أثير- د.عبدالله باحجاج
سنتناول مفهوم الأمن الشامل في بلادنا ، من نظرتنا اليه – كما هو – وفق بيئتنا العمانية بكل مكوناتها ، وخاصة الديموغرافية ، وانعكاسات التنمية على الامن ، والعكس صحيح ، فلدى بلادنا الآن ، تجربة ناجحة بامتياز في مجال تأسيس منظومة الامن الشاملة ، ينبغي أن تظل حاكمة لمساراتنا المستقبلية ، ومقياسا لنجاح أو فشل اية توجهات جديدة ، فهل ينتابنا القلق عليها ؟
ليس هناك خلاف او اختلاف حول الإجابة ، وكلنا متفقين على ان القلق يشكل هاجسنا المشترك ، حتى لو كانت في الأحوال الاعتيادية سيظل هاجسا لأننا جميعا ندرك أهميته ، ونعلم الجهد المبذول في تأسيسه ، وليس لدينا خيار بديلا عنه ، وهو قناعة عقلية جماعية ، تحصنها حالة مجتمعاتنا قبل 1970 ، وتثبته كخيار دائم وثابت ومقدس ، ما يحدث داخل محيطنا الإقليمي من معاناة الشعوب بسبب الحروب والتوترات والجوع والفقر والتشريد .
- من حقنا نقلق من مصادر القلق
مصادر القلق عديدة خارجية وداخلية ، ومهما كانت ينبغي أن لا تتاح لها البيئة المواتية للاختراق ، وهذا يحتم إعمال الذكاء في مرحلة التحولات الراهنة التي تستهدف تحضير بلادنا لمرحلة ما بعد النفط من الآن وقبل اوانه ، بعد أن هزتنا أزمة النفط الاخيرة .
وإعمال الذكاء يرشدنا الى القول إن اية سياسة أو فعل .. في اطار هذه المرحلة ، يجب أن تعزز هذه المنظومة الأمنية الشاملة ، وتراكماتها البنائية ، والا ، يعاد النظر فيهما فورا، فهذه المنظومة قد تم بناؤها عبر مراحل طويلة من خلال عقود تراكمية ، فهل نقبل من حيث المبدأ ، أن نمس بناءها التراكمي ؟
وهنا يستدعي التذكير بهذه التجربة ، فالوعي بها ، هو نصف الحل الاستدراكي للتحولات الراهنة ، وبالتالي ، نتساءل ، كيف ينبغي أن ننظر لتجربة الامن الشامل في بلادنا ؟ وكيف يمكن مواجهة التحولات الكبرى التي تشهدها بلادنا منذ منتصف عام 2014؟
- قوتنا الناعمة
استخدم مصطلح القوة الناعمة لأول مرة من قبل جوزيف ناي الذي كان مساعدا لوزير الدفاع في حكومة بيل كلينتون ورئيس مجلس المخابرات الوطني الأمريكي ، في كتابه ” القوة الناعمة ” وقد عدّها وسيلة لنجاح السياسة الدولية ، أكثر من القوة الخشبة ، التي تتمثل في القوة العسكرية ، ومساحات الدول وموقعها الجيواستراتيجي وثرواتها الاقتصادية ..إلخ والقوة الناعمة على عكس القوة الخشنة أو الصلبة ، وتتمثل في الثقافة والقيم والفنون والدبلوماسية .. إلخ .
لن نبالغ إذا ما قلنا بأن الفكر السياسي لجلالة السلطان قابوس بن سعيد المفدى حفظه الله ، قد سبق ناي في فكره بعقود ، هذه ليست مبالغة أو عاطفة انحيازية ، وإنما حقيقة ، فعلينا أولا إثبات ذلك ، قبل الانتقال الى كيفية الحفاظ عليها .
من المعروف أن ناي قد وضع كتابه عام 1999، وقد لاقى رفضا مطلقا في حينه ، قبل ان يلقى قبولا لاحقا ، وتتبناه الدول كقوة غير تقليدية ، بل وأكبرها تأثيرا في العصر الحديث .
