وجيهة عبد الرحمن: كاتبة سورية كردية
(التجريب وانهيار الثوابت)
سليم النجار
لا يعني لنا مصطل التجريب في الرواية أمرًا يتعلق بعصر ما. فالراوية منذ بداياتها فن قائمٌ على التجريب، بعد أن ظهرت ونمت فوق أطلال التراجيديا الكلاسيكية، مستفيدةً من تدهور مبادئ العظيمة، لتأخد مساحتها الواسعة التي لا تتوقف عند قيدٍ أو شرطٍ متفق عليه.
ومنذ أعمال سيرفانتس ثم دانييل دوفو وهنري فيلدنُج وريشاردس كانت كتابة الراوية تعني تحطيم كل تقلدٍ ممكن.
يستقبل فن الراوية كل التجارب ويستطيع أن يُخضع فصول الحياة اليومية لهذا الجنس الأدبي الفريد من نوعه. إن ما صار يعرف اليوم في فرنسا بالرواية الشيئية أو الموضوعية التي تقف موقف الضد من تراث بلزاك هو تجريب قياسًا إلى ما كتبه بلزاك، لكن ما كتبه بلزاكِ هو تجريب نسبي إزاء ما كتبه والترسكوت. التجريب هو قدر الراوية لا على مستوى التقنية فقط، ولكن على مستوى المضمون أيضًا. ومن الصعب فصل العنصرين الواحد عن الآخر، ولو حدث ذلك لفقدت الرواية الكثير من اعتبارها وأصبحت دون وحدة موضوع ودون عادل موضوعي.
ولا ريب أن نسوق مثال في هذا المجال، هي وجيهة عبد الرحمن، في راويتها الموسومة ” العبور الخامس” الصادرة عن داري الخليج – عمان – بطبعتها العربية – 2017، التي لم تتوقف طيلة سردها الروائي، التوقف عن التجريب.
في العبور الخامس، تكون الساردة الأولى باحثة عن حقيقة ما وعن تاريخ ما، وهي التي تقدم لنا خلال روايتها التي تسردها علينا روايات الرواة الآخرين. والذي يميز بين الساردة الأولى والرواة الآخرين، هي أن الأولى، وإلى صفحتها الأخير … البحث في هذه الرواية هو بحث عن تاريخ كما أسلفنا، وهذا البحث يعني أيضًا بحثًا عن الشخصيات، كلُّ واحدة منها تروي جانبًا من الأحداث تجمع شتاتها الساردة الأخيرة، أي الروائية التي تمتاز عن الآخرين بقدرتها على كتابة الرواية.
وذلك ما يمنح ” العبور الخامس ” طابعًا نسبيًا، فما تقوله أي واحدةٍ من الشخصيات الأنفة الذكر ليس حقيقة مطلقة. وهذا ما تدعو الروائية إلى اقتراح رواية داخل رواية أو إلى رواية تؤطر أكثر من رواية بعد تعددتِ الحقائق والروايات.
ولا يبدو التجريب في هذه الرواية مقصودًا من لدن المؤلفة، إذ أن الشكل المقترح هو الشكل الوحيد الممكن لكتابة رواية من هذه النوع. وهذا ما يجعل الرواية ذات نهاية مفتوحة، فحتى الجهد التي تبذله الروائية، التي ترويه بدورها داخل الرواية – وأقصد الجهد العملي الذي جمع به فصول الراوية بعبورها الخامس – لا يقود إلى النهاية التي قد يتوقعها القارئ وقد تتوقعها المؤلفة أيضًا، لكن جهد الروائية داخل الرواية يقود إلى قدر آخر لم يخطر على بال الروائية (الشخصية) أو على بال القارئ: بينما كانت الروائية تبحث عن تاريخها داخل الرواية، كانت هناك شخصية أخرى، وهي المرأة الساردة التي تتلصص على الروائية وهي تكتب روايتها من دون أن تكون الأخيرة على علم بما يحدث. وبذلك تخضع العبور الخامس من لعبة الروائية نفسها. ذلك أن الرواية حتى صفحتها الأخيرة تقدم المرأة المتلصصة، لا كما تفعل مع الشخصيات الأخرى، فهي شخصية تفلت من زمام الزمن الروائي وتظل لغزًا محيرًا.
