الأولى

السيدة خولة، رمزُ العطاء وضحيةُ الأسطورة

السيدة خولة

أثير- زاهر بن حارث المحروقي

في المقال السابق، تحدثتُ عن السيد المحسن حمود بن أحمد البوسعيدي، والأوقاف التي تركها في زنجبار ومكة المكرمة، والتي عكست حسَّه الدينيّ ووعيَه الاجتماعي.

والحديثُ لا يكتمل إلا بتناول سيرة ابنته السيدة خولة بنت حمود البوسعيدي، التي ورثت عنه روح العطاء، وبرزت كواحدة من الشخصيات النسائية المؤثرة في تاريخ الوقف العُماني في كلٍّ من عُمان وزنجبار؛ فهي من أوائل النساء العُمانيات اللاتي أسهمن بأوقاف علمية واجتماعية ذات بُعد إنساني واسع؛ إذ أوقفت مخطوطًا علميًّا بعنوان “الأنوار ومفتاح السرور والأفكار” من تأليف الشيخ عبد الله بن ناصر بن عبد الله الإسماعيلي، وخصصته لطلبة العلم في عام 1274هـ، ويُحفظ هذا المخطوط حاليًّا في مكتبة الشيخ سالم بن حمد الحارثي بالمضيرب.

ومن أبرز الأوقاف التاريخية التي أوقفتها في ولاية بوشر بعُمان، وقف “المربّع” حيث تشير وثائق مؤسسة بوشر الوقفية إلى أنّ هذا الوقف يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، وقد خُصص ريعه للفقراء والأيتام، بالإضافة إلى دعم الأنشطة الدينية والتعليمية.

اعتمدت السيدة خولة في تنفيذ وصيتها في عُمان على الشيخ العالِم سعيد بن ناصر الكندي، وكلّفته بشراء أراضٍ تُروى من الأفلاج لضمان استدامة الوقف واستمرارية الإنتاج الزراعي.

وتمتد أوقافُها إلى عقارات منتجة في بوشر، هذا عدا عن ممتلكاتها التي أوقفتها في زنجبار.

اشتهرت السيدة خولة بزراعتها أشجار المانجو (الأمبا) على جانبَيْ أحد الطرق، في منطقة “بونجي” جنوب المدينة الحجرية في زنجبار، لمسافة زادت على ثلاثة كيلومترات، وفكرةُ زراعة هذه الأشجار تعود إليها، وأنفقت عليها من حُرِّ مالها، وقد أحضر السلطان برغش بن سعيد (خالها) خبيرًا مختصًا في البستنة من تركيا لتخطيطها وزراعتها، هو محمد الأمين الذي التقى به السيد حمود بن أحمد البوسعيدي في مكة المكرمة، وما تزال هذه الأشجار شامخة إلى يومنا هذا، تؤتي أكلها كلَّ موسم، وأسهم المهندس التركي أيضًا مساهمة كبيرة في تطوير الزراعة في تلك المنطقة.

ونحن عائدون من منطقة “كيزمكازي”، بعد أن زرنا أقدم مسجد هناك، قطعنا الكيلومترات الثلاثة، تحيط بنا الأشجار على جانبَيْ الطريق، والتي وصل عددها إلى 360 شجرة، في كلِّ جانب 180 شجرة، كان النقاش مع رفيق الرحلة سيف المحروقي يدور حول الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذه الأشجار، التي تبدو شاهدةً صامتةً على حكايات الزمن، وتحدّثنا عن ضرورة الحفاظ على ذاكرة التاريخ بعيدًا عن التشويه؛ فما نُسج حول السيدة خولة من القصص، فيه من الافتراء ما يجعل شعر الرأس يقف حتى للصلع أمثالنا، إذ إنه من أجل تشويه سمعة العُمانيين لجأ الانقلابيون إلى تلفيق تهم لهم لا يصدّقها عاقل، فادّعوا أنّ السيدة خولة كانت تزرع شجرة مانجو كلَّ ليلة، بعد أن توقِع رجلًا في حبائلها وتقتله وتدفن جمجمته، ثم تضع فوقها فسيلة شجرة مانجو، ويبدو أنّ مؤلف هذه الفِرْية متأثرٌ كثيرًا بحكايات ألف ليلة وليلة، التي جعلت الملك شهريار يقتل امرأة كلّ ليلة، قبل أن تأتي شهرزاد وتشاغله بحكاياتها. الفرق أنّ شهريار قتل ألف امرأة، بينما بلغ عدد القتلى المزعومين لأسطورة السيدة خولة - حاشاها عن ذلك - ثلاثمائة وستين فقط، على عدد الأشجار المزروعة.

عمومًا مثل هذه الخرافات سمعنا عنها في أكثر من مَعلم عُماني في زنجبار، فما قيل هنا يشبه تمامًا ما قيل عن بيت العجائب، بأنه بُني على جماجم البشر، وحاليًّا بيت العجائب في الترميم، وتأكد بطلان تلك الأكاذيب، ولم ينبس أحدُهم ببنت شفة.

