أثير- د.عبدالله باحجاج
البيضاني هو الأستاذ الدكتور ابراهيم سعيد البيضاني الامين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين ، عراقي الاصل ، وقد أثار في مؤتمر علاقات عمان بدول المحيط الهندي والخليج خلال القرون (17،18،19) جدلا سياسيا رفيع المستوى ، وفتح نقاشا من أوسع ابوابه ، لكنهما أي الجدل والنقاش لم يلاقيا المساحة الحوارية الكافية رغم اهميتهما ، وهما يشكلان من وجهة نظري جوهر فتح التاريخ المشترك بين بلادنا ودول المحيط والخليج .
ففي إحدى منصات هذا المؤتمر الذي عقد مؤخرا في الكويت ، تساءل البيضاني ، لماذا لم تكن عمان في القرن (20) مثلما كانت عليه في القرون ( 17، 18، 19 ) ؟ وقد طرح هذا التساؤل بعد أن تجلت له في لحظة استدعاء عمان التاريخية في عهدي اليعاربة والبوسعيديين من خلال (45) ورقة بحثية من قبل باحثين وأكاديميين وتاريخيين عمانيين وعرب واجانب ، ولمدة ثلاثة ايام – صباحا ومساءً – تجلت له عمان كأكبر دولة اقليمية مؤثرة في السلم ولاستقرار الاقليمي ، دون منازع .
حتى أن بعض الباحثين استوقف الفكر البحثي في المؤتمر بعمانية وانفرادية مصطلح الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، وفند بان هذا المصطلح حقا عمانيا وليس بريطانيا ، وتساؤله قد جاء بعدما انبهر البيضاني بدور عمان التاريخية ، وامتداداتها وتحملها مسؤولية الامن والاستقرار في المحيط الهندي والخليج ، وكذلك دورها في ازدهار الفضاءين الهندي والخليجي تجاريا واخلاقيا .
· الجوانب الروحية والمادية لعمان التاريخية .
تعمقت الاوراق البحثية للمؤتمر سالف الذكر في علاقات عمان التاريخية بدول المحيط الهندي والخليج ، فبينت بجلاء دور التجار العمانيين في اقامة علاقات تجارية وسياسية وحضارية ، ومنها نشر الاسلام في دول المحيط الهندي في القرن (17- 19م) ، وابرزت أهمية التواصل بين عمان ودول المحيط الهندي والخليج ، واثرها في تقوية العلاقات العائلية والاهلية بين شعوب ودول الخليج ، وتحديد دور حركة القبائل العمانية واثرها على الترابط الاسري والعادات والتقاليد بين دول الخليج .
كما تناولت كذلك العلاقات السياسية بين عمان وبلاد فارس في عهد الامام أحمد بن سعيد – 1744، 1782م – وكذلك الدور العماني في البحرين لمواجهة الاخطار الفارسية ” طبعا البحرين التاريخية وليست فقط البحرين المعاصرة – والصراع العماني البرتغالي في السواحل الهندية والمحيط الهندي من منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ، ودراسة علاقات عمان بمشيخات الساحل بين الثبات والتغير ، وبحث في دور الديموغرافيا العمانية وانتشارها داخل الفضاءين الهندي والخليجي ..الخ
فمن خلال فتح التاريخ المشترك لعلاقات عمان بدول المحيط والخليج ، يرى البيضاني في استمرارية عمان التاريخية خلال القرن العشرين ، الضمانة للاستقرار في الفضاءين ، والضمانة لديمومة مصالح كل دولة ، لأنها قوة ليست قهرية أو تسلطية أو نفعية ، تفرض اجندتها على الاخرين ، أو تقصيهم بسبب الاختلاف معهم ايديولوجيا أو سياسيا.
وانما كانت تؤسس لمجموعة مصالح متبادلة ، ومتعايشة ، وقد جعلت منها جغرافيتها – الجيوسياسية – محطة ترانزيت على مفترق طرق التقاء الشرق والغرب ، بحكم موانئها ، حتى كانت صحار توصف بانها ( بوابة الصين ) نظرا لما يتميز به ميناؤها بالمنتجات الصينية ، وانطلاقا كذلك ، من الموانئ التي استأجرتها عمان من دول المحيط الهندي كبندر عباس وشهبار ، وما كان يقوم به النواخذه العمانيون والاسطول العماني البحري في ازدهار حركة التجارة الاقليمية والعالمية ، وتأمينها خدمة لمصالح كل الاطراف .
وهو بذلك يقارن بين نتائج القوة التاريخية العمانية ، بنظيراتها الاقليمية المعاصرة ، فتمنى الرجل لو أن عمان التاريخية ، لا تزال قائمة بكل نفوذها وامتدادها وهيمنتها ، لاستمرارية القيم والمبادئ التي اطرت وحكمت العلاقات بين دول المحيط الهندي والخليج ، بعد ان تمكن العمانيون من طرد الاستعمار البرتغالي من المحيط الهندي والخليج ، ولما شهد هذان الفضاءان الاخيران حروبا وصراعات معاصرة .
· مدى استفادة المحيط والخليج من التاريخ المشترك ؟
إن تجدد الصراعات والتوترات بين أكثر من دولة ، يعني أن الانظمة القائمة ، لم تستفد من تاريخها المشترك ، ويعني كذلك ، انها تتعاطى مع حاضرها من منظور عقلها السياسي المجرد ، دون الاخذ بعين الاعتبار هذا التاريخ ، وبالتالي الى أي مدى استفادت دول المحيط الهندي والخليج – عربه وفرسه وهنوده – من أحداث القرون ” 17، 18 ، 19 “؟
والتساؤل الاخير ، نطرحه تعضيدا لتمنيات البيضاني الذي يشكل شغلنا الشاغل الان بعد أن اطلعنا على التاريخ المشترك لهذه الدول، وهنا سنجد الفارق الكبير بينها وبين بلادنا ، فمن استلهامات التاريخ المشترك الذي خرجت منه تمنيات البيضاني ، جاء ثامن سلاطين البوسعيد، جلالة السلطان قابوس بن سعيد المفدى حفظه الله ورعاه ، مستوعبا للتاريخ المشترك لبلاده في اطار الفضاءين الهندي والخليجي بكل مفاصله التاريخية ، حروبه وصراعاته ، وسلمية علاقاته ، وجيولبتكية بلاده ، واستشرف آفاقه المعاصرة .
