رصد – أثير
إعداد: بثينة الرحبية
تخيّل أن يغفو إنسان لأيام، ثم لأسابيع، فشهور، حتى تمتد الغفوة لسنوات دون أن يفتح عينيه أو يُبدي أي رد فعل خارجي. هذا هو الواقع الذي يعيشه المصابون بـ ”الغيبوبة طويلة الأمد”، إحدى أكثر الحالات الطبية تعقيدًا وإثارة للقلق، ليس فقط بالنسبة للأطباء، بل للعائلات التي تعيش على أمل أن يُفتح باب الوعي من جديد.
ما الغيبوبة؟
الغيبوبة، من حيث المبدأ، هي فقدان مؤقت أو طويل للوعي، يعجز فيه الإنسان عن الاستجابة للمؤثرات الخارجية أو التفاعل مع المحيطين به. وفي الغالب، تستمر الغيبوبة لساعات أو أيام، وقد تنتج عن إصابة في الدماغ أو حالة صحية طارئة، إلا أنه في حال استمرت لأكثر من بضعة أسابيع دون تحسّن واضح، تُصنّف طبيًا تحت مسمى ”الغيبوبة طويلة الأمد“.
كيف تحدث الغيبوبة طويلة الأمد؟
تحدث عادة نتيجة اضطرابات حادة تؤثر على وظائف الدماغ الحيوية. وتُعد الإصابات الدماغية الرضّية –التي قد تحدث نتيجة حوادث مرورية– من أبرز الأسباب، إذ يتحرك الدماغ بقوة داخل الجمجمة، فتبدأ رحلة فقدان الوعي. كما يمكن لتوقف القلب المفاجئ أو حوادث الغرق أن تُفضي إلى انقطاع الأوكسجين عن الدماغ، ما يتسبب في تلف لا يمكن عكسه في بعض الأحيان. ولا يقلّ خطر الجلطات الدماغية أو النزيف الداخلي عن ذلك، إذ قد تُصيب مراكز الوعي مباشرة. كذلك، قد تكون أمراض عصبية مزمنة أو التهابات دماغية مثل التهاب الدماغ الفيروسي من المحركات الصامتة التي تدفع الإنسان تدريجيًا نحو هذا الغياب العميق عن العالم. أما الجرعات الزائدة من الأدوية أو المواد السامة فهي الأخرى ضمن الأسباب الكامنة.
حين يدخل المريض في غيبوبة، لا يعني ذلك دائمًا غيابًا تامًا، بل تبدأ رحلة معقّدة تمر بمراحل عدة. في المرحلة الأولى، تُغلق نوافذ الجسد تمامًا فلا حركة، ولا استجابة، ولا رمشة عين، وكأن العقل انسحب إلى مكان بعيد لا تصله الأصوات ولا الألم. ومع مرور الوقت، قد تنفتح العينان فجأة – لكنها ليست بالضرورة علامة على الإفاقة – بل قد تكون بداية ما يُعرف بـ ”الحالة الإنباتية”، حيث تظهر مؤشرات جسدية بسيطة كفتح العينين أو تحريك الأطراف والتنفس التلقائي. ومع ذلك، يظل المريض غير مدرك لما حوله، ولا يستجيب بأي شكل يعكس وعيًا حقيقيًا. جسد يبدو مستيقظًا، لكن العقل لا يزال غائبًا.
وقد عايش العالم العربي هذا المشهد المربك من خلال حالة الأمير السعودي الوليد بن خالد بن طلال، المعروف بلقب ”الأمير النائم“، والذي دخل في غيبوبة طويلة الأمد بعد حادث مروري، وظل في حالته تلك لسنوات، مُثيرًا اهتمام الرأي العام ومجسدًا واحدة من أندر وأغمض الحالات الطبية في العصر الحديث.
وتُعد هذه الحالات تذكيرًا مؤلمًا بأن الغيبوبة ليست مجرد غياب مؤقت عن الوعي، بل منطقة رمادية يتقاطع فيها الجسد والروح، بين الرجاء والغموض، وبين الألم والصمت.
وفي بعض الحالات، يظهر الأمل على استحياء: حركة بسيطة في العين، التفاتة طفيفة نحو صوت مألوف، استجابة خافتة لنداء بالاسم. وتُصنّف هذه العلامات ضمن ما يُعرف بـ”الحالة الأدنى من الوعي”، حيث تبدأ إشارات الدماغ –ولو بشكل غير منتظم– بالتفاعل مع العالم الخارجي من جديد. إلا أن الانتقال بين هذه الحالات لا يسير وفق جدول زمني محدد، بل يظل غامضًا، خاضعًا لاحتمالات لا يمكن التنبؤ بها.
رعاية مريض في غيبوبة طويلة الأمد تتجاوز الحفاظ على الحياة، لتصبح رحلة دقيقة تتطلب عناية جسدية ونفسية وعصبية شاملة. وتشمل الرعاية الطبية الوقاية من التقرحات الناتجة عن الاستلقاء، توفير التغذية عبر أنابيب دقيقة، والحفاظ على سلامة التنفس. وفي الخلفية، تجري محاولات دؤوبة لتحفيز الدماغ بوسائل متعددة: كالموسيقى، والأصوات المألوفة، واللمسات الحانية، وكلها تهدف إلى استثارة مناطق الوعي. كما تُستخدم أدوية محفزة للوعي لدى بعض المرضى، إلى جانب العلاج الطبيعي والوظيفي لتجنّب ضمور العضلات والحفاظ على مرونة الجسد.
لكن وعلى الرغم من كل الجهود الطبية، يظل الزمن واستجابة الدماغ هما العاملان الحاسمان. إذ لا توجد معايير ثابتة تُحدد من سيستيقظ ومتى. فكل مريض يشكل حالة فريدة من نوعها، تحيط بها أسئلة أكثر من الأجوبة.
أما العائلات، فهي الطرف الأكثر تأثرًا بهذه التجربة. الترقّب اليومي لأي إشارة مهما كانت صغيرة يتحول إلى طقس دائم: رمشة عين، شهقة نفس، ارتعاشة إصبع، كلها تُقرأ كأنها بداية معجزة. ويشير كثير من الأطباء إلى أن وجود العائلة، وتفاعلها المستمر مع المريض – بالكلام أو اللمس أو حتى الوجود الصامت – قد يُسهم في تحفيز الدماغ بطرق لا تزال غير مفهومة تمامًا علميًا.
وعلى الرغم من الصعوبات النفسية الهائلة التي تواجه الأهل، فإن بناء علاقة شفافة وقائمة على الثقة مع الفريق الطبي يسهم في تخفيف التوتر ويساعدهم على اتخاذ قرارات واعية في اللحظات المصيرية.
على المستوى الطبي، ما يزال باب الأمل مفتوحًا. فقد طوّر الباحثون خلال السنوات الأخيرة تقنيات جديدة لتحفيز الدماغ، منها التحفيز الكهربائي والمغناطيسي، والعلاج بالخلايا الجذعية، وأدوية تجريبية تهدف إلى تنشيط مراكز الوعي. ورغم أن هذه الأساليب لا تزال في مراحل الاختبار، فإنها تشكل بارقة أمل للمرضى وذويهم.
الغيبوبة طويلة الأمد ليست مجرد حالة طبية، بل تجربة إنسانية بامتياز، يتداخل فيها العلم بالأمل، والطب بالمشاعر، والمنطق بالمعجزة. ومهما بدت اللحظة ساكنة، يظل الاحتمال قائمًا أن تكون الخطوة التالية... هي الاستيقاظ.
المصادر