محمد حسن- كاتب سوري
لو سُئل زياد الرحباني عن نعيه، لرفض أن تُقال لروحه “الخلود”، هو الذي رفض كل أنواع الخلود وآمن بحركية التاريخ، كمياه نهر هادر لا يهدأ، عاش يوميات شخص عادي، واضعاً نفسه في قلب الصراع الاجتماعي بعبقرية روحية وموسيقية، متمردًا على كل المرايا الخادعة وتمكن ببصيرة وسخرية لاذعة أن يرسم وجهاً واحداً في كل المرايا، وجه الحقيقة.
وداعاً يا أيها الرائي في " فيلم أمريكي طويل " مازلنا نعيش فصول نكباته وسيوفه المسمومة التي تطعن وعينا كل يوم. لم يكن زياد صوتاً عابراً في هذا الشرق المكسور، بل كان ضميراً موسيقياً يمشي على أرصفة الذكريات لبلادٍ تحاول عبثاً أن تولد من وحي عبقرية موسيقاه. رجلٌ كُلما تكلّم شعرنا أن الزمن ينسحب بهدوء، ليترك له خشبة الكون وحده. كان صوتاً يحفر في دواخلنا، كاشفاً عن عمق التعب والاغتراب الذي يعتصرنا.
إن تسمية زياد بالرائي ليست توصيفاً فنياً فحسب، بل هي حيثية تنطلق ببساطة من فهم مشروعه حيث تتقاطع الرؤية بوصفها موقفاً وجودياً ومعرفياً مع الابتكار بوصفه فعلاً جمالياً تفكيكياً، فالرؤية عنده ليست مجرد تأمل وإنما انخراط في صلب المتناقضات وكشف الذات أمام مرآة قلقة في زمن لا يكف عن خداع نفسه وخداعنا.
فالرؤية لدى زياد لا تنفصل عن وعيه الطبقي وعن قناعته بأن الفن ليس للزركشة وإنما لخلخلة الأسس البالية لمجتمع يتحول إلى جزر صغيرة منعزلة، وذلك بتعرية ذلك التشوه وكشفه إبداعياً، بخلق صدمة لدى المتلقي وزعزعة ما اعتقدَ أنه مرساته الأثيرة ليكتشف أن تلك المرساة هي قيده الذي يجب أن يتحطم. فبحسب رأيه " إن السلفية والفن الهابط مركزهما واحد، وهما من إنتاج جهة واحدة. فمن أين يمكن أن تأتي البراءة لمثل هذا الأمر! انظر إليه هنا كم هو منفتح وهنا كم هو متشدد، إنه أصولي في المسألتين! “.
هنا يمكننا أن نلمح صدى زياد الفيلسوف: شيء من نيتشه في نقده للقيم الزائفة، ومن أدورنو في عدائه لثقافة الاستهلاك، ومن غرامشي في تموضعه داخل المجتمع كمثقف عضوي لا يعيش في برج عاجي. فزياد، يطرح باستمرار في فنه وموسيقاه ونقده الاجتماعي وحياته التي كرسها لمبادئه، دون أن يهتز جفنه أمام دفاتر الشيكات، كيف يكون الإنسان إنساناً حقيقياً في عالم لا ينفك يطمس الحقائق.
يبقى زياد حالة تتجاوز التصنيف، هو أكثر من مجرد موسيقي أو كاتب أو ممثل أو حتى فيلسوف. إنه حالة فنية وثقافية متفردة. ورث عبقرية والديه وشقّ لنفسه طريقاً خاصاً. بدأ زياد مسيرته في سن مبكرة، ولفت الأنظار من أول أعماله، مثل أغنية “سألوني الناس”، التي كتبها ولحّنها وهو في السابعة عشرة. تجلت موهبته الفذّة في مسرحياته المبكرة مثل “سهرية “، و “بالنسبة لبكرا شو؟”، و”فيلم أميركي طويل“، و“نزل السرور“، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد “، لم تكن مسرحياته مجرد عروض ترفيهية بل جاءت محملة ببنية غير تقليدية يمكن تسميتها بـِ “كولاج فني” يجمع بين المسرح والسياسة والنقد الاجتماعي والثقافي والأداء الموسيقي المتفرد، واللغة اليومية الجريئة، حيث تعكس شذرات السرد تفكك الواقع، وتًصبح اللغة اليومية أداة سحرية لاختراقه.
أعادها زياد إلى الناس عبر مسرحياته وأغانيه، وصارت عباراتها جزءًا من الحياة اليومية، حتى أصبح هناك ما يمكن تسميته بـ“معجم زيادي“، وحيث النكتة الذكية تكشف أن ما نسخر منه هو جرح حقيقي في جسد المجتمع، وتُعد النوتة الموسيقية بمثابة بيان سياسي. بزغ صوت الشعب في الأغنية اللبنانية التي تحولت ركائزها عن الريف الذي لم يعد أخضراً، ولا المدينة رومانسية، ولا الحبيبة أيقونة، وإنما كل شيء على الخشبة صار محل للمساءلة: الوطن، الحزب، العائلة، وحتى الأم.
