوة فوق القوة المجتمعية ؟
نطرح هذا الموضوع الان كمبادرة منا لفتح نقاشات معمقة حول ماهيات الدولة والمجتمع في ظل تحولات ومتغيرات تطرأ بصورة تدريجية ، لكنها ستأخذ منذ عام 2018 ، تصاعدية ملموسة دون تهيئة المجتمع نفسيا ومؤسساتيا لمواجهة تداعيات التحولات والمتغيرات .نطرح هذا الموضوع الان كمبادرة منا لفتح نقاشات معمقة حول ماهيات الدولة والمجتمع في ظل تحولات ومتغيرات تطرأ بصورة تدريجية ، لكنها ستأخذ منذ عام 2018 ، تصاعدية ملموسة دون تهيئة المجتمع نفسيا ومؤسساتيا لمواجهة تداعيات التحولات والمتغيرات .• الاتفاق المجمع عليه :
ربما علينا الاتفاق من البداية ، ان الماهيات المختلفة للدولة والمجتمع التي انتجتها المرحلة الممتدة من 1970 وحتى منتصف عام 2014 – أي في دور الدولة الريعي – تحتم المراجعة والتقييم العاجل ، ويحتم في الوقت نفسه ، ادخال اصلاحات جوهرية في بعض الماهيات حتى تتلاءم وتتواكب مع ما تنتجه التحولات والمتغيرات ،، الصيرورية ،، من معطيات حتمية غير مسبوقة شكلا وجوهرا ، وقد بدأت ملامحها تظهر لنا بصورة واضحة .
• الخيارات الاخرى المتاحة:• الخيارات الاخرى المتاحة:ولدواعي ترسيخ القناعة بتلك الثنائية المتلازمة والمتناغمة ، نستدعي الخيارين الآخرين المحتملين – افتراضا – واللذين قد ينجمان عن المتغيرات والتحولات في حالة عدم صناعة تلكم الثنائية من الان .
هما ، دولة قوية ، ومجتمع ضعيف ، وما هي علامات ضعفه ؟ ومجتمع قوي ، ودولة ضعيفة ، وما هي علامات قوته ؟ وهذا تفكير استشرافي مسبق ، يحاول رسم خارطة ذهنية لكل الاحتمالات المقبلة من منظور كل السياقات دون استثناء .
من هنا نحمل هاجس فتح هذا الملف من منظورنا العماني ، لتوجيه البوصلة نحو صناعة ماهيات مضامين عنوان المقال ، فدولة بحجم بلادنا ، ليس امامها من خيار سوى مواصلة خيارها في استكمال بناء دولتها المعاصرة بسرعة أكبر من السابق ، من منظور تلك الثنائية المتناغمة والمتكاملة وهي ، دولة أقوى ومجتمع قوي ،وهذا هو الصالح لمكاننا ومستقبل زماننا .
لكن تظل القضية محصورة في التساؤلين التاليين : لكن تظل القضية محصورة في التساؤلين التاليين :
س: كيف يمكن استكمال البناء للوصول الى هذه القوة الثنائية المتناغمة والمتكاملة ؟
س : ولماذا ينبغي أن تكون قوة الدولة النسبية المتفوقة؟
والتساؤلان يفرضان علينا منهجية محددة ، سنتناولها في محورين أساسيين هما :
– استفراد الدولة بالقوة في العصر الريعي .
– حتميات الثنائية التكاملية في عصر الضرائب .
******
• المحور الأول :
استفراد الدولة بالقوة في العصر الريعي .
لم تكن ثنائية الدولة الاقوى ، والمجتمع القوي ، مطروحة منذ عام 1970 ، بسبب بسيط ، وهو أن الدولة – الحكومة – كانت لوحدها تملك الاموال والثروات الكافية ، وبالتالي كان حجم إنفاقها شاملا ومتعددا ، على الاقتصاد وعلى المجتمع وعلى الامن وعلى الجيش .. الخ .
وقد كانت اللاعب الوحيد الذي يؤسس ويؤطر وينفق ويحدث ويعصرن كل بنيات الدولة والمجتمع ، وعلى وجه الخصوص في القطاعات الاجتماعية والتعليمية والدينية والصحية والشبابية .. الخ عبر الكثير من المؤسسات الحكومية والرسمية التي كانت تغدق عليها الاموال ، والعامل الوحيد الذي كان يمكن الدولة من تمويل كل اجندتها المختلفة وحماية قطاعاتها الاجتماعية ، العوائد النفطية فقط رغم رفع شعار تنويع الاقتصاد العماني منذ عام 1975 ، الا أننا لم تتمكن من اختراق النجاح المأمول ، وحتى الان .
ولما انفجرت الازمة النفطية عام 2014 ، ووصلت اسعارها الى مستوى (28) دولارا للبرميل ، وجدت بلادنا نفسها على غرار الدول الخليجية النفطية الاخرى ، مضطرة الى اتباع سياسات مالية تقشفية ، والى تبني منظومة متكاملة من الرسوم والضرائب … لمواجهة نقص عوائدها المالية ، وستمضي فيها قدما ، مهما ارتفعت اسعار النفط ، ضمن مجموعة سياسات اقتصادية لتنويع الاقتصاد .
