أبجد

سِفاح (تتحرك الرواية بين قطبي النسيان والذاكرة)

سِفاح (تتحرك الرواية بين قطبي النسيان والذاكرة)
سِفاح (تتحرك الرواية بين قطبي النسيان والذاكرة) سِفاح (تتحرك الرواية بين قطبي النسيان والذاكرة)

سليم النجار

تنساب الحيرة والارتباك القارئ حين يواجه كتاب حسن الحجي الذي وسعه بعنوان مبستر وغامض “سفاح” الصادر عن دار الخليج للدراسات والنشر – عمان – 2017، إذ لا يجد في غلاف الكتاب مؤشرًا يوجه عملية القراءة ويحدد الجنس. ورغم ما يوفره الإهداء الذي افتتح به الكاتب نصه من إضافة هامة وإنارة جزئية لمسالك القراءة، فهو لم يحسم مسألة الجنس الأدبي مكتفيًا بإشارة داخلية عن نوع الكتابة انثر). ويسهم الإهداء في توضيح العنوان جزئيًا إذ يملأ محلا نحويًا شاغرًا فيه. ويدقق دلالة هذا النثر. فهو جزء من معيش الكاتب ” إلى خيوط شمس الوفاء الآفلة”. يقصد العنوان بذلك صلة وطيدة بين النص وذات الكاتب في معيشه اليومي. مما يوحي أن النص سيكون سيرة ذاتية أو ” تاريخًا مصغرًا” وإن بدا زمنيًا مرتبط بفترة محددة من حياة الشخوص الروائية، غير أنها فترة ازدحمت فيها الأحداث وتتالت في سياق عرف فيه المجتمع السعودي تقلبات وتغيرات لم يشهده من قبل. إلا أن مؤشرًا ثانيًا في الإهداء نفسه يلقي على التدقيق السابق ظلال الغموض إذ يقر بتحويل الواقع والمعيش إلى تخييل عبر عملية الكتابة. بل إنه سيخضع الواقع حتما إلى تحويلات تقتضيها الرؤية: {على الرغم من أن سين الخامسة والسجين لا تساوي الموت في كثير من الأحيان، لكن فكرة الموت مسيطرة على ذلك الرجل السبعيني المسكين … هكذا بدا مسكينًا في تلك اللحظة ص9}، ولا حقيقة إلا عبر زوايا النظر التي اختارها الكاتب. الميثاق، صريح ومراوغ في الآن ذاته لا يقول إلا بمقدار ما يلمح، ويترك أبواب التأويل مشروعة أمام القراءة.

كيف تصرفت هذه العين الرائية في المعيش والواقع في رصد الحياة الاجتماعية لتحويله إلى نص إبداعي؟ ووفق أي ضوابط أو قواعد تحدد جنس الكتابة؟ ذلك هو السؤال الأول الذي تحتمه مقاربة النص. لكنه مولد لأسئلة قد تكون الأهم: كيف؟

– ذاكرة الماضي مشحونة بأصداء الحياة الاجتماعية …

عاشت هذه الذات التاريخ؟ هل كتبت تاريخها الإجتماعي الخاص وسيرتها الذاتية أم التاريخ الإجتماعي العام، تاريخ الوطن؟

ما الحدود الفاصلة بين المرجعي والتخييلي في هذه الكتابة؟ كيف تفاعلت الذاكرة مع الأحداث وكيف صاغتها؟ وإلى أي حد صاغت بذلك رؤيتها للذات وللعالم؟

– ذاكرة المكان ….

من يحفظ ذاكرة المكان والأشياء والإنسان؟

هل هو المؤرخ يروي الوقائع الرسمية في نظام إحالي واقعي فيشبت الملفو ظ قيمتها الوثائقية المنتجة لمعرفة بالعالم تعتبر، إلى حد ما موضوعية؟ أم هو الكاتب والروائي على وجه التحديد يسرد تاريخه المصغر والتاريخ العام ليستنطق مواضع الصمت في التاريخ الإجتماعي ويفصل المرجعية الذاتية ويراهن على أن يكون التاريخ اجتماعيًا حيويًا وموحشًا عبر تلاوين وتشكلاته المختلفة تسجيلًا وتخييلًا؟

لعلنا نجد في نص حسن الحجي “سفاح” بعضًا من هذه الذاكرة، ذاكرة التاريخ الإجتماعي، وإن بدا الحيز الفاصل بين زمن الكتابة وزمن الواقع محددًا نسبيًا وجيزًا.

