د.محمد العريمي- كاتب وأكاديمي عماني
خلال إقامتي في المحروسة لمدة أربع سنوات، ثم زياراتي المتوالية لها بعد انتهاء فترة الإقامة كنت حريصاً على زيارة الأماكن والمعالم المعروفة بشكلٍ مرَضيّ؛ فما إن أقرأ عن مقهىً ما له تاريخٌ معيّن، أو تطالعني صورة لسوقٍ أو لقصرٍ أو حتى لبيتٍ أثريّ حتى ولو في فيلمٍ عربيّ قديم إلا وأحاول استكشافه وزيارته في أقرب فرصةٍ ممكنة خشية أن يفوتني زيارته، وخوفاً من عدم تكرار فرصة الزيارة مستقبلاً! كيف لا والقاهرة ما هي إلا متحفٌ كبير قبل أن تكون مدينةً عصريّة!

ومن الأماكن التي كانت تلفت انتباهي وتجعلني أقف أمامها بعين المتأمل قصر (عابدين) الشهير في الحيّ الشعبيّ الذي يأخذ الاسم ذاته كجسر عبورٍ بين القاهرة الإسلاميّة في الأزهر والحسين وخان الخليلي والغوريّة والقطائع والعسكر، والقاهرة الأوروبيّة حيث (باريس الجديدة) في طلعت حرب وقصر النيل وعماد الدين!

وعلى الرغم من تكرار وقوفي أمام بوّابته السوداء الضخمة في أكثر من مناسبة إلا أنني كنت أكتفي في كل مرّة بمطالعة الأطفال وهم يلهون بالكرة، أو بالأسر وهي تفترش النجيل الأخضر وبالأخص في ليالي رمضان الجميلة، أو أن أسرح بعيداً وأنا أتخيّل إسماعيل باشا وهو يختار المكان لإقامة القصر، أو الملك فؤاد وهو يفتتح مأدبةً ملوكيّة فاخرة بها كانت (المصوّر) قد أعلنت عن قائمة وجباتها، أو دبّابات الإنجليز وهي واقفة أمام مدخل القصر بعد إعلان 1942 الشهير! إلا أنني في كل مرةٍ كنت أؤجل الدخول إلى دهاليزه وسبر أغواره ممنّياً النفس بفرصةٍ قادمةٍ لا محالة حتى اتخذت قراري أخيراً بعد (12) عاماً من أول وقوفٍ لي عند بابه!

وقصر عابدين يمكن اعتباره أهم وأشهر القصور التي شيّدت خلال حكم أسرة (محمد علي) وتحديداً في عهد الخديوي إسماعيل الذي يعود إليه الفضل في إنشاء أغلب معالم مصر الحديثة كالأوبرا، ودار الكتب، وكوبري قصر النيل، وشق شارع الهرم، وتخطيط القاهرة الأوروبيّة، ومتحف الفنون الإسلامية، وقائمة أخرى تطول من المعالم البارزة في مختلف المجالات!

وتعود تسمية القصر إلى (عابدين بك) الذي كان أحد القادة العسكريين في عهد محمد علي، وكان يمتلك قصراً صغيراً في المكان ذاته اشتراه منه الخديوي إسماعيل وضم إليه أراضي واسعة تم تشييد القصر الحالي عليها كبدايةٍ لتخطيط القاهرة الحديثة على النمط الأوروبي من ميادين فسيحة، وشوارع واسعة، وقصور ومباني وجسور، ثم انتقل إليه للإقامة مع أسرته تاركاً القلعة التي كانت مقر الحكم السابق منذ زمن صلاح الدين الأيوبي، ومع توالي الحكام الذي خلفوه بدأ كل منهم بوضع لمساته الخاصة على القصر حتى أصبح أقرب للمتحف منه إلى القصر، وبدأ وقتها التفكير في تخصيص بعض قاعاته لعرض بعض مقتنيات الأسرة ما لبثت إن توسعت هذه القاعات بعد ذلك لتضم خمسة متاحف متخصصة.
بمجرّد دخولك إلى القصر من المدخل الذي يتوسط الجدار الشمالي تطالع مجموعة من الصور النادرة لعدد من أفراد أسرة (محمد علي) معلّقة على جدران الحوائط، وكأنها ممر بين الماضي والحاضر، أو لتأهيل الزائر نفسياً للتعايش مع ما سيراه لاحقاً.