فعمل جلالته جاهدا على تحصين حكم دولة داخل حدود سيادية معترف بها من كل الجيران اولا ، ومن مختلف انحاء العالم ثانيا ، ثم رسخ اركان هذه الدولة داخل حدودها الترابية ، وفق مؤسسات مركزية واللامركزية ، وحول الصراع فيها الى استقرار ، والفوضى والقتال الى سلام وامن ، وانشغل بتنمية مجتمع عانى من ثلاثية التخلف – الفقر والجهل والمرض- .
وأدار التعدد والتنوع الفكري والايديولوجي والاجتماعي للديموغرافية العمانية ، من نفس منظور العيش المشترك التاريخي الذي يحق للفرد والجماعة ممارسة حياته الطبيعية بمعتقداتها في اطار احترام الآخر بكل مكوناته وحمولاته ، بصورة متبادلة. ، وصل هذا العيش المشترك الى حد الانصهار المذهبي ، فراينا مصاهرات تؤسس بين كيانات مختلفة ، هي في خارجنا ، تسال بينها الدماء ، بينما في بلادنا عيش مشترك في اطار الحياة الزوجية الواحدة ، وليس فقط داخل الدولة .
وهنا تنطبق مفردة العيش المشترك – وليس التعايش المشترك – بين مختلف المكونات الفكرية والثقافية داخل مجتمعنا دون اية حساسية أو موقف اجتماعي سلبي منها ، وهذا وراءه تعزيز لتاريخية العيش المشترك للدولة العمانية التاريخية – وقد تناولنه في مقالنا السابق المعنون أبو سعود .. وحكمة صمته وصرخاته – .
وحصرية الاستفادة الاستثناء لبلادنا من تاريخها المشترك ، نجده كذلك في رسم سياسة خارجية من وحي عمان التاريخية ، وادوارها الانسانية في تلكم القرون ، فكانت السياسة الخارجية لعمان المعاصرة ، انحيازا مطلقا للسلم الداخلي والسلام الاقليمي والدولي ، وضد الحروب والصراعات والتوترات ، فقد عاشتها عمان التاريخية داخليا وفي اطار محيطها الاقليمي ، وبالتالي ، حرمتها عمان المعاصرة على ذاتها ، ومع الاخرين .
وتمارس من أجلها اعلى ضبط النفس في علاقاتها الاقليمية على وجه الخصوص ، وقمة العقلانية التي لا تتحسس من قول ، أو تنفعل من فعل جيواستراتيجي ، وذلك حتى لا تنجر الى الحروب والصراعات أو تجر اليها ، ثم تدفع المنطقة ثمن صراع أو حرب ، يستدعي اليها عمان التاريخية .
· عمان المعاصرة .. فهم عميق لعمان التاريخية .
ربما نكون هنا ، قد قربنا الفهم في رهانات البلاد على السلم والسلام والامن والاستقرار ، لدواعٍ انسانية من منظور خبراتها التاريخية التي اثارت البيضاني ، وتمنى من خلالها لو واصلت عمان المعاصرة مسؤوليتها الجيوبوليتكية ، لكان ذلك من وجهة نظره افضل للجغرافيا الاقليمية ” برها وبحرها وثرواتها ” .
فلو واصلت عمان المعاصرة دورها التاريخي نفسه ، لما استفادت من تاريخها ، ولكانت مثل غيرها تعيش الصراعات والتوترات ، تفجيرا وتصديرا ، ولما تميزت الان بفكرها السياسي الذي جنبها ، ومعها محيطها الاقليمي ، من توظيف موقعها الجيواستراتيجي وامكانياتها المختلفة والمتعددة في الصراعات والحروب القائمة .
لكن ، إن الانكفاء الجغرافي لعمان المعاصرة ، لا يعني انغلاقها الداخلي ، وانما هي متفاعلة مع المحيط والخليج ، وخارجهما ، من منظور المبادئ والقيم نفسها التي أطرت واصلت عمان التاريخية ، فكسبت بذلك احترام الجميع ، ويقصدونها عندما تعجز القوة العسكرية في حسم النصر أو تتوفر الارادة في وقف سقوط الابرياء .
أما على الصعيد الاقتصادي ، وخاصة اقتصاد الموانئ ، فمع تجليات تمنيات البيضاني ، نجد الارادة السياسية قد اعطت الحكومة المباركة في استعادة ريادة الموانئ ابان عمان التاريخية ، وبالذات عن طريق ميناء الدقم الواقع على البحار المفتوحة ، والبعيد عن مناطق التوترات والحروب في المنطقة ، واستعادتها تتم من نفس منطق عمان التاريخية ، وهو الحفاظ ورعاية مصالح الكل ، فنجد فيه أي ميناء الدقم ، مصالح القوى الاقليمية كلها ، والعالمية كلها .
لذلك ، تكون عمان المعاصرة ، نتاج وعي سياسي رفيع واصيل ، يمزج بين المفيد لعصرها من عمان التاريخية ، وتجنب ما يضرها والاخرين معها ، وهذا ما يفسر لنا ، لماذا عمان المعاصرة ، آمنة في سربها ، ومطمئنة على مستقبلها الوجودي ؟ وكذلك ،كيف أصبحت رهاناتها تكمن في الديمومة على قوتها الناعمة الكامنة في منظومة العيش المشترك لكل مكوناتها الديموغرافية ، وهذه صنيعة التاريخ في الفكر السياسي لثامن سلاطين البوسعيد .
نجدد شكرنا وتقديرنا ، لهيئة المخطوطات والوثائق الوطنية ، على ما تقوم به من أداور وطنية عظيمة ، في مجال توثيق الذاكرة العمانية ، وهي بذلك ، تفتح للفكر المعاصر ، الآفاق والرؤى ، وامكانية اسقاطاتها السياسية ، كما فعل البيضاني ، وكما نفعل في مقالاتنا الاستقرائية والاستشرافية لفهم ما يجري في بلادنا ، وما ينبغي أن يكون داخل محيطنا الهندي والخليجي .. والله يوفق كل العاملين فيها ، وعلى رأسهم سعادة الدكتور الضوياني.
