رصد - أثير
إعداد - بثينة الرحبية
كيف يمكن لقصة خيالية على شاشة صغيرة أن تُحدث تأثيرًا حقيقيًا في الواقع الاقتصادي والثقافي لدولة بأكملها؟
منذ لحظة ظهوره الأولى، لم يكن مسلسل “لعبة الحبار” مجرد إنتاج درامي ناجح، بل شكّل نقطة تحوّل في مفهوم “القوة الناعمة”، واستطاع أن يحوّل كوريا الجنوبية من مجرّد مُصدّر للمحتوى الترفيهي إلى قوة إبداعية تضاهي كبريات الاقتصادات العالمية.
نجاح درامي متفجر
تم إطلاق الموسم الأول من “Squid Game” على نتفليكس في 17 سبتمبر 2021، ليس فقط كعمل درامي، ليحصد على أكثر من 142 مليون حساب خلال 28 يومًا في المنصة، ويُقدّر إجمالي المشاهدات بأكثر من 1.65 مليار ساعة في تلك الفترة، مما جعله الأكثر مشاهدة في تاريخ المنصة، حيث أشارت بلومبرغ إلى أن نتفليكس قدّرت القيمة الاقتصادية للمسلسل بنحو 900 مليون دولار، على الرغم من أن تكلفة إنتاجه بلغت نحو 21 مليون دولار فقط، أي أن العائد يُقارب أربعين ضعفًا تكلفة الإنتاج.
الاقتصاد الإبداعي والاستراتيجية الحكومية
كوريا الجنوبية لم تعول على الصدفة، بل بنت ما يُعرف بـ “الهاليو” – الموجة الكورية – عبر مؤسسات رسمية مثل KOCCA وKOFICE التي تدعم الإنتاج الثقافي وتسويق الثقافة الكورية عالميًا، ففي عام 2021، حقّق محتوى مثل K‑Pop و“Squid Game” صادرات ثقافية بلغت 12.4 مليار دولار، ما يفوق بكثير عائدات صادرات الإلكترونيات الاستهلاكية الكورية التي بلغت حوالي 4.7 مليار دولار في نفس العام.
منظومة ثقافية كانت وراء هذا النجاح، حيث تزدهر الصناعات الإبداعية بنسبة نمو سنوي تتراوح بين 4 إلى 5٪، وتُشغّل أكثر من 600,000 شخص في مختلف المجالات مثل الدراما، والصور المتحركة، والألعاب، والموسيقى .
انعكاسات اقتصادية مباشرة
أضاف عرض “Squid Game” ملايين المشتركين الجدد إلى نتفليكس، إذ كسبت المنصة حوالي 4.4 مليون مشترك في الربع الذي تلا ظهور المسلسل، وساهم في رفع أرباحها بنسبة 13٪ عن المتوقع، مما انعكس على سوق الأسهم ورفع القيمة السوقية للشركة بمليارات الدولارات .
أما المستهلكين، فقد ارتفعت مبيعات الكعك الكوري “Dalgona”، وقطع زي اللاعبين والـ Vans البيضاء بنسبة تجاوزت 7,800٪ في بعض الأسواق، كما انتشرت تحديات المسلسل على TikTok وYouTube بأكثر من 42 مليار ظهور في أول شهر لاحق للعرض.
تعزيز القوة الناعمة والصورة الدولية
“Squid Game” ساعد في رفع مكانة كوريا الجنوبية كقوة لينة ثقافيًا، ليس فقط عبر العائدات، بل عبر قدرة القصة على طرح قضايا مثل التفاوت الطبقي، وديون المستهلكين، والعلاقات الاقتصادية المعقدة في المجتمع الحديث . كما أصبحت الدراما الكورية مرجع ثقافي عالمي، مدعومة بسياسة حكومية تؤمن بالإبداع الحر لكنها غير تدخلية، تاركة المجال للقطاع الخاص ليزدهر ويبتكر .
وبحسب تقارير أكاديمية، فإن كل زيادة بنسبة 1٪ في صادرات المحتوى الكوري تؤدي إلى ارتفاع بنسبة 0.083٪ في صادرات السلع الاستهلاكية، وإقبال على السياحة بنسبة 0.019٪، مما يعكس الترابط الاقتصادي بين الفن والسلع والسفر.
السياحة والثقافة: تفاعل وتجربة
زاد اهتمام الزوار بزيارة مواقع تصوير المسلسل، وسجلت كوريا في 2023 نحو 11 مليون سائح دولي، ليرتفع العدد إلى 16.4 مليون سائح في 2024، بزيادة حوالي 48٪ عن العام السابق، ما يعكس تأثير “الهاليو” وثقافة البث الكوري على تنشيط القطاع السياحي وتأثيره الاقتصادي المباشر .
كما ساهم المسلسل في دخول الألعاب التقليدية الكورية مثل “Red Light, Green Light” و“Dalgona” إلى الوعي العالمي بخلق تحديات و“ميمز” نُشرت ملايين المرات، وتحولت إلى رمز ثقافي ومورد اقتصادي .
ثقافة كاستراتيجية اقتصادية
تمثل قصة “Squid Game” نموذجًا تعليميًا عمليًا لكيفية تحويل الثقافة إلى سلعة وطنية نافعة: عبر دعم حكومي مدروس، واستثمار خاص مرن، ووجود استراتيجية طويلة الأمد لصناعة محتوى يُستهلك عالميًا. ومن خلال دمج الفن، والترفيه، والسياسة، والاقتصاد، استطاعت كوريا الجنوبية أن تثبت أن الثقافة ليست مجرد ترفيه، بل عنوان اقتصاد ناعم ومحرّك تنمية حقيقي.
يمكن للعالم الاستفادة من التجربة الكورية: الاستثمار في المحتوى الإبداعي ليس رفاهية، بل ضرورة لتحقيق النمو، بناء الهوية، وتعزيز النفوذ الثقافي العالمي.
المصادر :
Bloomberg
UNCTAD
Invest Korea
Korea.net
ResearchGate
FactualAmerica
Air University Journal