أخبار

الباحث السوري محمد حسن يكتب: خطة العمل الشاملة من الدانوب الأزرق إلى خليج مسقط

محمد حسن - باحث سوري

محمد حسن - باحث سوري

في هذا المشرق المُلغز، الذي اعتاد أن يستفيق على صرير الحديد ولهيب التهديدات، الجميع في المنطقة داخل الحلبة، حلبة الصراع التي لم تهدأ منذ قرون، حيث الاشتباك هو القاعدة، والسلام هو الاستثناء. لولا البقية الباقية من حكمة وتعقّل عند البعض في المنطقة، والتي تتناسب صعوداً وهبوطاً مع القدرة على التأثير واستخدام هذا التعقّل لتبريد ملفات المنطقة وفضّ الاشتباك المستمر.

في زاوية من العالم، يُعاد ترتيب الخرائط، لا على الورق، بل على وقع الدم والرماد، ومعها يستحيل السلام استثناءً نادراً... سلام الشجعان لا يتحقق إلا بجرأة الحكماء، وحكمة العقلاء.

في قلب هذا الالتهاب المزمن، حيث تتقاطع الطرق وتتصادم الإرادات، تبرز سلطنة عُمان بدبلوماسيتها المعهودة، لا صخب في صوتها، لكن أثرها على الأرض أبلغ من كل ضجيج.

في زمنٍ تتنازع فيه الأمم على مكبرات الصوت، تخرج عُمان من تحت عباءة الصمت، لا لتصرخ، بل لتهمس. تهمس في أذن الشرق الأوسط بأن للحكمة طريقاً، وللدبلوماسية ذاكرة لا تُنسى.

في دهاليز الاتفاق النووي الإيراني – الأمريكي، حين تتقاطع الأشواك بين طهران وواشنطن، تمد مسقط يداً ناعمة بين أيدٍ مشدودة إلى الزناد. تجمع عُمان الأفرقاء، فهي الدولة التي تعرف كيف تُصغي حين يصيح الجميع. ثقة تُبنى على تاريخٍ من الحياد البنّاء، فهي لم تكن يوماً طرفاً في محاور الاصطفاف الحاد في الشرق الأوسط.

في مسقط، لا تشعر أنك في طهران أو في واشنطن، بل في مكان ثالث يفهم الاثنين.

إن رؤية السلطان الراحل قابوس بن سعيد، والتي يواصلها السلطان هيثم بن طارق، تقوم على أن النفوذ لا يُحسب بعدد الطائرات، بل بعدد الجسور التي تبنيها بين الخصوم. وهذا بالضبط ما تفعله مسقط؛ تبني السلام كما تبني قلاعها: حجراً فوق حجر.

فالوساطة الحقيقية هي التي تُصنَع عندما لا يُرجى منها شيء سوى السلام. تمارس دبلوماسيتها المعهودة بانسياب، كما يُمارس الشاعر وزن القصيدة، بلاغة في الإيقاع وصدق في المعنى، فلم يكن يوماً من باب المصادفة أن يضبط الخليل بن أحمد الفراهيدي إيقاع الشعر، وتضبط مسقط على ساعتها إيقاع مفاوضات القرن.

من دار معالي السيد بدر البوسعيدي، وزير الخارجية العُماني الذي تفيض ملامحه وقاراً وصبراً، تُفتح الأبواب المغلقة، وتُرسم المسارات الممكنة في غابة المفاوضات الشائكة. فالرجل، الذي تمرّس في فك الاشتباكات وتبريد الجبهات، يعود اليوم ليجمع الأطراف من جديد، لا من موقع الحياد البارد، بل من إيمانٍ أصيل بأن لا مخرج من دوامة النزاع إلا بالحوار، ولا مستقبل للمنطقة إلا بالتفاهم.