أثير- د.عبدالله باحجاج
البيضاني هو الأستاذ الدكتور ابراهيم سعيد البيضاني الامين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين ، عراقي الاصل ، وقد أثار في مؤتمر علاقات عمان بدول المحيط الهندي والخليج خلال القرون (17،18،19) جدلا سياسيا رفيع المستوى ، وفتح نقاشا من أوسع ابوابه ، لكنهما أي الجدل والنقاش لم يلاقيا المساحة الحوارية الكافية رغم اهميتهما ، وهما يشكلان من وجهة نظري جوهر فتح التاريخ المشترك بين بلادنا ودول المحيط والخليج .
ففي إحدى منصات هذا المؤتمر الذي عقد مؤخرا في الكويت ، تساءل البيضاني ، لماذا لم تكن عمان في القرن (20) مثلما كانت عليه في القرون ( 17، 18، 19 ) ؟ وقد طرح هذا التساؤل بعد أن تجلت له في لحظة استدعاء عمان التاريخية في عهدي اليعاربة والبوسعيديين من خلال (45) ورقة بحثية من قبل باحثين وأكاديميين وتاريخيين عمانيين وعرب واجانب ، ولمدة ثلاثة ايام – صباحا ومساءً – تجلت له عمان كأكبر دولة اقليمية مؤثرة في السلم ولاستقرار الاقليمي ، دون منازع .
حتى أن بعض الباحثين استوقف الفكر البحثي في المؤتمر بعمانية وانفرادية مصطلح الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، وفند بان هذا المصطلح حقا عمانيا وليس بريطانيا ، وتساؤله قد جاء بعدما انبهر البيضاني بدور عمان التاريخية ، وامتداداتها وتحملها مسؤولية الامن والاستقرار في المحيط الهندي والخليج ، وكذلك دورها في ازدهار الفضاءين الهندي والخليجي تجاريا واخلاقيا .
· الجوانب الروحية والمادية لعمان التاريخية .
تعمقت الاوراق البحثية للمؤتمر سالف الذكر في علاقات عمان التاريخية بدول المحيط الهندي والخليج ، فبينت بجلاء دور التجار العمانيين في اقامة علاقات تجارية وسياسية وحضارية ، ومنها نشر الاسلام في دول المحيط الهندي في القرن (17- 19م) ، وابرزت أهمية التواصل بين عمان ودول المحيط الهندي والخليج ، واثرها في تقوية العلاقات العائلية والاهلية بين شعوب ودول الخليج ، وتحديد دور حركة القبائل العمانية واثرها على الترابط الاسري والعادات والتقاليد بين دول الخليج .
كما تناولت كذلك العلاقات السياسية بين عمان وبلاد فارس في عهد الامام أحمد بن سعيد – 1744، 1782م – وكذلك الدور العماني في البحرين لمواجهة الاخطار الفارسية ” طبعا البحرين التاريخية وليست فقط البحرين المعاصرة – والصراع العماني البرتغالي في السواحل الهندية والمحيط الهندي من منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ، ودراسة علاقات عمان بمشيخات الساحل بين الثبات والتغير ، وبحث في دور الديموغرافيا العمانية وانتشارها داخل الفضاءين الهندي والخليجي ..الخ
فمن خلال فتح التاريخ المشترك لعلاقات عمان بدول المحيط والخليج ، يرى البيضاني في استمرارية عمان التاريخية خلال القرن العشرين ، الضمانة للاستقرار في الفضاءين ، والضمانة لديمومة مصالح كل دولة ، لأنها قوة ليست قهرية أو تسلطية أو نفعية ، تفرض اجندتها على الاخرين ، أو تقصيهم بسبب الاختلاف معهم ايديولوجيا أو سياسيا.
وانما كانت تؤسس لمجموعة مصالح متبادلة ، ومتعايشة ، وقد جعلت منها جغرافيتها – الجيوسياسية – محطة ترانزيت على مفترق طرق التقاء الشرق والغرب ، بحكم موانئها ، حتى كانت صحار توصف بانها ( بوابة الصين ) نظرا لما يتميز به ميناؤها بالمنتجات الصينية ، وانطلاقا كذلك ، من الموانئ التي استأجرتها عمان من دول المحيط الهندي كبندر عباس وشهبار ، وما كان يقوم به النواخذه العمانيون والاسطول العماني البحري في ازدهار حركة التجارة الاقليمية والعالمية ، وتأمينها خدمة لمصالح كل الاطراف .
وهو بذلك يقارن بين نتائج القوة التاريخية العمانية ، بنظيراتها الاقليمية المعاصرة ، فتمنى الرجل لو أن عمان التاريخية ، لا تزال قائمة بكل نفوذها وامتدادها وهيمنتها ، لاستمرارية القيم والمبادئ التي اطرت وحكمت العلاقات بين دول المحيط الهندي والخليج ، بعد ان تمكن العمانيون من طرد الاستعمار البرتغالي من المحيط الهندي والخليج ، ولما شهد هذان الفضاءان الاخيران حروبا وصراعات معاصرة .
· مدى استفادة المحيط والخليج من التاريخ المشترك ؟
إن تجدد الصراعات والتوترات بين أكثر من دولة ، يعني أن الانظمة القائمة ، لم تستفد من تاريخها المشترك ، ويعني كذلك ، انها تتعاطى مع حاضرها من منظور عقلها السياسي المجرد ، دون الاخذ بعين الاعتبار هذا التاريخ ، وبالتالي الى أي مدى استفادت دول المحيط الهندي والخليج – عربه وفرسه وهنوده – من أحداث القرون ” 17، 18 ، 19 “؟
والتساؤل الاخير ، نطرحه تعضيدا لتمنيات البيضاني الذي يشكل شغلنا الشاغل الان بعد أن اطلعنا على التاريخ المشترك لهذه الدول، وهنا سنجد الفارق الكبير بينها وبين بلادنا ، فمن استلهامات التاريخ المشترك الذي خرجت منه تمنيات البيضاني ، جاء ثامن سلاطين البوسعيد، جلالة السلطان قابوس بن سعيد المفدى حفظه الله ورعاه ، مستوعبا للتاريخ المشترك لبلاده في اطار الفضاءين الهندي والخليجي بكل مفاصله التاريخية ، حروبه وصراعاته ، وسلمية علاقاته ، وجيولبتكية بلاده ، واستشرف آفاقه المعاصرة .
