فضاءات

فتحية الصقرية تكتب: بيت الغواية والأكاذيب

فتحية الصقرية تكتب: بيت الغواية والأكاذيب
فتحية الصقرية تكتب: بيت الغواية والأكاذيب فتحية الصقرية تكتب: بيت الغواية والأكاذيب

فتحية الصقرية – كاتبة عمانية

فتحية الصقرية – كاتبة عمانية

بدأت علاقتي بمَنصَّات التواصل متأخرة نوعًا ما، إذ فتحتُ حسابي الأول بـ (فيس بوك) في أواخر سنة2010 . لم يكن الأمر صعبًا، ولا مثيرًا للجدل والشبهات، تعلمتُ أشياء كثيرة، وتعرَّفت على العالم بشكل أفضل، حسابي الفيس بوكي، كان بمثابة الباب المفتوح على مدن جديدة، على بيوت ومدارس، على ثقافات وأصوات وأذواق متعدَّدة، لكن بعد عام تقريبًا، بدأ الأمر يزداد تعقيدًا، يوما بعد يوم.

ففي (فيس بوك) عندما تقبل إضافة، ستأتيك بعدها عشراتُ الطلبات؛ بدافع الفضول، أو بدافع التعرُّف، أو الظن، أحيانًا تقبل ذلك بسعادة، حتى وإن امتلأ حسابك ب(5000 صديق).

فهنالك أيضا خاصية (الفولو) سيعتقد الناسُ على الفور أنك إنسان مهم ومعروف، وذو شهرة، وتأتيك الإضافات، من كل حدب وصوب. بالنسبة لي كان يلازمني شعور مرعب، لفترة طويلة، مثل من يفتح باب بيته، ويجد في انتظاره عشرة آلاف إنسان، هذا العدد الهائل كان يسكن في رأسي، فثمة شيء لم يكن يهدأ أبدًا، مطارق، صراخ، نزاعات، قتل، إبادة، فكر ملوَّث بالأيدولوجيا.

غطَّت الأصوات المزعجة على كلِّ شيء، بنَتْ حائطًا ضخمًا، يفصلني عن الأشياء الأخرى؛ لذا قرَّرتُ حذف الحساب، والانتقال إلى موقع آخر يتوافق مع روحي ومزاجي.

لكن لم يكن يعني ذلك أنني انفصلت تمامًا، اذ لا زالت تلاحقني قبضة العالم العشوائيِّ والفجّ، وتفاجئني بضربات غير متوقَّعة، ليس عن طريق حساباتي، هذه المرّة.

بل تصلني بطرق أخرى لسبب ما لا أستطيع إغلاقها.

الآن هذا الفضاء الرحب المفتوح الذي يضمُّ العالم كلَّه تحت جناحيه، سأُسمّيه بيتَ الغواية والأكاذيب، البيت الذي يأوي إليه ملايينَ البشر، البيت الذي لا يخلو من الزوَّار المشغولين على الدوام بموائد الضيوف، البيت الذي لا يهدأ أبدًا، ولا يعرف الصمت، ولا السكون دائم النشاط والحركة.

ادخله في أيِّ وقت، ستجد فيه ما يسرُّك، وما يزعجك، وما يقلقك. وفي كثير من الأحيان ما يغضبك، لدرجة أن تنتابك بعض الأحيان حالة استياء شديدة، حالة رعب، حالة تودُّ فيها قذف هاتفك النَّقال على أقرب حائط، أو كسر شاشته بلكمة مباشرة وقوّية؛ لتجرح أصابعك.

أنت المضطر على البقاء والمتابعة؛ لإكمال مهامِّك، تلتقي بحسابات أقلِّ ما يمكن أن يقال عنها سطحية، وعليها علامات استفهام حول أهدافها المشبوهة، حسابات تجرُّ خلفها شاحنات كبيرة، مُحمَّلة بآلاف البشر، يذهبون حيث تذهب، ويجلسون حيث تجلس؛ لتقضي نهارَك في تنظيم
عملية مرور الصور في مُخيِّلتك، ساعات سلفادور دالي الذ ائبة، موجة هوكوساي الكبيرة قبالة شاطئ كاناغاوا، أزرق خوان ميرو (1.2.3) “ما أبحث عنه هو الحركة الثابتة ، شيء يعادل بلاغة الصمت ” وقط تيوفيل شتاينلين الأسود.