بينما كانت رهانات قائد مسيرتنا حفظه الله ورعاه ، على التعليم والثقافة والدين والسلم المجتمعي والسلام الإقليمي والعالمي منذ يوم الثالث والعشرين من يوليو 1970- وهي مصادر القوة الناعمة – وفي حالات كثيرة يصبح لها الأولوية على القوة الخشنة لبلادنا ، المتمثلة في القوة العسكرية وقوة موقع بلادنا الجيواستراتيجي ، فلم يوظفان هاتين القوتين مثلا في تحقيق النصر النهائي على الأحداث الداخلية في بلادنا في بداية السبعينيات ، أو ضد اجندة أو لصالح لدول دون أخرى ، وانما كان عاملا مساعدا لاستقرار المنطقة وأمنها ، وديمومة المصالح العالمية .
الأهم الذي يهمنا هنا ، هو توظيف التنمية لخدمة المقاصد الأساسية للقوة العمانية الناعمة ، وذلك عبر فك علاقة المواطن البنيوية بالتخلف الشامل الذي كان يشكل حياته قبل 1970، فتم انتشاله من ثالوثه البغيض – الجهل، الفقر، المرض – دون انسلاخه عن هويته ، بل وجعلها -أي الهوية- أساس قوة الشخصية العمانية ، وأهم مصادر قوة البلاد الناعمة .
فعملية التحديث قد راعت الجوانب الإنسانية في الشخصية العمانية التاريخية ، وكل ما فعلته الحداثة ، هو إضافة نماذج الحياة المعاصرة على التفاعلات الإنسانية للمواطن ، حتى لا ينعزل داخل جغرافيته ، وتتوقع معه أفكاره ومساهماته الحضارية .
والمثير هنا ، تناغم التنمية ، وانعكاساتها على تعزيز وتثبيت القيم في الشخصية العمانية ، كقيمة العيش المشترك داخل ترابه الوطني مع التسليم بالخصوصيات الفردية أو الجماعية ، وبالتالي ، لم تظهر إشكالية التعايش السلمي في بلادنا ، مثل ما تفرض نفسها سياسيا الان في دول أخرى .
وكذلك لو نظرنا ، لبقية القيم كقيمة التسامح في إطار تفاعلاتنا الإنسانية مع بعضنا البعض ، ومع الآخرين سواء الذين يشيعون بين ظهرانينا أو الذين نشترك معهم في الإنسانية خارج حدودنا ، وأيضا قيمة الانفتاح ، والتواضع .. إلخ فسنجد أنها تتعزز في الشخصية العمانية بواسطة تكريس التنمية وتطبيقاتها من المنظور الاجتماعي .
بمعنى ، ان تلكم القيم الاصيلة في الشخصية العمانية ، قد تم الحفاظ عليها وتثبيتها كمبادئ اطرت ضمن منظومة العقيدة ، وأصبحت سلوكا مجتمعيا عاما بعد تحقيق السلم المجتمعي وتثبيت اركان العيش المشترك بين المكونات الاجتماعية مع الاحتفاظ بخصوصياتها ، وهذا كله قد تم بعد استخدام السياسة المالية والاقتصادية للدولة باتجاه صناعة التنمية ، واحتواءاتها الديموغرافية ، بحيث أصبحت هذه الأخيرة تشعر بارتباطها بالدولة ، لأنها تحقق لها غاياتها التنموية .
- من السلم الداخلي إلى السلام الخارجي .
بعد تحقيق السلم الداخلي عن طريق التنمية ، تحولت السلطنة من داخلها إلى المساهمة الفعلية والجادة في تحقيق وترسيخ السلام الإقليمي والعالمي ولدى بلادنا كذلك ، تجربة ناجحة وفريدة من نوعها عالميا ، في مجال تعزيز السلام والاستقرار ، وقد تحولت السلطنة الى عاصمة عالمية لكل من ينشد السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي ، والباحث في أسس نجاحات سياستنا الخارجية ، سيجد أنها مرتبطة بنجاح تجربة تأسيس منظومة الأمن الشامل داخل ترابنا الوطني ، ومعها ، تحولت سياسة بلادنا الخارجية الى قوة ناعمة تتفوق على القوة الخشنة .
فالسلم الداخلي ، والسلام الخارجي ، هما وجهان لمنظومة الأمن الشاملة ، وهذا التشخيص الدقيق يحمل كل مؤسساتنا الدستورية والقانونية ، الحكومية والمستقلة ، مسؤولية الحفاظ على منجز الأمن الشامل ، والانتصار له مهما كانت التحديات التي تواجه بلادنا ، مع تقدير عال لبعض المسارات التي لا يكون لبلادنا فيها خيار آخر .