فعمل جلالته جاهدا على تحصين حكم دولة داخل حدود سيادية معترف بها من كل الجيران اولا ، ومن مختلف انحاء العالم ثانيا ، ثم رسخ اركان هذه الدولة داخل حدودها الترابية ، وفق مؤسسات مركزية واللامركزية ، وحول الصراع فيها الى استقرار ، والفوضى والقتال الى سلام وامن ، وانشغل بتنمية مجتمع عانى من ثلاثية التخلف – الفقر والجهل والمرض- .
وأدار التعدد والتنوع الفكري والايديولوجي والاجتماعي للديموغرافية العمانية ، من نفس منظور العيش المشترك التاريخي الذي يحق للفرد والجماعة ممارسة حياته الطبيعية بمعتقداتها في اطار احترام الآخر بكل مكوناته وحمولاته ، بصورة متبادلة. ، وصل هذا العيش المشترك الى حد الانصهار المذهبي ، فراينا مصاهرات تؤسس بين كيانات مختلفة ، هي في خارجنا ، تسال بينها الدماء ، بينما في بلادنا عيش مشترك في اطار الحياة الزوجية الواحدة ، وليس فقط داخل الدولة .
وهنا تنطبق مفردة العيش المشترك – وليس التعايش المشترك – بين مختلف المكونات الفكرية والثقافية داخل مجتمعنا دون اية حساسية أو موقف اجتماعي سلبي منها ، وهذا وراءه تعزيز لتاريخية العيش المشترك للدولة العمانية التاريخية – وقد تناولنه في مقالنا السابق المعنون أبو سعود .. وحكمة صمته وصرخاته – .
وحصرية الاستفادة الاستثناء لبلادنا من تاريخها المشترك ، نجده كذلك في رسم سياسة خارجية من وحي عمان التاريخية ، وادوارها الانسانية في تلكم القرون ، فكانت السياسة الخارجية لعمان المعاصرة ، انحيازا مطلقا للسلم الداخلي والسلام الاقليمي والدولي ، وضد الحروب والصراعات والتوترات ، فقد عاشتها عمان التاريخية داخليا وفي اطار محيطها الاقليمي ، وبالتالي ، حرمتها عمان المعاصرة على ذاتها ، ومع الاخرين .
وتمارس من أجلها اعلى ضبط النفس في علاقاتها الاقليمية على وجه الخصوص ، وقمة العقلانية التي لا تتحسس من قول ، أو تنفعل من فعل جيواستراتيجي ، وذلك حتى لا تنجر الى الحروب والصراعات أو تجر اليها ، ثم تدفع المنطقة ثمن صراع أو حرب ، يستدعي اليها عمان التاريخية .
· عمان المعاصرة .. فهم عميق لعمان التاريخية .
ربما نكون هنا ، قد قربنا الفهم في رهانات البلاد على السلم والسلام والامن والاستقرار ، لدواعٍ انسانية من منظور خبراتها التاريخية التي اثارت البيضاني ، وتمنى من خلالها لو واصلت عمان المعاصرة مسؤوليتها الجيوبوليتكية ، لكان ذلك من وجهة نظره افضل للجغرافيا الاقليمية ” برها وبحرها وثرواتها ” .
فلو واصلت عمان المعاصرة دورها التاريخي نفسه ، لما استفادت من تاريخها ، ولكانت مثل غيرها تعيش الصراعات والتوترات ، تفجيرا وتصديرا ، ولما تميزت الان بفكرها السياسي الذي جنبها ، ومعها محيطها الاقليمي ، من توظيف موقعها الجيواستراتيجي وامكانياتها المختلفة والمتعددة في الصراعات والحروب القائمة .
لكن ، إن الانكفاء الجغرافي لعمان المعاصرة ، لا يعني انغلاقها الداخلي ، وانما هي متفاعلة مع المحيط والخليج ، وخارجهما ، من منظور المبادئ والقيم نفسها التي أطرت واصلت عمان التاريخية ، فكسبت بذلك احترام الجميع ، ويقصدونها عندما تعجز القوة العسكرية في حسم النصر أو تتوفر الارادة في وقف سقوط الابرياء .
أما على الصعيد الاقتصادي ، وخاصة اقتصاد الموانئ ، فمع تجليات تمنيات البيضاني ، نجد الارادة السياسية قد اعطت الحكومة المباركة في استعادة ريادة الموانئ ابان عمان التاريخية ، وبالذات عن طريق ميناء الدقم الواقع على البحار المفتوحة ، والبعيد عن مناطق التوترات والحروب في المنطقة ، واستعادتها تتم من نفس منطق عمان التاريخية ، وهو الحفاظ ورعاية مصالح الكل ، فنجد فيه أي ميناء الدقم ، مصالح القوى الاقليمية كلها ، والعالمية كلها .
لذلك ، تكون عمان المعاصرة ، نتاج وعي سياسي رفيع واصيل ، يمزج بين المفيد لعصرها من عمان التاريخية ، وتجنب ما يضرها والاخرين معها ، وهذا ما يفسر لنا ، لماذا عمان المعاصرة ، آمنة في سربها ، ومطمئنة على مستقبلها الوجودي ؟ وكذلك ،كيف أصبحت رهاناتها تكمن في الديمومة على قوتها الناعمة الكامنة في منظومة العيش المشترك لكل مكوناتها الديموغرافية ، وهذه صنيعة التاريخ في الفكر السياسي لثامن سلاطين البوسعيد .
نجدد شكرنا وتقديرنا ، لهيئة المخطوطات والوثائق الوطنية ، على ما تقوم به من أداور وطنية عظيمة ، في مجال توثيق الذاكرة العمانية ، وهي بذلك ، تفتح للفكر المعاصر ، الآفاق والرؤى ، وامكانية اسقاطاتها السياسية ، كما فعل البيضاني ، وكما نفعل في مقالاتنا الاستقرائية والاستشرافية لفهم ما يجري في بلادنا ، وما ينبغي أن يكون داخل محيطنا الهندي والخليجي .. والله يوفق كل العاملين فيها ، وعلى رأسهم سعادة الدكتور الضوياني.
أثير- د.عبدالله باحجاج
البيضاني هو الأستاذ الدكتور ابراهيم سعيد البيضاني الامين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين ، عراقي الاصل ، وقد أثار في مؤتمر علاقات عمان بدول المحيط الهندي والخليج خلال القرون (17،18،19) جدلا سياسيا رفيع المستوى ، وفتح نقاشا من أوسع ابوابه ، لكنهما أي الجدل والنقاش لم يلاقيا المساحة الحوارية الكافية رغم اهميتهما ، وهما يشكلان من وجهة نظري جوهر فتح التاريخ المشترك بين بلادنا ودول المحيط والخليج .