ولهذا ختمت الرواية كتبتها المؤلفة بنفسها، وهناك رواية أكبر هي تلك التي كتبها لهذا القدر. فأصبح لزامًا عليها في نهاية المطاف أن تُكيفْ روايتها مع راوية القدر، لتتوقف عند الفصل الأخير الذي يظل فصلًا مفتوحًا، بلا كلمات. لقد اكتشفت الروائية أنها لا تستطيع أن تكتب الرواية كلها، إذ بينما كانت نفسها بكتابة رواية الروايات التي تحتوي على ما رواه الرواة، تتشكل وراء روايتها هذا الرواية.
هذه رواية أخرى وتتضح ملامح شخصية تكونت على هامش روايتها. وبذلك قدمت الروائية في العبور الخامس رواية تجريبية لا تتمثل حقًا لقلم المؤلفة وإبداعها، بل تتمتع بحرية تطور المجهول الذي يظل مجهولًا من الجملة الأخيرة من الرواية.
إذا كانت السيرة الذاتية بحسب فيليب لوجون حكيا استعاديا للكاتب عن تاريخ شخصية وتكونها، وإذا كانت السيرة الذاتية تشترط التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، فإن رواية ( العبور الخامس) هي سيرة ذاتية لكن وجيهة عبد الرحمن تُجنسها (رواية سيرة ذاتية) كما حمل الغلاف للرواية، وفي هذا ما يذكر بضلالة تجنيس الكتابة لكتابتها، كما فعل الروائي المغربي الراحل محمد شكري حين جنّس (الخبز الحافي) بسيرة ذاتية روائية كما حمل الغلاف.
بيدا وجيهة عبد الرحمن تعيش ضلالة التجنيس تلك، وتعزز تجنيسها لـ (على صخرة الذاكرة .. لم يكن عليَّ العودة هذه المدة الطويلة إلى الوراء، كان علي الاحتفاظ بمسافة أمان على أقل تقدير، هذه العادة لم أتخلص منها لن أتخلص، ص 49. وستتولى إلى صيغتا السؤال والمخاطبة مرة بعد مرة، منادية علم النفس إلى الرواية ومنها: ( وإذ أن عقلي الباطني يقظٌ دومًا، تمنيت لو أعطيه حبوب منومة ليكفَّ عن استحضار ما نحره الزمن، ص49.
لعل ما سبق يؤشر إلى أن (العبور الخامس) ليس رواية، وليس رواية سيرية، بل سيرة تتغيا الرواية فيترجح تصنيفها بين السيرة وبين السيرة الروائية، وهل هذا كان مقصودًا من قبل الروائية، التي تتحدث عن قضيتها الكردية، سوريا؟! فمنذ البداية تكتب الكاتبة ” ما ستفرشه من حكايا عبر هذه الرواية يخرج عن المألوف من حيث دفع الأحداث والحبكة، فبمعزل عن هذا الطموح للخروج، وهو ما لما يتأكد، ها هي الكاتبة تصف بالكتاب ما صنفته براوية. وسيعود ذلك حيث تقول: ( أستميحكم عذرًا على جرأتي التي جعلت مني ذلك الحين وحتى لحظة كتابة هذه الرواية وما سيتبعها، إنسانة ناقمة على السياسات والأنظمة والأعراف، وكل الوصوليين الذي ينبثقون من جوف الراهن الذي لا نملك سواه، ويتملقون للصالح الشخصي ص8).
إنها محاولة التي ستتواصل لشرعنة (أقاليم منسية) كراوية. فالكاتبة تدرك أنها ” تبوح” وأنها (تدلق) مكنوناتها، وهي تتحدث عن [تقانة ارتشاف مكنونات أخرى]. بل هي تعلن أن الكتابة بالنسبة إليها [أشبه باندلاق مياه المطر]. وبالمقابل، ومنذ البداية، يمكن اعتبار الكتابة صنفًا من صنوف الخياطة، ومع كل غرزة، تخط على صفحات هذا الكتاب صور لا تستطيع التحكم بها.
بين هذه الغرزة – الخياطة والاندلاق والخياطة غرزة غرزة – تدع القراءة للكتابة أن تشير إلى كتابتها بينما تتعلق بتشبيها هي لمحاولتها الأولى ( أقاليم منسية) بمحاولتها الأولى في العبور الخمس من عمرها لقطع المسافة ما بين ضفتي السد الترابي المتأخم لقريتها، إذ بد لها عندما بلغت الضفة الثانية كأنما ( دمجت الأرض في قرني العنزة الشامية) على أن القرنين بالنسبة إلى القراءة هما: الراوية والسيرة، ولعلهما يندمجان على يد هذه الكاتبة، التي سخرت من معاناتها، وقضيتها الكردية، التي أصبحت سلعة يتداولها أطراف كثيرة في العالم ، ولكل طرف ينظر لها من زاويته الخاصة به. وفي جميع الأحوال، هذه الزاوية، تتسع وتضيق حسب الناظر لها.