ويشكل العامل الديموغرافي القاسم المشترك للأمن الشامل داخليا ، ولقوة بلادنا الناعمة سياسيا ، وهذا العامل المشترك ، هل يجب أن نحافظ عليه في وجه التحديات أم نجعله يتأثر بها ؟
- وهنا بيت القصيد .
وهو أن هناك إنجازا عظيما وضخما قد تم إنجازه نتيجة عمل تراكمي يبلغ عمره الزمني أكثر من (47) عاما، وهو – الأمن الشامل – من هنا يجب الحفاظ عليه ،وينبغي أن يشكل شغلنا الشاغل تحت أية ظروف ضاغطة ، وديمومته مسؤولية الكل ، لن نفرط فيه ، ولا ينبغي السماح بالتفريط فيه ، ابدا ، والتفريط فيه ليس بالضرورة يكون من خلال فعل مادي من قبل قوى خارج السلطة ، أو من قوى خارج الحدود ، وانما قد يكون نتيجة فعل سلطوي سواء اتخذ شكل سياسة مالية أو اقتصادية أو سياسية صرفة .. الخ .
وهذا يدعو الى فتح ملف التحولات الاقتصادية والمالية في بلادنا ، ودراستها من منظور مدى تأثيرها على المنجزات التراكمية للمنظومة الأمنية الشاملة في بلادنا ، في ظل موجة الضرائب والرسوم التي تطال معظم مناحي حياتنا ، لابد من تشكيل فريق متخصص من مختلف العلوم ، علم الاجتماع ، علم السياسة ، علم الاستشراف ، علم المستقبليات .. إلخ يزود صانع القرار السياسي بالإيجابيات والسلبيات أولا بأول لمثل هذه التحولات .
وما يدعم مقترحنا ، ويعجل به ، عدم وجود رؤية حكومية اشمل للتعاطي مع تداعيات هذه التحولات الكبرى ، فهذه التحولات لا نقذف بها في البحار ولا المحيطات ، وانما داخل مجتمع قد تم تأسيسه بسياسات واستراتيجيات مختلفة شكلا وجوهرا عن ماهية التحولات الراهنة .
مما قد نشهد مجتمعا جديدا ، بقيم جديدة ، وبعلاقات جديدة مع السلطات ، وبالتالي ، علينا تصور مسبقا مشهدنا الوطني في ظل هذه التحولات الكبرى في ظل غياب الرؤية الحكومية لمواجهة تداعياتها ، لذلك ، لابد من الاستعجال بتكوين هذا الفريق التكنوقراطي حتى يعقلن الجموح نحو الضرائب والرسوم التي طالت مؤخرا حتى مربي الحيوانات والمزارعين ، في سابقة لم نشهده في دولتنا الحديثة ولا القديمة .
وفي الوقت نفسه ، ينبغي إطلاق ” نظرية التدافع ” وفق ضوابطها الوطنية ، ومرجعياتها المقدسة ، حتى يعلو صوت المدافعين عن المنجز التاريخي ” الأمن الشامل ” والتدافع ليس شرطا أن يكون بين ” حق وباطل ” فهذا مفهوم قاصر للنظرية ،وانما يشمل كذلك ، وهو الأهم في حالتنا العمانية المعاصرة ، التدافع العلني من أجل ماهيات التطور ، ونتائجه المتعددة ، فالرأي الحكومي في فرض الضرائب والرسوم على المجتمع ، لدواعي السيولة المالية ، يقابله رأي آخر للفاعلين – سواء كانوا أعضاء الشورى والبلدي والكتاب والصحفيين- يرون فيها مساسا خطيرا بجوهر أركان الامن الشامل ، يدخلان في صلب التدافع الطبيعي ، وهو المسلم به ، والبديهي لضبط مسارات وتداعيات التحولات الكبرى في بلادنا ، فغياب الدراسات الاستشرافية والقصور في أعمال نظرية التدافع ، يشكلان مبعث قلق مرتفع على منجزنا التاريخي ، فهل من حقنا أن نقلق على منظومة أمننا الشامل ؟