وتشكل مثل هذه السياسات المالية والضريبية والاقتصادية مواد خام جديدة لصناعة اقتصاد جديد ، وبالتبعية مجتمع جديد، ويراد من خلالها للدولة اخراجها من السوق ، واكتفاؤها بدور توجيهي ورقابي ، لا يسمح لها بالتدخل الا في اضيق الحدود ، وعندما يفرض ذلك ، لكن سيكون له انعكاسات اجتماعية خطيرة .
* انعكاسات التحول الاجتماعية .
لها أوجه كثيرة ، سنوجز أهمها في النقاط التالية :
– تحميل المواطنين ضرائب ورسوم عديدة ومتنوعة في ظل ثبات مرتباتهم .
– تراكم اعداد الباحثين عن عمل .
– شعور المواطن بانه وحيد في سوق مفتوحة يحكمها العرض والطلب .
– ضعف القدرة الشرائية للمواطنين .
– انكشاف المجتمع من الكثير من الحماية الحكومية .
إذًا ، ما هو طبيعة المجتمع الذي ستصنعه مثل هذه التحولات ؟ لابد أن نكون شفافين وواضحين في الاجابة عن هذا التساؤل الافتراضي ، وطرحه بهذه الكيفية ، سيبين النتيجة المفترضة للتساؤل المفترض ، وافتراضه لدواعي لفت انتباه فكرنا السياسي الي تلك الانعكاسات حتى يمكن استدراكها ، خاصة واننا لا نزال في المرحلة الانتقالية التي ينبغي أن تفرض فيها برامج تصحيح اقتصادية بأهداف سياسية.
• المحور الثاني : حتميات الثنائية التكاملية في عصر الضرائب .
في مرحلة استفراد الدولة – الحكومة – بالقوة ، رأينا حجم ومستويات قوتها المالية تغطي كل المجالات وبالنسبية ، لكنها نسبية يتكامل معها تدخلات فاعلين اجتماعيين لتغطية الفراغات النسبية ، بحيث من خلاله مدت الدولة مظلتها الحمائية على كل الشرائح والفئات ، بما فيها فئات الضمان الاجتماعي ، وقد بادرت بلادنا قبل غيرها من الكثير من دول عالمنا الثالث الى انشاء وزارة خاصة تعني القطاع الاجتماعي ، هي وزارة التنمية الاجتماعية التي استهدفت الوقوف مع المواطن في ظروفه الخاصة عبر ضمان الحد الادنى لمعيشته ، وكذلك سعت إلى تقديم خدمات الحياة الأساسية للمسنين واصحاب الاحتياجات الخاصة وللأطفال الأيتام ومجهولي الوالدين وأبناء الأسر المفككة من خلال برامج الرعاية المؤسسية في مركز رعاية الطفولة .
لكن ، تقف الدولة الان – الحكومة – في مرحلة لن تمكنها من الإنفاق على البعد الاجتماعي كما كانت سابقا ، والسبب ، كما قلنا ، انتهاء مرحلة اعتمادها على العوائد النفطية ، واتجاهها الى فرض رسوم وضرائب وسحب الدعم بصورة تدريجية عن خدماتها الاساسية التي تمس المجتمع ، وما قطع عيدية العيدين لفئات الضمان الاجتماعي ، الا مؤشر على عدم القدرة الانفاقية كما كانت سابقا، وبالتالي من الطبيعي أن تتأثر الخدمات الاجتماعية للدولة بهذه الازمة النفطية ، وبتوجهات الدولة الضريبية .
• لكن ، ما البديل ؟
البديل لابد أن يأتي من المجتمع نفسه ، فلدية من الوسائل الفردية والجماعية ما يجعله ان يكون بديلا أو على الاقل مسهما فعالا مع الحكومة في تأمين الحماية المجتمعية للفئات المحتاجة ، بل والتنموية كذلك ، والا ، فإن النتيجة المترتبة على ذلك واضحة لنا بصورة مسبقة ، وهي : تآكل المجتمع بصورة متسارعة ، بسبب الضرائب والرسوم ، ورفع الدعم ، ووقف الترقيات والتوظيف ، وانتقاص حماية الفئات الاجتماعية ، وتقليص حجم الطبقة المتوسطة ، وهنا القصد بقولنا ، المجتمع الضعيف ، كنتيجة افتراضية ليس بالضرورة نصل اليها ، لكننا نستدعيها للزوم التحليل الاستشرافي الذي يلم بكل جوانب ما سيكون ومالا سيكون.