عند خروجك من بوّابة المدخل الدائريّة تجد نفسك وسط ساحة خضراءَ كبيرة تعرف بساحة (النافورة) حيث أن هناك نافورةً كبيرة تتوسطها، وعلى امتداد البساط الأخضر للساحة تتناثر هنا وهناك عدداً من التماثيل النصفيّة لحكّام الأسرة العلويّة السابقين، وبعض المدافع التاريخيّة، وضريح (سيدي بدران)؛ وهو ضريح سابقٌ لبناء القصر أمر الخديوي إسماعيل بالحفاظ عليه وعدم نقله من مكانه ربما نيلاً للبركة، حيث تم تجديده وتزيين قبّته وجدرانه بزخارف رائعة.

بعد عبورك للساحة الكبيرة باتجاه أقسام القصر تبدأ جولتك في المتاحف المتخصّصة حيث ستجد أمامك لوحةً جداريّةً معلّقة أمام أحد الأبواب الكثيرة تشير إلى متحف الأسلحة الذي ينقسم إلى عدّة أقسام مثل قسم الأسلحة البيضاء الذي يضم مجموعات نادرة من هذا النوع من الأسلحة من فؤوس، ودبابيس قتال، ومطارق، وسيوف، وخناجر، وسكاكين، وأدوات صيد وغيرها، وسيبهرك تفنّن أصحابها في تزيين تلك الأسلحة بالذهب والفضّة والعاج والأحجار الكريمة بل والماس كذلك، وستشدّك الزخرفة الدقيقة، والكتابات المختلفة بأسلاك الذهب والفضّة وكأن تلك الأسلحة صنعت للعرض لا للاستخدامات الخاصّة بها.
ومن بين المعروضات في هذا القسم ستقف كثيراً أمام سيف السلطان العثماني سليم الأول، وستلمح سيف نابليون بونابرت، وستتأمل دقّة صنع سيف القائد الألماني روميل، إلى جانب سيوف الملكة فيكتوريا، ومحمد علي، وسليمان القانوني.

خلال تجوالك في متحف الأسلحة ستمر بساحة المدافع، وهي عبارة عن ساحة عرض مكشوفة تضم عدداً من المدافع المختلفة متنوّعة الأحجام والطرازات وأماكن الصنع، تدل على الجهد الكبير الذي بذله محمد علي لتطوير الجيش المصري حتى أصبح أقوى جيوش المنطقة في عهده وعهد أبنائه، بعدها يطالعك مدخل قسم الأسلحة الناريّة الذي يعد أكبر أقسام المتحف ويضم مجموعة كبيرة من الأسلحة المتنوّعة كالأسلحة الخداعيّة، ومجموعة البنادق بحسب تطوّر صنعها ابتداءً من بنادق البارود، وكذلك البنادق التي تعود إلى العصور المملوكيّة والعثمانيّة والإيرانيّة، مروراً بالبنادق الحديثة التي تعود إلى أوروبا وأمريكا، وهنا ستقف مدهوشاً كذلك من دقّة صنع العديد من هذه البنادق، وروعة النقوش والزخارف الخاصّة بها، وستجد في هذا القسم مجموعات نادرة خاصة بمحمد علي، وأخرى بنابليون بونابرت.
بعد أن تترك متحف الأسلحة تجد أمامك لوحةً أخرى تدلك على قسمٍ آخر يضم متحف الأوسمة والنياشين وما أكثرها، وهذا المتحف ينقسم إلى قسمين: الأول خاص المقتنيات الملكيّة الخاصة حيث يضم تحف ومقتنيات متنوّعة مثل مجموعة (هولند آند هولند) التي تعد أغلى أنواع بنادق الصيد في العالم، وسيف نادر مرصّع بالأحجار الكريمة يعرف باسم (سيف التتويج) وهو خاص بأباطرة روسيا، وطاقم (كمر) من الجدل المحلّى بالذهب لحمل طلقات الرصاص، ومجموعة من علب السجائر والنشوق من الذهب، وأدوات مكتب الملك فاروق، وغيرها من المقتنيات النفيسة.