كتب المترجم صالح علمانى على صفحته بـ (فيس بوك) : انتقادات قاسية وجَّهها الفيلسوفُ والكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو إلى شبكات التواصل الاجتماعي. ففي مقابلة مع صحيفة لاستمبا الإيطالية، قال: إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك «تمنح حقَّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممَّن كانوا يتكلمون في البارات، فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبَّبوا بأيِّ ضرر للمجتمع، وكان يتمُّ إسكاتُهم فورًا. أمّا الآن فلهم الحقُّ بالكلام، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”
لا أعرف ما الذي فعلته هذه العبارة يومها بي «تمنح حقَّ الكلام لفيالق من الحمقى” !


إذ أصبح الأمر بمثابة فم مفتوح، لا يتوقف عن المضغ والبصق، ولا يمكن إيقافه، أو تهدئته ،عيون مغلقة تقود أصحابَها للمجهول، وأرواح مهجورة. وكما يقول المثل العُماني الذي سمعتُه من أمِّي، وعَلِق في بالي: (تعقم وادي جاي جارف)، إذ من السهل جدًا أن تجد نموًّا سريعًا وانتشارًا خطيرًا وتأييدًا لإشاعة تنهش لحم أحد، أو هجومًا لا يخلو من الشتائم والتوبيخ لجهة ما، دون أن يسأل المرءُ نفسَه عن الحقيقة والأسلوب، وضرورة الترويج لمادة قد يكون ضررُها أكثرَ من نفعها.

كأن الصمت، البحث، التأمُّل، والمشي بتأنٍّ في طريق المعرفة، وقطف الثمار الناضجة أشياء وغائبة مَنسيَّة.

من واقع تعاملي اليومي مع حالات مسَّها العبثُ الطفوليُّ، والمراهق أحيانًا، أدير الدفَّة إلى جانب آخر، إذ يعتقد البعض أنَّ كلَّ شيء مزعج يحدث، متعلق بـ (الجهات المختصَّة)، بمعنى أن يقوموا مثلا برمي أكياس قمامة في الشارع، أو في المواقع السياحية، أو في أيِّ مكان، بشكل عشوائي، أو بتخريب محتويات متنزّه، أو حديقة، وعلى (الجهات المختصَّة) نقلُ المُخلَّفات، وإصلاح الأعطال والتخريب، بينما مثل هذه السلوكات هي ما يحتاج إلى المعالجة والإصلاح أولا,
أعتقد أن “البلديات الإقليمية ” لو توقفت يومًا عن العمل ستصبح بعض المواقع غير صالحة للعيش، هل يمكننا الشعور بذلك حقًا ؟


لماذا مثلا لا يكون هناك فعل مضادّ، كإنشاء (هاشتاج) لبداية التعاون والإحساس بالمسؤولية مع المؤسسات: (ابْنِ وأنا أبني معاك ) بدل (أنا أخرِّب، وأنت قم بالإصلاح)؟ من أولئك الذين ينفقون أوقاتهم في إشعال الحرائق، وتأجيج العواطف؟

نحن بحاجة أيضًا للتطوير، فيمكن للذي يُنفَق على إصلاح ما خرّبته أيدي المستهترين،أن ينفق على أعمال التطوير، وبدل التحديق في حياة الآخرين بعيون الصيّادين، والنهش في أرواحهم، كلَّ يوم نحدِّق في أعماقنا، في الطبيعة، في المعرفة، في القوة، في المحبة، في كل ما يجعل الحياة قطعة حلوى مستساغة، في كل الأوقات، وكل ما يجعل هذه الأرض مكانَا صالحًا للعيش، والبحث، البحث عمّا يمكنه “كسر البحر المتجمِّد فينا ” بالفأس التي تحدّث عنها كافكا .

Your Page Title