ففي إحدى منصات هذا المؤتمر الذي عقد مؤخرا في الكويت ، تساءل البيضاني ، لماذا لم تكن عمان في القرن (20) مثلما كانت عليه في القرون ( 17، 18، 19 ) ؟ وقد طرح هذا التساؤل بعد أن تجلت له في لحظة استدعاء عمان التاريخية في عهدي اليعاربة والبوسعيديين من خلال (45) ورقة بحثية من قبل باحثين وأكاديميين وتاريخيين عمانيين وعرب واجانب ، ولمدة ثلاثة ايام – صباحا ومساءً – تجلت له عمان كأكبر دولة اقليمية مؤثرة في السلم ولاستقرار الاقليمي ، دون منازع .
حتى أن بعض الباحثين استوقف الفكر البحثي في المؤتمر بعمانية وانفرادية مصطلح الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، وفند بان هذا المصطلح حقا عمانيا وليس بريطانيا ، وتساؤله قد جاء بعدما انبهر البيضاني بدور عمان التاريخية ، وامتداداتها وتحملها مسؤولية الامن والاستقرار في المحيط الهندي والخليج ، وكذلك دورها في ازدهار الفضاءين الهندي والخليجي تجاريا واخلاقيا .
· الجوانب الروحية والمادية لعمان التاريخية .
تعمقت الاوراق البحثية للمؤتمر سالف الذكر في علاقات عمان التاريخية بدول المحيط الهندي والخليج ، فبينت بجلاء دور التجار العمانيين في اقامة علاقات تجارية وسياسية وحضارية ، ومنها نشر الاسلام في دول المحيط الهندي في القرن (17- 19م) ، وابرزت أهمية التواصل بين عمان ودول المحيط الهندي والخليج ، واثرها في تقوية العلاقات العائلية والاهلية بين شعوب ودول الخليج ، وتحديد دور حركة القبائل العمانية واثرها على الترابط الاسري والعادات والتقاليد بين دول الخليج .
كما تناولت كذلك العلاقات السياسية بين عمان وبلاد فارس في عهد الامام أحمد بن سعيد – 1744، 1782م – وكذلك الدور العماني في البحرين لمواجهة الاخطار الفارسية ” طبعا البحرين التاريخية وليست فقط البحرين المعاصرة – والصراع العماني البرتغالي في السواحل الهندية والمحيط الهندي من منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ، ودراسة علاقات عمان بمشيخات الساحل بين الثبات والتغير ، وبحث في دور الديموغرافيا العمانية وانتشارها داخل الفضاءين الهندي والخليجي ..الخ
فمن خلال فتح التاريخ المشترك لعلاقات عمان بدول المحيط والخليج ، يرى البيضاني في استمرارية عمان التاريخية خلال القرن العشرين ، الضمانة للاستقرار في الفضاءين ، والضمانة لديمومة مصالح كل دولة ، لأنها قوة ليست قهرية أو تسلطية أو نفعية ، تفرض اجندتها على الاخرين ، أو تقصيهم بسبب الاختلاف معهم ايديولوجيا أو سياسيا.
وانما كانت تؤسس لمجموعة مصالح متبادلة ، ومتعايشة ، وقد جعلت منها جغرافيتها – الجيوسياسية – محطة ترانزيت على مفترق طرق التقاء الشرق والغرب ، بحكم موانئها ، حتى كانت صحار توصف بانها ( بوابة الصين ) نظرا لما يتميز به ميناؤها بالمنتجات الصينية ، وانطلاقا كذلك ، من الموانئ التي استأجرتها عمان من دول المحيط الهندي كبندر عباس وشهبار ، وما كان يقوم به النواخذه العمانيون والاسطول العماني البحري في ازدهار حركة التجارة الاقليمية والعالمية ، وتأمينها خدمة لمصالح كل الاطراف .
وهو بذلك يقارن بين نتائج القوة التاريخية العمانية ، بنظيراتها الاقليمية المعاصرة ، فتمنى الرجل لو أن عمان التاريخية ، لا تزال قائمة بكل نفوذها وامتدادها وهيمنتها ، لاستمرارية القيم والمبادئ التي اطرت وحكمت العلاقات بين دول المحيط الهندي والخليج ، بعد ان تمكن العمانيون من طرد الاستعمار البرتغالي من المحيط الهندي والخليج ، ولما شهد هذان الفضاءان الاخيران حروبا وصراعات معاصرة .
· مدى استفادة المحيط والخليج من التاريخ المشترك ؟
إن تجدد الصراعات والتوترات بين أكثر من دولة ، يعني أن الانظمة القائمة ، لم تستفد من تاريخها المشترك ، ويعني كذلك ، انها تتعاطى مع حاضرها من منظور عقلها السياسي المجرد ، دون الاخذ بعين الاعتبار هذا التاريخ ، وبالتالي الى أي مدى استفادت دول المحيط الهندي والخليج – عربه وفرسه وهنوده – من أحداث القرون ” 17، 18 ، 19 “؟
والتساؤل الاخير ، نطرحه تعضيدا لتمنيات البيضاني الذي يشكل شغلنا الشاغل الان بعد أن اطلعنا على التاريخ المشترك لهذه الدول، وهنا سنجد الفارق الكبير بينها وبين بلادنا ، فمن استلهامات التاريخ المشترك الذي خرجت منه تمنيات البيضاني ، جاء ثامن سلاطين البوسعيد، جلالة السلطان قابوس بن سعيد المفدى حفظه الله ورعاه ، مستوعبا للتاريخ المشترك لبلاده في اطار الفضاءين الهندي والخليجي بكل مفاصله التاريخية ، حروبه وصراعاته ، وسلمية علاقاته ، وجيولبتكية بلاده ، واستشرف آفاقه المعاصرة .
فعمل جلالته جاهدا على تحصين حكم دولة داخل حدود سيادية معترف بها من كل الجيران اولا ، ومن مختلف انحاء العالم ثانيا ، ثم رسخ اركان هذه الدولة داخل حدودها الترابية ، وفق مؤسسات مركزية واللامركزية ، وحول الصراع فيها الى استقرار ، والفوضى والقتال الى سلام وامن ، وانشغل بتنمية مجتمع عانى من ثلاثية التخلف – الفقر والجهل والمرض- .