بين مسقط وروما، كان للخطوة العُمانية في الوساطة النووية بين إيران والولايات المتحدة وقعُ القصيدة المدروسة، لا تُلقى على عجل، بل تُنسَج بوزنٍ وصبرٍ وإيقاع داخلي عميق. هنا، حيث تتشابك السياسة بالثقافة، والتاريخ بالحكمة، يسير الممكن بجوار المستحيل ويأخذ بيده إلى الضوء.

في طقسٍ سياسي لا يخلو من العبث، حيث يطلّ دونالد ترامب مجدداً تحت الأضواء، برأس فرانكشتاين تتطاير النيران من أذنيه، يتعامل مع القضايا الدولية كما لو أنها مضمار غولف، واضعاً الاتفاق أمام عصا غولف يمسكها بيديه، وعينه على حفرة بعيدة. تحاول واشنطن المناورة والعودة إلى طاولة الاتفاق النووي... المشكلة أن الدخول في خيال ترامب السياسي أشبه بالدخول إلى أدغال غير قابلة للتوقع. لا أحد يعرف إن كان الرجل يرغب فعلاً في اتفاق، أم مجرد تفاوض مفتوح يُرضي كاميرات الإعلام كمحاولة لإعادة ترتيب أوراقه في سباق الانتخابات المقبلة، والحفاظ على بريق صورته بعد تعثّر وعوده في أوكرانيا وغزة حتى هذه اللحظة. المؤشرات هذه المرة أن الرئيس الأمريكي جاد، ويبحث لنفسه عن إنجاز على طريقة أبطال أفلام هوليود.

المعادلة هذه المرة مختلفة. فطهران، وقد تمرّست على مدى عقود بدبلوماسية حائكي السجاد، لن ترضى باتفاق هشّ يُلغى بتغريدة رئاسية. فعلى العكس من وجهة نظر وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، الذي قال إبان محادثات الاتفاق النووي إن أيّ اتفاق أفضل من عدم الاتفاق، فإن الإيرانيين يرون أن عدم الاتفاق أفضل من الاتفاق الذي لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح إيران. فقد تغيّرت النظرة، وتغيّرت معها شروط العودة.

إيران اليوم، وقد دفعت ثمناً باهظاً، لا تبحث عن اتفاق جديد يمكن لساكن البيت الأبيض أن يمزقه كل أربع سنوات، بل تريد اتفاقاً يحترم سيادتها، ويُزيل العقوبات كلياً، ويُعيد رسم العلاقة على أسس من الندية والمصالح المشتركة. والإدارة الأميركية الجديدة (أو حتى القادمة) تدرك أن اتفاقاً لا يحفظ مصالح طهران – وفي مقدمتها رفع العقوبات بشكل كامل – سيكون اتفاقاً ناقصاً، لا يعيش طويلاً.

الخيارات على الطاولة، والرسائل الأميركية لا تزال مزدوجة المعاني، تراشق كلامي بين الطرفين، وإيران ترد: لا تفاوض تحت التهديد، مهما اشتد الحصار واحتدمت الضغوط. رأينا أن التصعيد في اليمن هو تصعيد آني، انتهى بفتح باب قصر العلم لفك الاشتباك في سياق المفاوضات من أجل الوصول إلى إبرام اتفاق شامل. إن العالم ينتظر الدخان الأبيض من مسقط. ليس لأن المفاوضات مجرد بروتوكول، بل لأن فشلها قد يكون بوابة إلى زمن أبوكاليبسي جديد.

لقد كان الاتفاق النووي، منذ بداياته، محاولة للإنصات للعقل وسط فوضى الإيديولوجيا. فلا يكفي امتلاك التكنولوجيا، بل تعلّم كيفية وضعها في خدمة الإنسان، لا العقيدة. بات الجميع يعلم أن البديل عن الاتفاق هو الانفجار. فلم تعد المعارك تُخاض بالسيوف، ولا حتى بالطائرات، بل بالشرائح الإلكترونية، بالذكاء الاصطناعي، بشبح الأزرار النووية، وبحسابات المعادلات المعقّدة التي تتجاوز الصواريخ إلى الهيمنة على الأزمنة.