إذا ، كيف نصنع المجتمع القوي ؟
نصنعه من إمكانياته الذاتية ، ففي هذه الذاتية من الوسائل الفردية والجماعية ما يمكن من توفير السيولة المالية لتغطية النقص المالي الناجم عن تحويل دور الدولة سالف الذكر ، ومن خلالها يمكننا صناعة قوة المجتمع في عصر الضرائب ، وهي قوة ذاتية معطلة الان ، فلا بد من استنهاضها بوعي سياسي رفيع ، وبنظام تشريعي محكم يضمن انصهار هذه القوة ضمن قوة الدولة ، ويجعل قوة الدولة الاقوى نسبيا بحكم ما تملك من صلاحيات تشريعية وقانونية ورقابية وقضائية، وأمنية كذلك ..الخ وهنا المقصود بميزة تفوق القوة لصالح الدولة أي قوة المؤسسات والقانون ، والقدرة على تجسيدها على الارض .
ولو بحثنا في هذه الوسائل البديلة ، فسنجدها عديدة ومتنوعة ، منها وسائل تطوعية، مثل الوقف والوصية والهبة والهدية .. الخ واخرى الزامية ، كالزكاة ونفقات الاقارب والهبات .. الخ .
ولو توقفنا عن دور الوقف كنموذج لهذه الوسائل التي ينبغي التعويل عليها لتحقيق التضامن والتكافل الاجتماعي كتعزيز وتكملة لدور الدولة ، وحتى كبدائل له ، سنجد في تجارب عربية واسلامية حديثة ، ما يعزز قناعتنا بالرهان عليه الان بالذات .
ففي التجارب التي اطلعنا عليها ، تحول الوقف الى مؤسسة ذات هيكل بنائي محكم ، ومحكوم بتشريع حديث ، يمارس الكثير من الادوار التي كانت الدولة – بالمفهوم المجرد- تقوم بها ، في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، ففي التجربة المغربية ، يسهم الوقف في الانتاج الزراعي ، وتوفير فرص العمل ، وفي التجربة الهندية ، اصبح الوقف يسد الحاجة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الاسلامي ، بما فيه التعليم والصحة والجوانب الدينية
وفي بلادنا ، نحتاج الى تفعيل مؤسسة الوقف لكي تتفاعل مع المرحلة التي تمر بها الدولة ، سواء من حيث اعادة النظر في البناء المؤسسي والتشريعي للوقف ، أو تحديد رسالة الوقف المعاصرة أو حل مشكلات الوقف التي تحتاج فعلا الى معالجة متأنية .
نريدها مؤسسة تجذب الناس اليها ، عبر وقف بعض اموالهم او ممتلكاتهم بكل ثقة واطمئنان الى هذه المؤسسة بدلا من العشوائية والفردانية السائدة حاليا ، خاصة الان بعد ما لاحظنا صحوة وقفية تحتاج الى الطابع المؤسسي والتشريعي الحاكم .
نريدها مؤسسة وقفية لا مركزية ، بحيث تكون في كل محافظة من محافظات البلاد ، مؤسسة مستقلة تحت اشراف الدولة المباشرة ، تعنى بالأوقاف الخاصة بالمحافظة ، واستثمارها ، وتلمس احتياجات مجتمعها المحلي .
نريد أن يكون لها ادارة مهنية ومتخصصة تحل مشاكل الوقف في كل محافظة ، وتعيد النظر سريعا في ايجار الاوقاف الزهيدة وباللآجال الزمنية الطويلة ، نريدها ادارة واعية ، ترفع الوعي المجتمعي بأهمية الوقف كمؤسسة اسلامية اجتماعية استثمارية يمكن ان يكون لها دور رائد في التنمية الاجتماعية والاقتصادية .
واخيرا ، نريدها مؤسسة وقفية فاعلة ومؤثرة في سد الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لكل مجتمع محلي في عصر الضرائب ، من هنا ، نقترح استحداث صيغة تنظيمية جديدة تضع الوقف تحت ادارة أو أمانة عامة تنشأ في كل محافظة لهذا الغرض وتزود بالكفاءات اللازمة في كل التخصصات بما فيها الاستثمارية .. مع تحديث تشريعات الوقف ، وتشديد العقوبات للحافظ على اموال وممتلكات الاوقاف، وجعل كل مديرية عامة للأوقاف والشؤون الدينية مشرفة على الوقف الاقليمي وتحت رقابة القضاء والمجالس البلدية .
تلكم مجرد رؤية سريعة ، تفتح الآفاق لصناعة مجتمع قوي في اطار دولة اقوى ، لمواجهة تحديات واكراهات عصر الضرائب ، وتحصين مجتمعنا من اية تداعيات ناجمة عن تحولات الصيرورة ، والانفتاح على هذه الرؤية من الحتميات الظرفية للصيرورة الزمنية التي ستشكل لنا ملامح المرحلة الوطنية المقبلة ، والانفتاح سيعكس ارادة التحكم في صناعة القوى والديناميات الداخلية ، بدلا من جعلها خارج السيطرة مع ما يتقاطع معها من أيادٍ داخلية وخارجية ، بأجندة غير وطنية , فهل وصلنا الرسالة العاجلة ؟