وأدار التعدد والتنوع الفكري والايديولوجي والاجتماعي للديموغرافية العمانية ، من نفس منظور العيش المشترك التاريخي الذي يحق للفرد والجماعة ممارسة حياته الطبيعية بمعتقداتها في اطار احترام الآخر بكل مكوناته وحمولاته ، بصورة متبادلة. ، وصل هذا العيش المشترك الى حد الانصهار المذهبي ، فراينا مصاهرات تؤسس بين كيانات مختلفة ، هي في خارجنا ، تسال بينها الدماء ، بينما في بلادنا عيش مشترك في اطار الحياة الزوجية الواحدة ، وليس فقط داخل الدولة .
وهنا تنطبق مفردة العيش المشترك – وليس التعايش المشترك – بين مختلف المكونات الفكرية والثقافية داخل مجتمعنا دون اية حساسية أو موقف اجتماعي سلبي منها ، وهذا وراءه تعزيز لتاريخية العيش المشترك للدولة العمانية التاريخية – وقد تناولنه في مقالنا السابق المعنون أبو سعود .. وحكمة صمته وصرخاته – .
وحصرية الاستفادة الاستثناء لبلادنا من تاريخها المشترك ، نجده كذلك في رسم سياسة خارجية من وحي عمان التاريخية ، وادوارها الانسانية في تلكم القرون ، فكانت السياسة الخارجية لعمان المعاصرة ، انحيازا مطلقا للسلم الداخلي والسلام الاقليمي والدولي ، وضد الحروب والصراعات والتوترات ، فقد عاشتها عمان التاريخية داخليا وفي اطار محيطها الاقليمي ، وبالتالي ، حرمتها عمان المعاصرة على ذاتها ، ومع الاخرين .
وتمارس من أجلها اعلى ضبط النفس في علاقاتها الاقليمية على وجه الخصوص ، وقمة العقلانية التي لا تتحسس من قول ، أو تنفعل من فعل جيواستراتيجي ، وذلك حتى لا تنجر الى الحروب والصراعات أو تجر اليها ، ثم تدفع المنطقة ثمن صراع أو حرب ، يستدعي اليها عمان التاريخية .
· عمان المعاصرة .. فهم عميق لعمان التاريخية .
ربما نكون هنا ، قد قربنا الفهم في رهانات البلاد على السلم والسلام والامن والاستقرار ، لدواعٍ انسانية من منظور خبراتها التاريخية التي اثارت البيضاني ، وتمنى من خلالها لو واصلت عمان المعاصرة مسؤوليتها الجيوبوليتكية ، لكان ذلك من وجهة نظره افضل للجغرافيا الاقليمية ” برها وبحرها وثرواتها ” .
فلو واصلت عمان المعاصرة دورها التاريخي نفسه ، لما استفادت من تاريخها ، ولكانت مثل غيرها تعيش الصراعات والتوترات ، تفجيرا وتصديرا ، ولما تميزت الان بفكرها السياسي الذي جنبها ، ومعها محيطها الاقليمي ، من توظيف موقعها الجيواستراتيجي وامكانياتها المختلفة والمتعددة في الصراعات والحروب القائمة .
لكن ، إن الانكفاء الجغرافي لعمان المعاصرة ، لا يعني انغلاقها الداخلي ، وانما هي متفاعلة مع المحيط والخليج ، وخارجهما ، من منظور المبادئ والقيم نفسها التي أطرت واصلت عمان التاريخية ، فكسبت بذلك احترام الجميع ، ويقصدونها عندما تعجز القوة العسكرية في حسم النصر أو تتوفر الارادة في وقف سقوط الابرياء .
أما على الصعيد الاقتصادي ، وخاصة اقتصاد الموانئ ، فمع تجليات تمنيات البيضاني ، نجد الارادة السياسية قد اعطت الحكومة المباركة في استعادة ريادة الموانئ ابان عمان التاريخية ، وبالذات عن طريق ميناء الدقم الواقع على البحار المفتوحة ، والبعيد عن مناطق التوترات والحروب في المنطقة ، واستعادتها تتم من نفس منطق عمان التاريخية ، وهو الحفاظ ورعاية مصالح الكل ، فنجد فيه أي ميناء الدقم ، مصالح القوى الاقليمية كلها ، والعالمية كلها .
لذلك ، تكون عمان المعاصرة ، نتاج وعي سياسي رفيع واصيل ، يمزج بين المفيد لعصرها من عمان التاريخية ، وتجنب ما يضرها والاخرين معها ، وهذا ما يفسر لنا ، لماذا عمان المعاصرة ، آمنة في سربها ، ومطمئنة على مستقبلها الوجودي ؟ وكذلك ،كيف أصبحت رهاناتها تكمن في الديمومة على قوتها الناعمة الكامنة في منظومة العيش المشترك لكل مكوناتها الديموغرافية ، وهذه صنيعة التاريخ في الفكر السياسي لثامن سلاطين البوسعيد .
نجدد شكرنا وتقديرنا ، لهيئة المخطوطات والوثائق الوطنية ، على ما تقوم به من أداور وطنية عظيمة ، في مجال توثيق الذاكرة العمانية ، وهي بذلك ، تفتح للفكر المعاصر ، الآفاق والرؤى ، وامكانية اسقاطاتها السياسية ، كما فعل البيضاني ، وكما نفعل في مقالاتنا الاستقرائية والاستشرافية لفهم ما يجري في بلادنا ، وما ينبغي أن يكون داخل محيطنا الهندي والخليجي .. والله يوفق كل العاملين فيها ، وعلى رأسهم سعادة الدكتور الضوياني.
أثير- د.عبدالله باحجاج
أثير- د.عبدالله باحجاج
البيضاني هو الأستاذ الدكتور ابراهيم سعيد البيضاني الامين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين ، عراقي الاصل ، وقد أثار في مؤتمر علاقات عمان بدول المحيط الهندي والخليج خلال القرون (17،18،19) جدلا سياسيا رفيع المستوى ، وفتح نقاشا من أوسع ابوابه ، لكنهما أي الجدل والنقاش لم يلاقيا المساحة الحوارية الكافية رغم اهميتهما ، وهما يشكلان من وجهة نظري جوهر فتح التاريخ المشترك بين بلادنا ودول المحيط والخليج .