إن التكنيك الروائي في توظيف الميتولوجيا في رواية العبور الخامس مع التعامل الرمزي في غرائبية الحدث الواقعي كشف لنا القناع عن الوجه العام أمام عبثية الفجيعة ضمن رؤيا إنسانية تؤكد انتماء أبطالها ودفاعهم عن قضية عادلة.
هكذا يأخذ التجريب أنساقه البنائية الفنية في أشكال مختلفة من التعامل وتنفتح على مديات وسيعة من التجارب الروائية الجديدة متجاوزة الواقعية الكلاسيكية التي سادت زمنًا طويلًا في الرواية. إنه مشروع مستقبلي دون شك تمارسه الروائية وجيهة عبد الرحمن إذ تسير بخطى حادة متطورة وتقدم إضافات جديدة في كشوفات إبداعية تجسدًا حضورًا مؤثرًا في مسيرة الرواية الإنسانية.
من خلال هذه الحقيقة والسؤال عنها، تنسج الكاتبة رؤيتها للعالم، وهي رؤية تتجسد في تعبير يتخذ من حرية التأليف والأسلوب ما يبعد به عن التقيد بأية مدونةٍ موضوعة سلفًا، فيه تعتمد على ما يعبر عن رؤيته: [متسللون وهاربون من الموت لربما أصبح هذا الجراد طعامًا هكذا فكرت. ص147]. أما نماذجها الإنسانية فهي نماذج ملتقطة من الحياة بكل مباشرتها وبجميع تعقيداتها، ومما يرسخ هذا الاعتقاد أن الكاتبة تورد في سياق روايتها أسماء نعرفها، دلالات أحداث وقعت. وهي في توزيعها في عدد من المشاهد والأسماء والوقائع إنما تشير إلى واقع يتشظى، ويتم جمعه في فسحة روائية. أما الإنسان، هنا، فليس “بطلًا” لا لشيء إلا أنه يفتقد للظرف المكون للبطولة في واقع الحدث الروائي ومساحة الحركة فيه، فهو إنسان تستغرقه تفاصيل ما عاش وعرف، ويغرق بها الواقع من حوله. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن وضوح ما يجري للشخصيات، أو ما يجري أمامها، يطرح غموض الوجود عليها، فتستنجد بها رأته وعايشته في محاولة لتفسيرها. وهذا ما يجعل منها رواية رأي وموقف: فالرأي فيها واضح معلن، والموقف منسوج من خيوط الآراء المتشابكة على صفحاتها. ولأن الكاتبة في البناء الروائي تعتمد السرد والتداعي إسلوبًا محركًا لأجواء الحدث. وواقع مسار تنكير الشخصيات، فإنه لا تتيح للرأي الآخر أن يبرز إلا من خلالها. ولهذا فهو إما مقبول، وإما مرفوض … وكلاهما – القبول والرفض – مدعمان، عندما بأسبابهما التي تأتينا لمحات خاطفة قصيرة – ذات إيقاع في الفكر والنفس.
تتصل بهذا الرأي والموقف نزعة نقدية حادة وقاطعة، غالبًا ما تعتمد اللغة الواضحة والصريحة. ونقدها لا يكون لوجه واحد من وجوه المجتمع والحياة، وإنما هو نقد متعدد: فهو نقد لوجوه من السياسي وأمراء الحرب، كما هو نقد لأفكار بذاتها، وهو نقد للسياسية، أفكارًا وممارسات وشخصيات أيضًا تشير إليها بأسمائها الصريحة، أو نعرفها من خلال بعض الدلالات المرتبطة بها، وهو نقد للذات، كما هو نقد الذات لموقف وحالات وأقوال وأفعال.
وبهذا، فهي رواية تجسد صورة حية لبعض المصائر الإنسانية في عالمنا، ولكنها أيضًا رواية تنفتح على حقائق أكثر رعبًا مما حدث وأشد هولًا، الأمر الذي يحرك التساؤل عن المصير الإنساني، وعند هذا المستوى من التساؤل تحقق هذه الرواية اختياراتها: الفني والموضوعي.
