أثير- تاريخ عمان
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
ترتبط ذاكرة الإنسان ارتباطًا وثيقًا بجملة من الأحداث أو الشواهد المادية التي تشكّل جزءًا من تجربته الحياتية، وتؤثر في وجدانه، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لتغدو تلك الذكريات حاضرة في تفاصيله اليومية ومكونًا أساسًا لهويته.
وفي ولايات سلطنة عمان ومدنها وقراها المتنوعة، تتعدد الشواهد المادية، سواء أكانت طبيعية أم من صنع الإنسان، وقد ارتبطت هذه الشواهد بوجدان السكان، وصاغت جانبًا من مشاهد طفولتهم، وما تزال ذكراها حاضرة في نفوسهم، تنبض بما تختزنه من حكايات ومشاعر.
ومن أبرز تلك الشواهد: شجر الصبار أو الصوبار التي تكاد لا تخلو ولاية عمانية من وجودها، وكانت تلك الأشجار الضخمة وارفة الظلال تشكل متنفسًا لأبناء تلك الولايات حيث يمارسون بالقرب منها العديد من الأنشطة المختلفة، وتكون مكانًا للقاءاتهم واجتماعاتهم.
وجعلان بني بو علي، كغيرها من الولايات العُمانية العريقة ذات التاريخ الضارب في القدم، تحتضن العديد من الشواهد المادية التي ارتبطت بوجدان أبنائها، ولعل من أبرزها (الصوبارة) العتيقة، التي ما تزال جذورها متشبثة بالأرض، تقاوم عوامل الإهمال والنسيان.
ومن هنا تقترب «أثير» لتروي جانبًا من حكايتها.
تعريف الصبار أو الصوبار:
هي لفظة محلية تطلق على أشجار التمر الهندي، والتمر الهندي بحسب (ويكيبيديا) شجرة تنتمي إلى الفصيلة البقولية، وتُنتج ثمارًا بنية اللون، تشبه القرون، ذات لب حلو لاذع، يُستخدم في مطابخ العالم. كما يُستخدم اللب في الطب التقليدي، وفي تلميع المعادن، ويُمكن استخدام خشب الشجرة في أعمال النجارة، ويُستخرج زيت بذور التمر الهندي من البذور.
والتمر الهندي شجرة معمرة متوسطة النمو، يصل أقصى ارتفاع لتاجها إلى 25 مترًا، ويتميز تاجها بأوراق كثيفة غير منتظمة الشكل تشبه المزهرية. تنمو الشجرة جيدًا تحت أشعة الشمس المباشرة. تفضل أنواع التربة الطينية والطمية والرملية والحمضية، وتتميز بمقاومتها العالية للجفاف.

صورة لإحدى أشجار التمر الهندي
موقع الصوبارة
لعل ذاكرة كثيرٍ من أبناء ولاية جعلان بني بو علي ستعود سنواتٍ إلى الوراء عند قراءة هذا التقرير، مستحضرين مواقف وقصصًا لا تُنسى ارتبطت بهذه الشجرة العتيقة، التي ظلّت قرونًا شامخة كأنها طودٌ عالٍ، ترفع رأسها لتطاول القلعة المهيبة القريبة منها، وتتفوّق على عذوق النخيل التي تحيط بها.
تقع الصوبارة في قلب المدينة القديمة لجعلان بني بو علي، بالقرب من مراكزها الحضارية البارزة؛ فهي تمتد غير بعيد إلى الغرب من (قلعة آل حمودة)، التي تُعدّ رمز الولاية ومركز ثقلها السياسي والإداري، وعلى مقربةٍ من المنزل الذي سكنه العالِم النجدي عبدالله بن أحمد الرواف. كما تلاصق المسجد الصغير العريق الذي ارتبط وجوده بوجودها منذ القدم، وتستمد عذوقها الحياة من فلج (الظاهر) الذي يمر من تحتها، وإلى الجنوب منها يقع سوق الجمعة العريق، ومسجد القباب الشهير، ذو القباب الاثنتين والخمسين، الذي يُعد من المعالم المعمارية والدينية البارزة في المنطقة.

قلعة آل حمودة في عام 1932م وخلفها يبدو موقع (الصوبارة). الصورة نقلًا عن حساب @البرهمي في موقع اكس. 20 أبريل 2020