البيضاني هو
الأستاذ الدكتور ابراهيم سعيد البيضاني الامين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين ، عراقي الاصل ، وقد أثار في مؤتمر علاقات عمان بدول المحيط الهندي والخليج خلال القرون (17،18،19) جدلا سياسيا رفيع المستوى ، وفتح نقاشا من أوسع ابوابه ، لكنهما أي الجدل والنقاش لم يلاقيا المساحة الحوارية الكافية رغم اهميتهما ، وهما يشكلان من وجهة نظري جوهر فتح التاريخ المشترك بين بلادنا ودول المحيط والخليج .
ففي إحدى منصات هذا المؤتمر الذي عقد مؤخرا في الكويت ، تساءل البيضاني ، لماذا لم تكن عمان في القرن (20) مثلما كانت عليه في القرون ( 17، 18، 19 ) ؟ وقد طرح هذا التساؤل بعد أن تجلت له في لحظة استدعاء عمان التاريخية في عهدي اليعاربة والبوسعيديين من خلال (45) ورقة بحثية من قبل باحثين وأكاديميين وتاريخيين عمانيين وعرب واجانب ، ولمدة ثلاثة ايام – صباحا ومساءً – تجلت له عمان كأكبر دولة اقليمية مؤثرة في السلم ولاستقرار الاقليمي ، دون منازع .
حتى أن بعض الباحثين استوقف الفكر البحثي في المؤتمر بعمانية وانفرادية مصطلح الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، وفند بان هذا المصطلح حقا عمانيا وليس بريطانيا ، وتساؤله قد جاء بعدما انبهر البيضاني بدور عمان التاريخية ، وامتداداتها وتحملها مسؤولية الامن والاستقرار في المحيط الهندي والخليج ، وكذلك دورها في ازدهار الفضاءين الهندي والخليجي تجاريا واخلاقيا .
· الجوانب الروحية والمادية لعمان التاريخية .
الجوانب الروحية والمادية لعمان التاريخية .
تعمقت الاوراق البحثية للمؤتمر سالف الذكر في علاقات عمان التاريخية بدول المحيط الهندي والخليج ، فبينت بجلاء دور التجار العمانيين في اقامة علاقات تجارية وسياسية وحضارية ، ومنها نشر الاسلام في دول المحيط الهندي في القرن (17- 19م) ، وابرزت أهمية التواصل بين عمان ودول المحيط الهندي والخليج ، واثرها في تقوية العلاقات العائلية والاهلية بين شعوب ودول الخليج ، وتحديد دور حركة القبائل العمانية واثرها على الترابط الاسري والعادات والتقاليد بين دول الخليج .
كما تناولت كذلك العلاقات السياسية بين عمان وبلاد فارس في عهد الامام أحمد بن سعيد – 1744، 1782م – وكذلك الدور العماني في البحرين لمواجهة الاخطار الفارسية ” طبعا البحرين التاريخية وليست فقط البحرين المعاصرة – والصراع العماني البرتغالي في السواحل الهندية والمحيط الهندي من منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ، ودراسة علاقات عمان بمشيخات الساحل بين الثبات والتغير ، وبحث في دور الديموغرافيا العمانية وانتشارها داخل الفضاءين الهندي والخليجي ..الخ
فمن خلال فتح التاريخ المشترك لعلاقات عمان بدول المحيط والخليج ، يرى البيضاني في استمرارية عمان التاريخية خلال القرن العشرين ، الضمانة للاستقرار في الفضاءين ، والضمانة لديمومة مصالح كل دولة ، لأنها قوة ليست قهرية أو تسلطية أو نفعية ، تفرض اجندتها على الاخرين ، أو تقصيهم بسبب الاختلاف معهم ايديولوجيا أو سياسيا.
وانما كانت تؤسس لمجموعة مصالح متبادلة ، ومتعايشة ، وقد جعلت منها جغرافيتها – الجيوسياسية – محطة ترانزيت على مفترق طرق التقاء الشرق والغرب ، بحكم موانئها ، حتى كانت صحار توصف بانها ( بوابة الصين ) نظرا لما يتميز به ميناؤها بالمنتجات الصينية ، وانطلاقا كذلك ، من الموانئ التي استأجرتها عمان من دول المحيط الهندي كبندر عباس وشهبار ، وما كان يقوم به النواخذه العمانيون والاسطول العماني البحري في ازدهار حركة التجارة الاقليمية والعالمية ، وتأمينها خدمة لمصالح كل الاطراف .
وهو بذلك يقارن بين نتائج القوة التاريخية العمانية ، بنظيراتها الاقليمية المعاصرة ، فتمنى الرجل لو أن عمان التاريخية ، لا تزال قائمة بكل نفوذها وامتدادها وهيمنتها ، لاستمرارية القيم والمبادئ التي اطرت وحكمت العلاقات بين دول المحيط الهندي والخليج ، بعد ان تمكن العمانيون من طرد الاستعمار البرتغالي من المحيط الهندي والخليج ، ولما شهد هذان الفضاءان الاخيران حروبا وصراعات معاصرة .
· مدى استفادة المحيط والخليج من التاريخ المشترك ؟
مدى استفادة المحيط والخليج من التاريخ المشترك ؟
إن تجدد الصراعات والتوترات بين أكثر من دولة ، يعني أن الانظمة القائمة ، لم تستفد من تاريخها المشترك ، ويعني كذلك ، انها تتعاطى مع حاضرها من منظور عقلها السياسي المجرد ، دون الاخذ بعين الاعتبار هذا التاريخ ، وبالتالي الى أي مدى استفادت دول المحيط الهندي والخليج – عربه وفرسه وهنوده – من أحداث القرون ” 17، 18 ، 19 “؟
والتساؤل الاخير ، نطرحه تعضيدا لتمنيات البيضاني الذي يشكل شغلنا الشاغل الان بعد أن اطلعنا على التاريخ المشترك لهذه الدول، وهنا سنجد الفارق الكبير بينها وبين بلادنا ، فمن استلهامات التاريخ المشترك الذي خرجت منه تمنيات البيضاني ، جاء ثامن سلاطين البوسعيد، جلالة السلطان قابوس بن سعيد المفدى حفظه الله ورعاه ، مستوعبا للتاريخ المشترك لبلاده في اطار الفضاءين الهندي والخليجي بكل مفاصله التاريخية ، حروبه وصراعاته ، وسلمية علاقاته ، وجيولبتكية بلاده ، واستشرف آفاقه المعاصرة .