أما قسم الأوسمة والنياشين فيضم مجموعات رائعة من الأوسمة والنياشين والميداليات التي تمتاز بتصميماتها الرائعة، والإتقان المدهش في صناعتها، وأغلبها من الذهب أو الفضة، وكثير منها مرصّع بالماس والأحجار الكريمة.
لا تزال الجولة متواصلة داخل متاحف القصر وهذه المرة نقف عند متحف هدايا رئاسة الجمهوريّة الذي تم تخصيصه للهدايا التي يتلقّاها رئيس الجمهوريّة في المناسبات والأعياد الوطنيّة المختلفة، والتحف والمقتنيات التي أهديت إليه خلال جولاته الخارجيّة المختلفة، عدا هدايا الهيئات والمؤسسات المحليّة والعالمية، والحكومات المختلفة، وخلال جولتي في هذا المتحف وقفت طويلاً أمام عدد من الهدايا المتبادلة مع بلدان العالم المختلفة والخليجيّة بشكل خاص، حيث شدّني الحرص على أن تكون الهدية المقدّمة تعبّر عن روح البلد وحضارتها!
ولا يمكن زيارة قصر عابدين دون دخول أحدث متاحفه وأقصد به متحف الوثائق التاريخيّة الذي يعرض لمجموعة نادرة من الوثائق التاريخيّة المختلفة في عهد الأسرة العلويّة كفرمانات تعيين الأبناء والأحفاد، ومجموعة من الشهادات والدبلومات الفخريّة، وألبومات الصور النادرة.

ختام الجولة في متاحف قصر عابدين يكون عادةً في متحف الفضيّات الذي يعرض نفائس الأسرة العلويّة من فضيّات وكريستالات وغيرها، وهنا ستجد الكثير من الأدوات والأواني والتحف المستخدمة في تناول الأطعمة والمشروبات من صواني وصحون وسلطانيّات وحوامل للصحون وغيرها، بجانب المغارف والشوَك والسكاكين، عدا التحف الفضيّة التي كانت تزيّن حجرات الطعام، ومماسك الثلج، وقواطع السيجار، ومنافض السجائر، والشمعدانات.
وما يميّز هذه المعروضات الفضيّة عدا قيمتها الماديّة والتاريخيّة أنها تكشف حالة الرقيّ والبذخ التي كانت تعيشها الأسرة الحاكمة سابقاً، فضلاً عن اعتبارها تحفاً فنيّة من الطراز الأول لا يمكن تقدير قيمتها بثمن!
بعد الانتهاء من جولتك التاريخيّة لا تنس شراء كتيّب المتحف، وبعض الصور والهدايا والشعارات التذكاريّة الخاصة به، والأهم من ذلك أن تخبر معارفك من راغبي زيارة القاهرة بعدم تجاوز هذا المعلم المهم الذي يعد شاهداً على حقبةٍ مهمّة من حقب التاريخ المصري شهدت مصر خلالها ازدهاراً وانفتاحاً غير مسبوق وبالأخص في عهد (عرّاب) النهضة الحديثة وأقصد به الخديوي إسماعيل.
المراجع:
1- دليل متاحف قصر عابدين.
2- جولة ميدانية في القصر.