أبجد

صرخة أولى

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

محمد الهادي الجزيري

مازال في المدينة ركنٌ لم تحتلّه لافتات الإشهار بعد، ركن يصلح فيه العيش بعيدا عن ضجيج العلب المتحرّكة أين أحشرُ دائما مع الأكوام البشريّة حين أكون في طريقي إلى منطقة عين زغوان أين أتلقّى حصص العلاج الطبيعيّ.

مازال في المدينة ركن يحتوي كلّ ما في الحياة من حبّ، ومازلتُ عاشقا لألوانها الزاهية، أهلها الطيبّين وأجواءها الرمضانيّة الحافلة، مازلت لي القدرة أيضا على التجوّل في أرجائها رغم المرض الذّي لحق بأوطاني واقتحمنيعابثا بجسدي ومبعثرا ما خزّنت روحي على مدى خمسين عاما من أحلام وملامح.

منذ ثلاثة أشهر بالتمام والكمال، اشتهاني الموت غير أنّ ما تبقّى لي في الحياة من حبّ وشعر توسّلوه أن يؤجّل رحيلي قليلا. صرتُ حينها قطّة منزليّة، أصبحتُ أكثر قدرة على شمّ ما علق بأقاربي من دخّان السجائر الكريهة التّي لم أعد أطيقها، صرتُ آكل وأشربُ ما تقدّمه ليزوجتي دون اكتراث بالتعقيدات الكثيرة التّي ورثتها عن أسلافي البشر، أمسيت متحدّا مع الطبيعة، أنامُ مع غروب الشمس وأصحو قبلها لأراقب حسن تنظيم دورة الوجود، آكلُ ثلاث وجبات مصحوبة بما أمر الطبيب من أدوية تضعها سعيدة بابتسامة مهدئّة في صحن فوق طاولتي، كأنّها تضع غلالا أو عصيرا ممّا أحبّ.

أحاط بي الأحبّة من كلّ نوافذ ألمي وأثثوا أزمتي بكثير من الأمل الذّي اعتصمت به كما يتمسّك طفل بثوب أمّه رفضا للفناء في متاهة الزحام، ولكن خبر وفاة ريم فاجأني في يوم متلبّد ليعود بي إلى الرفض الإنسانيّ من جديد، ولأقلع ثوب القطّة المطيعة و أقول لا في وجه العدم وألعن نواميس طبيعة تقتطف الورود من بساتيننا بلامبالاة.

لم تكن هذه الوردة الضحيّة شقيقة لي ولم تتجاوز التحيّة بيننا حدود المألوف بين الغرباء، ومع ذلك، كم تمنيّت أن أكون قادرا على مغادرة المنزل والالتحاق بموكب الدفن علّ روحي المستهلكة تجد فرصة لعناق روحها، قبل أن تتبخّر وتشكّل غيمة يتيمة تحتلّ سماء حزني إلى الأبد.

عدتُ إلى الرفض إذا وعادت ذاكرتي إلى العمل من جديد، سافرت إلى ملامح أمّي التّي سلّمتها إلى التراب، عانقت المتنبّي في بغداد، بكيتُ حرائر دمشق الصامدات، و وزّعت دموعي بالعدل على كلّ أطفال المخيّمات المبعثرة بين اليمن وليبيا وفلسطين وكلّ شبر من أرضنا.

وزّعتُ الدموع كأيّ عاجز عن خلق الأمل من رحم المأساة، علّني أعود إلى الكتابة سريعا ولعلّ يدي اليمنى لا تتعلّل ولا تملّص من دورها الوجودي، لعلّها تمطر شعرا ونثرا، وتبثّ الحياة من جديد في جسدي وأوطاني، لعلّني أعانق اللغة في القريب العاجل، لعلّني أقترف نصّا نبيّا وأنتقم من الموت على طريقتي.

Your Page Title