يصف الكاتب أجواء الصراعات الإجتماعية وتقلبات تلك الصراعات، في حياة المجتمع، وهو ما يجعل نصيب التاريخ العام وافرا في نصه. وإن تداخل أحيانًا كثيرة الخاص، تاريخ الكتابة وسيرة الذات. لكن الذاكرة لم تقف عند التاريخ القريب بل امتدت إلى أعماق الماضي تنبش فيه لتلتقط صور ومشاهد وفضاءات ووقائع تنير الحاضر تتقاطع معه وتؤكد مصداقيته.

نلمس الصورة إلى تاريخ الغدر حين بات المكان – مكان الكشف عن هذا الغدر – ضاربًا في أعماق ماضيهم وشاهدًا على الغدر. فقد ” وفي الوقت المحدد كان أبو أحمد ينتظر لحمض النووي بعد أن اصطحب لولو، وريحانة معه لإجراء ذلك الفحص دون أن يبين لهما حقيقة ذلك الفحص، فخافتا لاعتقادهما أنه فحص الإيدز خرج الطبيب، وأخبره النتيجة، قال له بالحرف الواحد: أنت لسه والد هاتين البنتين … والدهما رجل غيرك … رجل آخر غيرك أنجب هاتين البنتين.

أراد أبو أحمد البكاء، والصراخ، ولكنه لم يتمكن! نظر إليه الطبيب، وخاطبه: هل سمعت قولي؟! ص193″.

ذاكرة الماضي مشحونة أيضًا بأصداء من تاريخ الفكر والأدب والدين. لذا يحضر في النص صوت التطرف: [لحظة صمت تعم المكان ينشغل فيها أبو غانم بصحفه ويعود إلى أحمد لأفكاره السوداء ص15].

– نرى الكاتب يتسلل إلى طفولته الأولى عبر نافذة الراهن لتقرأ تحولاته وتعقيداته…

لكن التاريخ الذي تستعيده الذاكرة لم يكن مجرد وقائع ضبطتها سجلات دقيقة وحددها الزمان بقيوده وضوابطه. بل هو تاريخ منفلت  طوعه الكاتب وأعاد قراءته في ضوء راهن غامض فأضفى عليه أضواء من هذا الراهن وجعله بذلك أكثر إنسانية وجمالية وتخيلًا.

ولم تكن وظيفة التاريخ الإجتماعي مجرد تقديم شهادة عن العصر، وإنا تقديم شهادة عن الذات وترميم المنكسر منها قصد إقناع متلقي النص بأهمية ما عاش السارد من تجارب ورأي من أحداث. فتمنح المادة التاريخية الاجتماعية حياة الراوي معنى وقيعة يرشحانها لتكون أنموذجًا جديدًا بأن يعرف بين الناس ويشهد أمر صاحبه.

وبذلك تغدو الرواية لحسن الحجي، مكونًا سير ذاتيًا تتقاطع فيه تجربة الكاتب الفردية مع التجربة الجماعية فإذا التأريخ ” للنحن” تأريخ ” الأنا”،: [الشغف بالضرب حتى اعتاد عليه، فالضرب بات ممارسة يومية يقوم بها أبوه، وكثير من معلميه! جابه العصا بابتسامة الاستفزاز التي تحث ضاربه على مزيد من القسوة، ومزيد من القوة في الضرب … تعب أبو أحمد من ضرب ولده، فأبدعت مخيلته الخصبة فكرة جديدة، لإخضاع ذلك المارد الثائر وهي حبسه في دورة المياه، وما كان حبسه لريحانه إلا فرعًا لتلك الفكرة المبتكرة .. ص72].

– السيرة الذاتية أو خطاب البوح:

لا يتنصل الكاتب من إعلان هويته في النص بعد عتباته، وينحو بذلك إلى إقرار ميثاق قراءة سير ذاتي.

فنراها يتسلل أحيانًا إلى طفولته الأولى عبر نافذة الراهن لنقرأ تحولاته وتعقيداته عبر ما علق في الذاكرة من أحداث خاصة وعامة [تلاشى بذلك ما عقده الأب نية مبيتة بإبقاء ولده إسبوعًا كاملًا رهن الاعتقال حتى يعود للدراسة سيما وأن الاختبارات كانت وشيكة … خرج سالم وعلى وجنتيه ابتسامة النصر عريضة واضحة كشمس لم تحجبها الغيوم ص72].

بعين الكهل يستعيد الكاتب ما عاشه من الوقائع في ماضيه فيلتقي في النص – كما ينص كل ميثاق سير ذاتي – السارد والكاتب والشخصية لتقييم حاضر أو فهم ماض يعيد: [لم يكن الموضوع صادمًا بالنسبة للعجوز، فلولده سوابق غير مشرفة كثيرة في ذلك، ولهذا لم يحاول الدفاع عنه، إنما حاول امتصاص حنق الثلاثة المجني علي أختهم، وطلب منهم الحديث بتعجل، وروية، فوافقوا على مضض بعد محاولات كثيرة أخبروا العجوز بالقصة الكاملة … ص173].