حيث يتحوّل الزمن إلى منتجٍ في وادي السيليكون، وتتحوّل السياسة إلى ميتافيزيقا تُدار بالذكاء الاصطناعي. ووسط هذا الضجيج التكنولوجي، تبرز عُمان. إنها تعيد تعريف الهوة الدبلوماسية في عالم تحكمه الهوّات: بين صانعي السجاد في طهران وصانعي البوينغ في واشنطن، بين من يعيد تدوير العقوبات إلى فرص، ومن يراهن على التفوق لحفظ الإمبراطورية المترنّحة.

في هذه اللحظة الدقيقة، يعود الضوء لينبعث من مسقط، تحديداً من خلال تحرّكات وزير الخارجية السيد بدر البوسعيدي، الذي استطاع تحويل وزارة الخارجية في مسقط إلى نقطة ارتكاز إقليمية، يُعاد فيها رسم خطوط التماس بين الخصوم بلغة التفاهم، لا الإملاء. فالدور العُماني يبدو بسيطاً في ظاهره، لكنه شديد التعقيد في واقعه، ويتطلب بصيرة سياسية عميقة، يجسّد ما قاله ليوناردو دافنشي: “البساطة هي قمة التعقيد”. فقد استطاع هذا الدور تحويل الملفات الساخنة إلى أوراق تفاهم، والمواقف المتصلبة إلى مناطق رمادية صالحة لتقريب وجهات النظر. فالمدينة، التي احتضنت سابقاً جولات تفاوضية سرّية مهّدت لاتفاق عام 2015 على ضفاف الدانوب الأزرق، تستكمل اليوم على شاطئ بحرها ذات المسار، لتصوغ اتفاقاً يتلافى عيوب سابقه، بإيمان راسخ بأن الحوار ليس فقط أداة ناعمة، بل هو ضرورة وجودية في منطقة يحكمها برميل البارود.

في هذه المرحلة، ما أحوج الشرق الأوسط إلى صوت العقل… صوت يأتي من خليج مسقط، لا ليعظ أو يفرض، بل ليقترح طريقاً ثالثاً، طريقاً لا يمر عبر الهيمنة، بل عبر التفاهم.

ربما يكون الأمل ضئيلاً، لكنه موجود، ما دامت هناك دول كعُمان، تعرف أن أعظم الانتصارات ليست تلك التي تُحقَّق في ميادين الحرب، بل تلك التي تُنتزع على طاولات المفاوضات... بالكلمة، لا بالرصاصة. ومثلما كان الفراهيدي يؤمن أنّ كلّ بيتٍ من الشعر له وزنه وقافيته، فإنّ كل بيتٍ من بيوت عُمان، من قصر العلم إلى بيت السفارة في روما، يكتب قافية جديدة للشرق الأوسط: قافية السلام.

تحضر مسقط كما لو كانت قصيدة. تدعو إلى السلام، وتلك دعوتها منذ كانت سلطنة تربط أفريقيا بالهند، والمحيط بالداخل الصحراوي، يوم كانت زنجبار شقيقة في الحضارة، لا مجرد جزيرة في الجغرافيا.

لهذا، حين يسير السيد بدر البوسعيدي بخطى محسوبة في ممرات التفاوض، فهو لا يقلّ عن كيسنجر حنكة. لكن الفرق أن كيسنجر أراد للأميركيين أن يمتلكوا العالم، بينما يريد البوسعيدي للعالم أن يمتلك نفسه. الفارق بين من يصنع التاريخ بدم الآخرين، ومن يحاول ترميمه بالكلمة. ولذا، حين يصعد الدخان الأبيض من “بيت الحيل”، سيعرف العالم أن الشرق الأوسط لا يولد فقط من رحم الصراع، بل من رحم الحكمة، وأن سلطنة اللبان، في لحظة مفصلية من التاريخ، أعادت للعالم قدرته على الإنصات.

Your Page Title