الأولى

الكاتب السوري محمد حسن يكتب لـ “أثير” عن الغرب الأوسط الجديد

الكاتب السوري محمد حسن

محمد حسن - كاتب وباحث سوري

في المشهد الجيوسياسي المعاصر، لم تعد مصطلحات مثل “الغرب” و“الشرق” تحمل دلالات جغرافية فقط، وإنما أصبحت أدوات في صراع الهيمنة الثقافية والسياسية. فكرة “الشرق الأوسط الجديد” التي تروج لها دوائر صنع القرار الغربية ليست مجرد مفهوم جغرافي، بل هي مشروع طموح لإعادة تشكيل الهوية والوعي في منطقتنا. إنّ لعبة التصادم بين الشرق والغرب هي لعبة تخيلية ولعبة مرايا خطيرة أطلقتها الثقافة الأوروبية لتبرير سياسة القوة والسيطرة على مقدرات العالم، لكن من أين أتت مقولة وحدة الغرب وانتشارها، بالرغم من كل التناقضات الكائنة في مجموعة الشعوب الأوروبية؟ لطالما كانت أوروبا المنبع الفكري والثقافي لما يُعرف بالغرب، لكن مسارها التاريخي شهد تحولًا جذريًا، فبعد أن كانت أوروبا الأم التي أنجبت الحضارة الغربية، أصبحت اليوم الابنة التي تتلقى التوجيه من واشنطن. هذه العلاقة المتغيرة تجسدت بشكل واضح بعد الحربين العالميتين، حيث انتقل مركز الثقل الغربي من برلين وباريس ولندن إلى واشنطن. فقد برزت الولايات المتحدة -التي نشأت من رحم المشروع الاستعماري الأوروبي- في دور الحامي لأوروبا من تهديداتها الذاتية والمخاطر الخارجية. فخلال الحربين العالميتين، تدّخل الجيش الأمريكي لحسم الصراع لصالح الحلفاء ضد ألمانيا، كما مثّل الدرع الواقي لأوروبا الغربية خلال الحرب الباردة في مواجهة المد السوفيتي. ولم يتوقف الدور عند الحماية العسكرية، بل امتد ليشمل قيادة عملية إعادة الإعمار عبر نموذج الرأسمالية الأمريكي، الذي أسس لمرحلة من الازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي في القارة العجوز.

التاريخ الأوروبي يحمل وجهين متناقضين: إبداع علمي وفني مذهل، وعنف استعماري مروع. من إبادة السكان الأصليين للأمريكيتين، وتجارة العبيد والاسترقاق إلى الحروب القومية بين الأوروبيين أنفسهم التي تفجرت إلى حربين عالميتين مزقتّا القارة. هذا الإرث المزدوج لم يختف، بل تحول إلى أداة في يد القوى الغربية الجديدة، حيث يتم تصدير التوترات والصراعات الأوروبية إلى أراضينا تحت شعارات متنوعة. وبالتالي تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة تاريخ أوروبا لإيضاح هذه المفارقة بين ابتداع الإنجازات العلمية، والفنية، والتقنية المتطورة وبين مسببات التفجيرات العنفية التي أثارها الأوروبيون. وبالتالي ثمة تلازم بين وجهين في تاريخ أوروبا، واحد كالح وآخر ساطع.

الغرب اليوم ليس مكانًا، بل فكرة، ليس المقصود به العواصم الغربية، بل ما وراءهما: ذلك النظام الرمزي الذي توّج نفسه ملكاً على المعنى. الغرب المتخيّل، هو خطاب انتصار السياسة على الجغرافيا وإلغاء الحدود كي يعاد رسمها من جديد على مقاسات الهيمنة. الغرب، كما يدرسه الغربيون وينشرونه، ليس جهة محددة على الخارطة، بل هو منارة التفوق، اختراع الحداثة، نهاية التاريخ…إنه خيال سلطوي يتنقل بين الأزمنة كأنه الحقيقة الواحدة تحوز “العالم الحُر” في حجرها.