في موسيقاه مزج زياد بين الجاز والبزق والكونترباص والمقامات الشرقية والموسيقى الكلاسيكية بأسلوب فريد حافظ فيه على الهوية رغم خروجه عن القوالب التقليدية. أعماله مع فيروز، وفرقته الخاصة، وألبوماته مثل “هدوء نسبي”، و“بما إنو“، " إلى عاصي" رسّخت مكانته كأحد أبرز المجددين في الموسيقى العربية الحديثة.
" يلي مضى من العمر ما اسمو مضى، أيّام أيّام السعد جايين !"
جملة تلخص فلسفة الأخوين عاصي ومنصور الرحباني في مسرحية “دواليب الهوا” (1965). ولأنه لأول مرة في التاريخ، عبقري ينجب عبقريًا، يرّد العبقري زياد على تلك الأنشودة بتساؤل بالنسبة لبكرا شو؟ فهو وريث موسيقى الرحابنة والمُجدد لها في آنٍ واحد، خرج عليها أيديولوجياً ونقد خطابها الرومانسي، ونقل مركز إلهامها من الريف إلى رصيف المدينة. لقد أعاد صوغ خطاب “الرحبانية” ولغتها انطلاقاً من قطيعته السياسية معها.

“بالنسبة لبكرا شو؟” عمل عبقري يعيد تعريف الواقع من حولنا، ويجعلنا نرى الأشياء المعتادة بطريقة مختلفة، يعطيها بريقًا مختلفًا، ويوقظ داخلنا فجوة كنا لا نشعر حتى بوجودها. أطلق زياد صرخته تجاه الواقع الصعب والغد المبهم وتماهى بنفسه مع تلك المسألة الوجودية. اختار الغياب في زمنٍ تحققت فيه نبوءته. عانى زياد من تليف حاد في الكبد، ما استدعى ضرورة خضوعه لعملية زرع كبد، الأمر الذي رفضه كلياً، معتبراً -ربمّا- أنه لا جدوى من البقاء وسط انهيار كل شيء.
المستقبل عند زياد ليس خطًا تصاعديًا،وحتى حين يضع احتمالات “بكرا”، فإنه لا يبنيها على مجرد أمل، بل على وعي نقدي جذري. من هنا جاء تركيزه على" تفاؤل الإرادة" لا “تفاؤل الأوهام. ”فرغم سخطه على الواقع، إلاّ أنه لم يكن عدمياً. كان يؤمن بأن البقاء فعل مقاومة، وأن النغمة، وإن انكسرت، يمكن أن تُعيد تشكيل وجدانٍ جديد.
كان “بكرا” في معجمه سؤالاً أخلاقياً قبل أن يكون مسألة زمنية. ولهذا ظلّت كل أعماله – من “نزل السرور” إلى “فيلم أميركي طويل”، من “بما إنو” إلى “إلى عاصي” – تشكّل مشروعاً مفتوحاً، لا يتوقف عند قالب ولا يتجمّد بخطاب. فزياد لا يقدّم إجابات، إنمّا يورّط المتلقي في مجهول مُلحّ. وفي هذا التورط، تنكشف أهمية زياد اليوم، أكثر من أي وقت مضى. ففي زمن الانهيارات المتزامنة، في فلسطين، وسوريا، ولبنان، وفي الوعي العربي ذاته – يعود صوته كمذكّرة احتجاج أخيرة: ضد الرجعية، ضد الطائفية، ضد استلاب الفن، ضد نسيان دروس التاريخ.
تتجلى أحد أوجه عبقريته المبكرة أنه رفض أن يُختزل في صورة نمطية كابن لأعظم أساطير لبنان، عاصي وفيروز، فجعل من فنه وفكره مشروعاً رؤيوياً يحمل بصمته المتفردة، فالحالم زياد الرحباني أنجب فيروز إبداعياً مرة أخرى، بعد أن أنجبته الى هذا العالم.
دق قبل الجميع ناقوس الحرب الأهلية اللبنانيةفي مسرحيته “نزل السرور” حيث كتب ولحن أغنية أداها صديقه العزيز جوزيف صقر “ كنا في أحلى الفنادق/ جرجرونا عالخنادق “. رد على عبثية الحرب وواكبها، وكان فنه لحظة سلام للمتحاربين أنفسهم، ومحل تقديرٍ للأفرقاء والخصوم، بالرغم من أنه لا يخفى على أحد اصطفافه الفكري وتموضعه الثقافي. زياد بصوته وفنه ومسرحياته وموسيقاه وعبقريته وفلسفته هو أقرب إلى ثائر، إلى نغمة ناي، تجعلنا نتساءل كل يوم: بالنسبة لبكرا شو؟ ليجيب هو بدماثته المعروفة بكرا السحب!