والمؤسف أنّ هذا التشويه لحق بالسيدة خولة التي لها أفضال على زنجبار حتى يومنا هذا.

وإذا ما حاولنا إخضاع تلك الادعاءات لشيء من المنطق، لوجدناها تحمل بذرة كذبها بنفسها، إذ إنها تفتقر إلى أيِّ مصدر تاريخي موثوق. كما أنّ القصة تغيب تمامًا عن أيِّ مصدر معاصر لعهد السيدة خولة، سواء في السجلات التاريخية، أو في شهادات الرحالة، أو وثائق الأوقاف، أو الأرشيف البريطاني، ولا يوجد اسم شخص واحد قيل بأنه قتل؛ مَّا يؤكد أنها أُضيفت لاحقًا؛ إما لتشويه متعمد من الانقلابيين في زنجبار لكلِّ ما هو عُماني، وإما لإضفاء هالة أسطورية على مَعلم من معالم الجزيرة (وأعني به هذا الطريق المسيّج بأشجار المانجو) تسهم في جذب السياح إليه.

قلتُ لسيف - ونحن نقطع ذلك الشارع في يوم ماطر - إنّ الترتيب الهندسي المنتظم لهذه الأشجار، يُشير بوضوح إلى مشروع زراعي مخطط، وليس إلى تصرف فردي شخصي؛ مّا يعزز بطلان رواية الإفك تلك ويؤكد أنها متعمدة، ولا تليق بشخصية بحجم السيدة خولة بنت السيد حمود البوسعيدي وتاريخِها ناصع البياض.

وعدا عن اهتمامها بالزراعة فقد اشتهرت السيدة خولة بابتكار وحدة قياس محلية في زنجبار، تُعرف باسم “بيشي يا بي خولة”، وهي أكبر من الوحدة التقليدية، خُصصت لوزن القرنفل. ما يميّز هذه المبادرة أنها جاءت لتعكس رؤية إنسانية عادلة؛ فقد استُخدمت هذه الوحدة لضمان “دفع أجور منصفة لعمال مزرعتها” بما يتناسب مع كمية المحصول المجمع، كما يشير الأستاذ رياض بن عبد الله البوسعيدي في كتابه “تاريخ زنجبار المصور 1800–1964” (صـ64). وهذا الموقف يبرهن على إحساسها بالمسؤولية تجاه عمالها.

تركت السيدة خولة منزلًا كبيرًا في مزرعتها في “بونجي”، وكان يعيش معها عددٌ كبيرٌ من العاملين في المنزل والمزرعة مع عائلاتهم؛ وأغلبُهم كانوا من الذين أعتقهم والدُها السيد حمود من حُرِّ ماله، وهم لم يكونوا عبيده، وقد أوصت السيدة خولة بأن يعيش كلُّ من يعمل في البيت والمزرعة في المنزل نفسه، وأن يتواصل إنفاق دخل المزرعة لهم ولنسْلِهم، وهذا ما حدث بعد وفاتها.

سألني سيف: إذًا، ماذا تبقى من مهمتنا؟

قلتُ: نحن بحاجة إلى إعادة قراءة تاريخ السيدة خولة وأمثالها، وتقديمه للناس من خلال حقائق موثقة، وبعيون تحمل احترامًا لموروثنا العُماني في زنجبار.

سيف: بعد كلِّ هذا البحث والزيارة، كيف ترى دور السيدة خولة الآن؟

قلت: إنّها شخصية تستحق التقدير والاحترام - مثل أبيها تمامًا - لأنها رمز للعطاء النسائي والوقف الاجتماعي في عُمان وزنجبار، ويجب أن نُعيد سرد التاريخ بدقة، لنحافظ على هذا الإرث العظيم للأجيال القادمة، بعيدًا عن أصحاب الأهواء. وأردفتُ: حكاية تشويه السمعة هذه، يبدو أنّ الهدف منها كان تبريرًا للاستيلاء على أموالها دون وجه حق، كما حصل مع بيوت وأملاك ومزارع العُمانيين بعد الانقلاب، لكن الغريب أنّ السيدة خولة ما تزال تموِّل خزينة زنجبار حتى الآن، عن طريق السياح الذين يزورون بيتها وتلك الأشجار، وهي فعلًا مفارقة عجيبة.

في الحقيقة، إنّ السيدة خولة ليست الوحيدة التي اشتغلت بالوقف؛ فهناك نماذج عُمانية نسائية مشرِّفة في كلٍّ من عُمان وزنجبار أوقفت من حُر مالها في المساجد والمدارس وغيرها، وهي نماذج تستحق الكتابة عنها ونفض الغبار عن كرمها وعطائها اللامحدود.

Your Page Title