سعدية مفرح
هو وهي.. وكثير من كلام مؤجل في قاع الروح حيث البداية والنهاية نقطة تتلاشى في الغيب، وحيث الغيب صور كثيرة وعناوين جميلة للمستقبل، وللآخرين المنشغلين بتسجيل انجازات البشر السرية تحديدا.
هو وهي.. وأغنية لا تنتهي بانتهاء الموسيقى او الكلمات، بل تظل تسري في شرايين الوجد بسمته الصوفي إذا كان ينبغي ان يكون له سمتا ما لتصير في النهاية غايته الأولى والاخيرة، ولتصير منتهاه الاثير.
هو وهي.. وحنين دافق لاشياء صغيرة لا تحمل أسماء معينة، وحكايات مثيرة، وشوارع ترابية وبيوت بأبواب مفتوحة دائما، والوان مبهجة، وعيون صغيرة مزدحمة بذكائها الخارق، وكراسات محتشدة بقصائد بدائية مستلة من ذاكرة فقيرة.. له ولها.. كل على حدة أحيانا، ومعها غالبا.
يأخذها حنين الكلمات إلى بهائها الأول، حيث اكتشاف النار والجليد، وحيث الدهشة تسري في العروق كأنها تؤسس لحضارة كونية لابد منها وان كره الكارهون، وحيث البدايات الاحلى دائما.
ويأخذه حنين الكلمات إلى مصيرها الاخير، حيث النار المنطفئة بماء الجليد الذائب قسرا، وحيث تتحول الدهشة السارية في العروق إلى نوع مندثر من الحضارات الضالة في تاريخ البشر، وحيث النهايات الاكثر صدقا كما يروج الكارهون دائما.
تأخذها الذكرى إلى غياهب النسيان لعلها تنسى..
وتأخذه الذكرى نفسها إلى لجج الانتصارات المتلاحقة لعله يتذكر.
كانت أكثر من رائحة تلك التي عبقت في أرجاء الروح ومساحة الغرفة الصغيرة المزدحمة باثاثها القليل ومرآتها الغريبة عن المكان كله حيث بدت مزدحمة بوجوه فضولية باردة وبلا ملامح، وأشباح الاخرين، وحكاياتهم المنسية على الطاولات الصغيرة والارائك المريحة والارضية التي لا تكاد تبين ازدحاما.
لكن الرائحة العابقة في الارجاء كانت أكثر من رائحة بالفعل، فقد انشغلت المرأة المندهشة بتفسيرها وهي تحاول اكتشاف المكان ذي التفاصيل المتنافرة، وانشغل الرجل المندهش بتفسيرها وهو يحاول استيعاب المكان بتفاصيله التي بدت له جديدة تماما.
تشبه رائحة زهرة الليمون في تفتحها الأول، أو لعلها رائحة بحيرة تكونت للتو في ضيافة الغيم والنوارس المنتشية، او لعلها رائحة القهوة الثقيلة كما تحب تلك المرأة ان تصنعها بفيض المحبة ووابل الحنين وقليل من الاحتراف.
كان الضوء القليل كافيا ليحيط الرجل والمرأة الغارقين في الحلم المشترك في غبش النهار وهما يحاولان رسم خريطة جديدة لتضاريس علاقة قديمة.. بدت الخريطة في نهاية الامر اكثر تعقيدا مما كانا يحلمان، وكان النهار قد تخلى عن وضوحه التاريخي المضيء ليترك لهما المكان أكثر وضوحا وأقل اضاءة.
كانا يحلمان.. يحلمان فقط.
لكن الاحلام وحدها غير كافية لرسم الخريطة بألوان مناسبة لهما وللاخرين، رغم انها تستطيع ان تسير بسفن تلك العلاقة في بحر الوهم سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، إلا أن السنوات سرعان ما تتلاشى ليبدأ الزمن دورته التاريخية بعيدا عن وطأة الحنين.
انسحبت الرائحة الشهية من ألفة المكان الضيق، وعبقت بدلا منها رائحة لحم بشري يحترق بنيران الشقاء الابدي.
وكان الرجل والمرأة يفتشان في المكان بحثا عن ذلك اللحم المحترق واقفين امام المرآة الغريبة عما حولها.