ذلك الحظ الذي لن يجلب لنا الحلول لمشاكلنا البنيوية ورؤانا المتعثرة، ولا لآفاقنا المغلقة وعقولنا الميتة، سنعيد إنتاج مآسينا ونقضي عمرنا بانتظار تذكرة السفر. فإما الرحيل وإما الموت.
رحيله الآن، في هذا التوقيت بالذات، ليس مجرد مصادفة. إنه صوت يغادرنا وسط المأساة اليومية للموت في فلسطين، وفي سوريا، وفي خرائطنا التي تتآكل لبلداننا المنكوبة.
كان زياد الرحباني بفكره وفنه بوصلة، فكيف يمكن أن يحيد عن الرؤية البعيدة والسليمة لاصطفافات المنطقة؟ فكانت عباراته المنثورة في إطلالاته الإذاعية والمرئية بمثابة مؤشر على اتجاه الصراع في المنطقة، ومنارة تنزع قصر النظر عن التائهين. ثَبتَ إلى جانب القضية الفلسطينية وحلل بدقة الأزمة السورية ورأى في الهجمة الاستعمارية عليها مشروعاً إمبريالياً لتدميرها وتقسيمها.
صرّح مراراً:
" ما فيك تبني بلد وإسرائيل عالباب، ما فيك تعمل عدالة وحرية وهني بيخلوك تختار كل يوم بين أمنك وكرامتك“.
لم يرتد زياد إلى هويته الضيقة كما فعل الكثيرون في ظل الهجمة الأمريكية على المنطقة وقال إنني مسيحي أرثوذكسي، وإنمّا قال في ظل هذه الهجمة “أنا مسلم، ولكن ليس مع الإخوان المسلمين وإنما مسلم مع روجيه غارودي”. تنبّه في أغنيته " يا زمان الطائفية " إلى هذه الآفة التي حوَّمت لتدمير النسيج الوطني في بلادنا، حتى أن عنوان المسرحية التي غنى فيها جوزيف صقر هذه الأغنية " فيلم أمريكي طويل" عنوان لمرحلة طالت وما نزال نحن ضحاياها. لطالما رجحت كفة الدولة عند زياد مهما كانت غير نموذجية، على شعارات “الحرية” التي أرادت تحطيم هيكل الدولة، وإعادة المجتمعات إلى قبائل وشرذمات تهوي على بعضها البعض بحد السيف والتكفير.
أرخى زياد ستائر كثيفة على شبابيكه، ولم يعد يُطلّ على محبيه من شرفة بيته في الحمرا، اختار الصمت ومراقبة الأحداث السياسية حتى صار يوزع موسيقاه وهو يشاهد نشرات الأخبار كما صرّح ذات مرة.
ربما كان يسكن “الهوامش” في نظر البعض، لكنه من هناك استطاع أن يرى “النصّ” كاملاً ويخلق تميزه وتفرده. كان يضع إصبعه في الجرح بمباشرة نادرة، ويقف على شفا المسافة الحرجة بين الكلمة والصمت، وحوّل كالخيميائي تلك اللحظات والأصوات الهاربة من أرصفة شارع الحمرا ومقاهيها، إلى إكسير يتألق بموسيقى كلماته العفوية. تخيّم روحية زياد على المكان، مازال يمشي على أرصفة شوارع الحمرا وينشر السحر في شوارع بيروت الجريحة.
كما قال الراحل أنسي الحاج في رثاء جوزيف سماحة، فإن موت زياد الرحباني، قَتْل. جريمة تتحمل مسؤوليتها هذه البلاد بكل ما فيها ومن فيها. لكن في كل مرة نستمع فيها إلى “آثار على الرمال ” وتتجلى فينا تلك الـ يوفوريا الموسيقية، يحضرُ زياد الرحباني ونعرف أنه ما يزال على قيد الحياة.
بالرغم من كل تلك الجراح يُصوّب لنا خطيئة اليأس. " إيه في أمل " في أغنيته لفيروز. كما صرح الرائي في أحد مقابلاته عام ٢٠٠٨: " يجب أن نأمل دائماً. تفاؤل الإرادة ما يزال موجوداً. وليس لنا سواه في الأساس، لأنه من غير الممكن أن نتابع دونه. فقيام الحركة الدينية، مهما كانت نظيفة، بوراثة الحياة الحزبية، لا يشكل مخرجاً، الأمر برمته يتوقف على مدى رجوع الحركة السياسية إلى العالم العربي. إذا لم تعد الحركة السياسة للوطن العربي فأنا أعتقد أن ما نحن فيه لا يتجه نحو حل...وإنما إلى مجهول “.
وها نحن اليوم نعيش في غمار هذا المجهول الذي حذرنا منه.