فعمل جلالته جاهدا على تحصين حكم دولة داخل حدود سيادية معترف بها من كل الجيران اولا ، ومن مختلف انحاء العالم ثانيا ، ثم رسخ اركان هذه الدولة داخل حدودها الترابية ، وفق مؤسسات مركزية واللامركزية ، وحول الصراع فيها الى استقرار ، والفوضى والقتال الى سلام وامن ، وانشغل بتنمية مجتمع عانى من ثلاثية التخلف – الفقر والجهل والمرض- .
وأدار التعدد والتنوع الفكري والايديولوجي والاجتماعي للديموغرافية العمانية ، من نفس منظور العيش المشترك التاريخي الذي يحق للفرد والجماعة ممارسة حياته الطبيعية بمعتقداتها في اطار احترام الآخر بكل مكوناته وحمولاته ، بصورة متبادلة. ، وصل هذا العيش المشترك الى حد الانصهار المذهبي ، فراينا مصاهرات تؤسس بين كيانات مختلفة ، هي في خارجنا ، تسال بينها الدماء ، بينما في بلادنا عيش مشترك في اطار الحياة الزوجية الواحدة ، وليس فقط داخل الدولة .
وهنا تنطبق مفردة العيش المشترك – وليس التعايش المشترك – بين مختلف المكونات الفكرية والثقافية داخل مجتمعنا دون اية حساسية أو موقف اجتماعي سلبي منها ، وهذا وراءه تعزيز لتاريخية العيش المشترك للدولة العمانية التاريخية – وقد تناولنه في مقالنا السابق المعنون أبو سعود .. وحكمة صمته وصرخاته – .
وحصرية الاستفادة الاستثناء لبلادنا من تاريخها المشترك ، نجده كذلك في رسم سياسة خارجية من وحي عمان التاريخية ، وادوارها الانسانية في تلكم القرون ، فكانت السياسة الخارجية لعمان المعاصرة ، انحيازا مطلقا للسلم الداخلي والسلام الاقليمي والدولي ، وضد الحروب والصراعات والتوترات ، فقد عاشتها عمان التاريخية داخليا وفي اطار محيطها الاقليمي ، وبالتالي ، حرمتها عمان المعاصرة على ذاتها ، ومع الاخرين .
وتمارس من أجلها اعلى ضبط النفس في علاقاتها الاقليمية على وجه الخصوص ، وقمة العقلانية التي لا تتحسس من قول ، أو تنفعل من فعل جيواستراتيجي ، وذلك حتى لا تنجر الى الحروب والصراعات أو تجر اليها ، ثم تدفع المنطقة ثمن صراع أو حرب ، يستدعي اليها عمان التاريخية .
· عمان المعاصرة .. فهم عميق لعمان التاريخية .
عمان المعاصرة .. فهم عميق لعمان التاريخية .
ربما نكون هنا ، قد قربنا الفهم في رهانات البلاد على السلم والسلام والامن والاستقرار ، لدواعٍ انسانية من منظور خبراتها التاريخية التي اثارت البيضاني ، وتمنى من خلالها لو واصلت عمان المعاصرة مسؤوليتها الجيوبوليتكية ، لكان ذلك من وجهة نظره افضل للجغرافيا الاقليمية ” برها وبحرها وثرواتها ” .
فلو واصلت عمان المعاصرة دورها التاريخي نفسه ، لما استفادت من تاريخها ، ولكانت مثل غيرها تعيش الصراعات والتوترات ، تفجيرا وتصديرا ، ولما تميزت الان بفكرها السياسي الذي جنبها ، ومعها محيطها الاقليمي ، من توظيف موقعها الجيواستراتيجي وامكانياتها المختلفة والمتعددة في الصراعات والحروب القائمة .
لكن ، إن الانكفاء الجغرافي لعمان المعاصرة ، لا يعني انغلاقها الداخلي ، وانما هي متفاعلة مع المحيط والخليج ، وخارجهما ، من منظور المبادئ والقيم نفسها التي أطرت واصلت عمان التاريخية ، فكسبت بذلك احترام الجميع ، ويقصدونها عندما تعجز القوة العسكرية في حسم النصر أو تتوفر الارادة في وقف سقوط الابرياء .
أما على الصعيد الاقتصادي ، وخاصة اقتصاد الموانئ ، فمع تجليات تمنيات البيضاني ، نجد الارادة السياسية قد اعطت الحكومة المباركة في استعادة ريادة الموانئ ابان عمان التاريخية ، وبالذات عن طريق ميناء الدقم الواقع على البحار المفتوحة ، والبعيد عن مناطق التوترات والحروب في المنطقة ، واستعادتها تتم من نفس منطق عمان التاريخية ، وهو الحفاظ ورعاية مصالح الكل ، فنجد فيه أي ميناء الدقم ، مصالح القوى الاقليمية كلها ، والعالمية كلها .
لذلك ، تكون عمان المعاصرة ، نتاج وعي سياسي رفيع واصيل ، يمزج بين المفيد لعصرها من عمان التاريخية ، وتجنب ما يضرها والاخرين معها ، وهذا ما يفسر لنا ، لماذا عمان المعاصرة ، آمنة في سربها ، ومطمئنة على مستقبلها الوجودي ؟ وكذلك ،كيف أصبحت رهاناتها تكمن في الديمومة على قوتها الناعمة الكامنة في منظومة العيش المشترك لكل مكوناتها الديموغرافية ، وهذه صنيعة التاريخ في الفكر السياسي لثامن سلاطين البوسعيد .
نجدد شكرنا وتقديرنا ، لهيئة المخطوطات والوثائق الوطنية ، على ما تقوم به من أداور وطنية عظيمة ، في مجال توثيق الذاكرة العمانية ، وهي بذلك ، تفتح للفكر المعاصر ، الآفاق والرؤى ، وامكانية اسقاطاتها السياسية ، كما فعل البيضاني ، وكما نفعل في مقالاتنا الاستقرائية والاستشرافية لفهم ما يجري في بلادنا ، وما ينبغي أن يكون داخل محيطنا الهندي والخليجي .. والله يوفق كل العاملين فيها ، وعلى رأسهم سعادة الدكتور الضوياني.