وفق هذا المنظور أصبحت منطقتنا مختبرًا حيًا لمشاريع هندسة الهوية، تحدد فيها الخرائط والاتجاهات عليها قسرًا بحرف البوصلة عن مسارها وتعيد الشعوب اكتشاف نفسها على شاشات الأقمار الاصطناعية وتكنولوجيا الاستهلاك السلبي وليس في كتب التاريخ أو امتلاك العقل القادر على صناعة التقنية. لقد تحوّل مفهوم “الغرب” اليوم إلى مفهوم فارغ من المضمون الحضاري، لا يُقدّم أطرًا للتفكير أو أدوات للفهم، ولا يريد أن يقدم مثل هذه الأطر، بل يتحرك كظل سياسي جغرافي تتحكم به الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة، وتوظّفه في مشروعها العالمي للهيمنة تحت شعارات “الحرية” و“الشرعية الدولية“. هذا “الشرق الأوسط الجديد” الذي بشرت به كوندوليزا رايس على أنقاض بغداد وبيروت ودمشق وغزة، هو شرق يولد من الرماد.

وعندما يُنظر إلى هذا الشرق المُراد له أن يكون كحلقة أخيرة في سلسة طويلة تمتد في كل الاتجاهات والاستطالات الأفقية على هذا الكوكب فهو لن يبقى شرق ولن يكون شرقًا جديدًا كما يحبون أن يروجوا له ولن يلقى النجاح والصعود، وإنما سيكون محطّ أضواء الكاميرات وآلات التسجيل وأصوات التهليل المُرافق للتغطية على موت ذاتيته، كجماعة لم تعرف حتى اللحظة أن تخرج من الزاوية التي حشرنا أنفسنا فيها وصرنا من محشرنا نريد أن نُطل على العالم بكليته ونختزله على قياس درجة رؤيتنا المضللة لنا ولغيرنا، لم نستطع بمجموعنا، وإن استطعنا كأفراد متميزين أبناء هذا الشرق بحالات معدودة، أن نخرج بمشروع يخلصنّا من زمن القبور وأكبال وقيود احتكار تأويل الماضي واستجرار خيباته، ولذلك اصطلحت على تسمية المشروع الغربي في منطقتنا بـ “الغرب الأوسط الجديد” وهو الاسم الحقيقي لهذا المشروع، كنتيجة حتمية لتصادم المتخيل الغربي مع الواقع الشرقي، وهو الذي يُنتج شرقاً مأهولاً بالشركات، لا بالأفكار، شرقاً يُراد له أن يُدار بالبرمجيات لا بواقعية الجغرافيا وإرادة التاريخ.

إنّ أسطورة الغرب شُيّدت على طمس مساهمة الشرق، وإقصاء تنوّع أوروبا الداخلي نفسه، وبالتالي ينبغي الاحتجاج على التصور الأفقي لتاريخ العالم، الذي يقع مركز الثقل منه في السيرورة التي أعيد تكوينها بطريقة تخيلية على يد الحضارة الغربية. فـ“الغرب الأوسط الجديد” الذي تتصوره دوائر صنع القرار الغربي هو شرق منزوع الذاكرة، مقطوع الجذور، مُعاد تشكيله وفق رؤية تخدم مصالح الآخر. ليست القوة العسكرية وحدها هي أداة هذا التحول، بل ثمة أدوات أكثر تأثيراً: الإعلام، الثقافة، والتعليم، وحتى النخب المحلية التي تتحول -عن قصد أو غير قصد- إلى جنود في معركة إعادة التشكيل هذه. وبالتالي فإن فكرة “الغرب الأوسط الجديد” ليست إلا حلقة جديدة في سلسلة تحويل الشرق إلى تابع ذهني. لكن المفارقة أن من ينفّذ هذه المهمة هم مثقفونا وإعلاميونا ومستثمرونا، بافتتانهم بالغرب والنظرة إليه كقائد في الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والأدب والحياة.