صورة أخرى للصوبارة من الجهة الشرقية تعود إلى عام 1932م. مكتبة قطر الرقمية

صورة مقرّبة للصوبارة والمسجد القريب منها
الصوبارة في وجدان أبناء جعلان بني بو علي يكاد لا يوجد أحد من أبناء ولاية جعلان بني بو علي، وبالأخص من مواليد الثمانينيات وما قبلها، إلا وارتبطت ذاكرته بموقفٍ ما يتعلق بهذه الشجرة العتيقة؛ إذ كانت على مدى سنواتٍ طويلة موئلًا لتجمّع الصبية، خصوصًا في فصل الصيف، حين يفد أبناء الولاية من قراها الساحلية وأطرافها. فمع إشراقة كل صباح صيفي، كانت الصوبارة تشهد تجمعًا نابضًا بالحياة، يُشبه في حيويته أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، حيث تجتمع كل فرقة أو مجموعة من الصبية وقد أحضرت ما يلزم لإعداد (المكيكة)، تلك الوجبة الشعبية البسيطة التي تتكوّن من أوراق الصبّار الخضراء، وبعض حبات سمك القاشع، والملح، والليمون، ومقدار من البهارات، ليُخلَط كل ذلك ويُدقّ حتى يُشكّل وجبة مشبعة تشترك فيها الأيدي والضحكات، وقد امتلأ جذعها بالفتحات والحُفر الصغيرة التي أحدثها أولئك الصبية على مرّ السنين، لتكون أوعية لوجباتهم أو شواهد على مغامراتهم الصغيرة.
أما جذع الشجرة وأغصانها، فكانا بمثابة مسرحٍ مفتوحٍ لتحديات الطفولة، يتنافس فيه الصبية على تسلّقها، لمعرفة أكثرهم جرأة ومهارة في بلوغ أعلى غصن من أغصانها.
كما شكّلت (الصوبارة) نقطة استراحة طبيعية للعديد من المارة والقاصدين، فهذا في طريقه إلى السوق القريب، وذاك عائد من سقي نخيله، وثالثٌ يشق طريقه إلى منزله في الحارات الخلفية، ورابع ينتظر بدء استعراض الخيول في المضمار القريب الذي يقع خلف (الصوبارة)، وآخر جاء ليستحم في الفلج الذي تمر شريعته بمحاذاتها.
ولم يكن ذلك فحسب، بل كانت (الصوبارة) أيضًا محطة لتجمّع الوفود القادمة للسلام على الشيوخ في قلعتهم المجاورة، أو لاستقبال الضيوف القادمين من ولايات بعيدة وقريبة. كما كانت تشهد في مناسبات عديدة أداء الفنون العُمانية المغنّاة، كالرزحة، وغيرها من الفنون التقليدية التي كانت تُمارس في ظلالها الوارفة.
(الصوبارة) في الأدب المحلي:
نظرًا لقيمتها المعنوية فقد كانت (الصوبارة) في سلطنة عمان ملهمة للعديد من الشعراء
العمانيين، وقد قيلت فيها العديد من الأبيات والمقاصب الشعرية، فيقول أحد الشعراء:
عطيني يا الصبارة مرادي... وثمري من مسك وزبادي
ويقول شاعر آخر وهو الشاعر جميّل بن مبروك الراشدي:
من البارحة يشرب هماليل المطر... عود الصبارة اللي غصونه محنّيه
ويقول شاعر ثالث:
ما تكفّي من البكا يا صبارة ... تبكي ناس(ن) كامل الزين فيهم
وسّدوهم طينة من حجارة ... ما يعودوا رحمة الله عليهم
ويقول شاعر آخر:
ماشي صبارة فعمرها تنبت عنب ... عذق الصبارة غير عن عذق عنبه
بينما يصف الشاعر سالم بن شنون الصبارة بقوله:
وازمط يا عود الصبارة ... من سالف نشب أخباره
عود(ن) زاهي بغيّاته ... غيّاتن على غيّات
وكأحد رموز ولاية جعلان بني بو علي وشواهدها المهمّة، فقد كانت (الصوبارة) ملهمة للعديد من شعراء الولاية وأدباءها وكتّابها في العديد من المواقف والمناسبات.
ولعلنا نستحضر أبياتٍ كتبها الشيخ حمود بن علي بن عبدالله آل حموده على الغلاف الخلفي لكتابه الجغرافي والمعجمي المهم (دليل الأسماء). ومن ضمن تلك الأبيات:
هل أنت من دمع العيون ... يا أيها العود الحزين
تجري وتطويك المنون ... بين تضاريس السنين
تبدو على الحال المهيب ... لون التجاعيد المشيب

وهناك محاورة شعرية في فن الرزحة دارت بيت الشاعرين ربيع بن فرج الله، وجمعة بن
مسعود السعيدي، ورد فيه ذكر الصوبارة، حيث يقول الشاعر ربيع فرج الله :
قلعة ولاد حموده عالين المجد
أهل الفعل واهل العلوم الصامدة
دار المعلا صيتها بصوت الرعد
قضقض كراسيها الملوك الواكدة
ورد عليه الشاعر جمعه بن مسعود السعيدي:
يا دارنا صيتك الى العلياء صعد
تاريخنا الثابت علومه شاهده
هذي شواهدنا فكل دار ووهد
وحنين صوباره العريقة الخالدة

صورة حديثة نسبيًا للصوبارة بعد أن يبس العديد من أغصانها نقلًا عن حساب @juma hapes في موقع اكس. 17 سبتمبر 2018