وبذلك تتأكد بعض المؤشرات السير الذاتية في نص حسن الحجي ويكون وفيًا للسجل المرجعي عبر الالتزام الصريح والصوت والحقيقة المؤلمة وتطابق الهويات السردية.

يمتد السير ذاتي من الماضي إلى الحاضر دون ترتيب كرونولوجي. فتردد أسماء لها مرجعيتها الواقعية وقد شاركها الكاتب – السارد نفس الأحداث وإن اختلفت المواقف والانفصالات منها سالم.

بيد أن الكاتب قد عمد أحيانًا إلى وضع قناع على بعض الأسماء [أبو أحمد / الشاعر / عبدو] مفضل عدم التصريح بها.

وفي الحكايا التي سردها الكاتب بـ ” فيض الخاطر” يجلو حديث الذات إلى ذاتها البعد السير الذاتي ويتكشف البوح إذ تحضر الأنا بكثافة متقلبة مع رجات واقعها ومناخاته المزلزلة والمنفلتة من الرقابة. تتبدى أزمة الذات أحيانًا في محاولات الهروب من المكان والتاريخ والآخر [أما نورة فلم تحفل بكل تلك الكلمات، ولم تندم على ارتمائها في أحضان سمير، ونبذها خالد، وعده مجرمًا أساء إليها كثيرًا، ولكنها في تلك اللحظة كانت محطمة مما خاضت من صراع كبير، مما سمعت من كلام قاسٍ من أبنائها، ولم يحطمها كون خالد أحد أطراف الصراع، ولم يحطمها تخيله عنها، بل الذي حطمها أن أبناءها أحد أطراف الصراع، وقد تخلو عنها عدا عبد الستار، ولولا موقف عبد الستار الجريء لما تعففت عن إزهاق روحها الكئيبة ونفسها المحطمة ص206-207].

في لحظات العزلة تحاور الذات نفسها وتدعوها إلى الصمت والتأمل ومحاولة الفهم … حينها تستحيل الكتابة بل تتحول إلى تراشقًا مع بياض الورق بنقاط استفهام تتناسل وتنقسم وتتلاشى… وهو في وصفه مراسم الكتابة وعسرها تنحو بالسير الذاتي إلى ما يرسم بالسيرة النكرية وإن كان ذلك محددًا نسبيًا في مستوى النص.

– نحت الكتابة منحنى السيرة الذاتية.

في فضاء كامل النص ويتردد هو صوت ” المحبة والأمل” وقد شكل هاجسًا محوريًا. لم يخصه الكاتب خطاب مباشر لكنه شكل في النص عبر نقيضه [كان يحيى يشعر بأنه صلاح الدين يحارب الكفار! أما فهم كان نفوره مما رأى، وسمع أعظم من إقباله! تذكر قبل سنوات حينما كان خالد عبد الستار يعزف على آلة البيانو، وكان يصغي لعزفه منتشيًا من جماله، وعذوبته فهل يمكن أن يحرم الله العذوبة والجمال؟! ص112].

وقد يتجسد هذا الصوت ضربًا من التأمل في تاريخ الإنسان وحقيقته.

لكن هل بإمكان السير ذاتي الإجتماعي الانفصال عن السير ذاتي النفسي؟ هل يمكن للذات أن تتنصل من ذاتها، من مشاعرها ورؤاها؟ لم يكن السير الذاتي الإجتماعي تاريخًا للتحولات الإجتماعي بقدر ما كان تصويرًا لتفاعل الذات ورصد أحوالها وتقلباتها مع المناخ الإجتماعي والسياسي.

وقد أفضى إلى إعادة اكتشاف الذات.

لعل هذا بعض ما يؤكد أن كينونة الذات لم تكن حالة سكونية بل صيرورة وسيرورة. وأنها أوضحت في نصوص التخييل الذاتي أليست الكتابة السير ذاتية في بعض وجوهها سعيًا لإعادة بناء الذات في فضاء النص وترميمها لما انكسر منها خارجه؟ هذا ما سعت له رواية ” السفاح” للكاتب حسن الحجي…

سِفاح (تتحرك الرواية بين قطبي النسيان والذاكرة)
سِفاح (تتحرك الرواية بين قطبي النسيان والذاكرة) سِفاح (تتحرك الرواية بين قطبي النسيان والذاكرة)
Your Page Title