لا ينبع عدم استقرار منطقتنا من صدام حضارات متخيّل، بل من تداعيات صدمات تاريخية عاشتها أوروبا، ومن ثم سعت لإيجاد متنفس لها. وقد جاء التحالف الوثيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل ليكون الأداة العسكرية الأكثر فتكاً لتنفيذ هذه الأجندة. فبعد الأحداث المروعة في القرن العشرين، وجدت أوروبا نفسها عاجزة، ففوّضت مهمة معالجة تداعيات ماضيها المظلم إلى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وهما الدولتان اللتان تدينان لها بأصل وجودهما، من ثم أصبح المشروع الجيوسياسي الذي يُوصف بأنه “غربي”، يُقاد من واشنطن المحرك والمنفذ الحصري له تقريباً، بعد أن وجدت إسرائيل أيضاً أجندتها في المنطقة بإعادة تكوينها على أساس توراتي ورسم خريطة توراتية جديدة لها، كصراع بين نصف الله ونصفه الآخر، يقف قادته كالعناكب على حائط مهدم.

المشروع الجديد لا يهدف إلى احتلال الأرض فحسب، بل إلى احتلال العقل والذاكرة. فتحت شعارات “الاعتدال” و“الانفتاح” و“التحديث“، يتم تسويق نمط حياة وقيم تخدم في جوهرها مشروع الهيمنة هذا. النخب المحلية أصبحت جزءًا من هذه الآلة، تروج لضرورة “التكيف” مع المعايير الغربية، وتزين التبعية على أنها تقدم، وضياع الهوية على أنه انفتاح. في مواجهة هذا المشروع، يقف خياران لا ثالث لهما: إمّا أن نكون شرقًا أصيلًا يحمل ذاكرته وهويته ورؤيته الخاصة للمستقبل، نستدعي هويتنا نحو صيغة مبتكرة ومحررة، تُعيد حضور البشري في الإلهيّ، والمطلق في النسبي، نحو تحرير نظرتنا إلى الوجود التي تتحكم بسلوكنا التاريخي واليومي، فسلوكنا العاطفي ينطلق من نظرتنا إلى الوجود. ولا فرق في هذا بين نظرة صحيحة ونظرة خاطئة، فردّة الفعل تأتي دومًا منسجمة مع تلك النظرة. فإذا ما وضع أحدهم حيّة مطاطية في الحديقة، فلا فرق إذا كانت حقيقية أم لا، لأن ردة فعلنا العاطفية تأتي من نظرتنا نحن إليها. أو أن نكون نسخة مشوهة من الغرب، بلا روح ولا هوية. المعركة الحقيقية ليست أولًا في مواجهة الآخر، وإنما في إيجاد الشجاعة لأن نكون أنفسنا.

مستقبلنا لن يُصنع في واشنطن أو غيرها، بل سيُخلق من رحم إرادتنا في البقاء والتميز. الخروج من هذه الحلقة المفرغة يبدأ باستعادة قدرتنا على سرد حكايتنا بأنفسنا. فحين تكتب عن ذاتك، لا يستطيع الآخر أن يحتلك. وهذا “الغرب الأوسط الجديد” ليس قدرًا محتومًا، بل هو تحدٍ يجب أن نواجهه بإرادة صلبة ورؤية واضحة. آن الأوان لأن نبني شرقًا يشبهنا، يحمل روحنا وطموحاتنا، لا شرقًا يُصمم وفق أحلام وآلام الآخرين فلا أحد يستطيع إيقاف فكرة آن أوانها، فكلما طال اشتداد القوس ومسك وترها كلما فقدت القدرة على إصابة الهدف أو حتى رمي السهم، حتى تصيب الهدف ينبغي أن تطلق السهم في حينه. لقد أنهى الغرب حروبه الدينية بمعاهدة وستفاليا ١٦٤٨ والعرب لم ينهوا بعد حروبهم الدينية، لكن المفارقة أنّ الغرب يستثمر في حروبنا الدينية كمضارب بورصة يريد لمؤشرات ربحه أن تتعاظم على دماء الآخرين ولأجل ذلك يُذكي في تلك الحروب ويعيد إنتاج سردياتها المقفلة بأختام الغيب.

إنها معركة الوجود التي يجب أن نخوضها بأنفسنا ولأنفسنا، معركة نستعيد فيها حقنا في تعريف ذاتنا، وتحديد مصيرنا، وبناء مستقبلنا. “الغرب الأوسط الجديد” ليس قدرًا محتومًا، بل فخّ تاريخي. والخروج منه يبدأ بإعادة تعريف الذات…بالوعي المعرفي لتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا.

Your Page Title