رصد - أثير
إعداد - ريما الشيخ
في مشهدٍ غير مسبوق منذ عقود، تدفّقت حشودٌ ضخمة إلى شوارع الولايات المتحدة وهي ترفع شعار “No Kings – لا للملوك”، في حركة احتجاجية وُصفت بأنها أكبر تمرين مدني للدفاع عن الديمقراطية الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب.
لم تكن تلك الجموع الغاضبة مجرّد ردّة فعلٍ عابرة على سياساتٍ آنية، بل تعبيرًا متراكمًا عن خوفٍ جماعي من تحوّل الرئاسة إلى سلطةٍ فوق الدستور، واستعراضٍ مفرطٍ للقوة السياسية والعسكرية، أعاد إلى الأذهان سؤالًا جوهريًا في التاريخ الأميركي: هل ما زالت الولايات المتحدة جمهورية الشعب، أم بدأت تتحوّل إلى مملكة غير معلنة؟
الشرارة التي أشعلت الحركة
انطلقت حركة ”لا للملوك“ (No Kings) في 14 يونيو 2025، في يومٍ صادف عيد ميلاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الـ79، والذكرى الـ250 لتأسيس الجيش الأميركي ، حيث أقيم عرضٌ عسكري ضخم في العاصمة واشنطن، بمشاركة وحدات من الجيش والقوات الجوية، في مشهد غير معتاد داخل الحياة المدنية الأميركية، وقد رأى فيه كثيرون رمزًا إلى نزعة سلطوية جديدة، إذ ظهر ترامب محاطًا بأعلام وقادة عسكريين، وسط موسيقى وطنية واستعراضات عسكرية كبرى، ما دفع جمعيات مدنية وحقوقية إلى الدعوة للتظاهر تحت شعار:
“No Kings – لا للملوك”، في إشارة إلى أن أميركا جمهورية يحكمها الدستور، لا تاجٌ ولا وراثة فيها.
من يقف وراء الاحتجاجات؟
قاد الحراك تحالف واسع من منظمات المجتمع المدني، أبرزها اتحاد الحريات المدنية الأمريكي (ACLU)، وحركة MoveOn، وائتلاف شعبي جديد تحت اسم 50501، أي ”خمسون ولاية.. هدف واحد“، حيث اعتمدت هذه التنظيمات على أدوات رقمية متطورة لتنسيق الاحتجاجات في أكثر من 2100 مدينة وبلدة خلال الموجة الأولى، ثم توسعت إلى 2500 موقع في الموجة الثانية في 18 أكتوبر 2025، بحسب صحيفة The Guardian.
تميّزت الحركة بطابعها السلمي والمنظّم؛ فقد أصدرت دليلاً إلكترونيًا للمتظاهرين حول “أساليب الاعتصام الآمن”، كما استخدمت اللون الأصفر شعارًا موحدًا للحراك، في إشارة إلى التحذير من الملكية السياسية.
ماذا يعني شعار “لا للملوك”؟
يحمل هذا الشعار دلالات رمزية عميقة في الذاكرة الأمريكية، فقد قامت الولايات المتحدة أصلًا على ثورة ضد الملكية البريطانية، وأقامت نظامًا جمهوريًا يقوم على فصل السلطات وتداولها، ليكون الرئيس موظفًا عامًا لا حاكمًا مطلقًا؛ لذلك، فإن شعار ”No Kings“ يأتي دفاعًا عن الأساس الذي قامت عليه الجمهورية الأمريكية.
وقال القائمون على موقع الحركة NoKings.org: نحن لا نرفض الرئيس كشخص، بل نرفض فكرة أن يصبح أي رئيس فوق الدستور.
الأسباب التي فجّرت الغضب الشعبي
تعددت الأسباب التي دفعت ملايين الأمريكيين إلى التظاهر، أبرزها:
- توسيع سلطات الرئاسة: استخدام ترامب للقوات الفيدرالية في مدن معارضة، دون التنسيق مع حكّام الولايات.
- الخطاب التصعيدي: وصف الإعلام والقضاء بأنهما “أعداء الشعب”.
- سياسات الهجرة والأمن: تشديد القبضة الأمنية وارتفاع معدلات الاحتجاز الجماعي.
- الاستعراض العسكري: اعتُبر العرض الذي أقيم في يونيو نقطة تحوّل رمزية، وكأنه تأكيد على “رئيس يقدّم نفسه كقائد فوق المؤسسات”.
هذه الإجراءات، بحسب The Washington Post، جعلت الحركة تتجاوز الطابع السياسي إلى قضية مجتمعية تمسّ جوهر الهوية الأمريكية.
التسلسل الزمني للحركة
- 14 يونيو 2025: بداية الاحتجاجات في واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس.
- 18 أكتوبر 2025: ثاني أكبر موجة احتجاج مدني، بمشاركة ملايين في 50 ولاية.
- نوفمبر 2025 (قيد التحضير): إعلان حملة «أسبوع الديمقراطية» التي ستشمل ندوات واعتصامات سلمية للمطالبة بتقليص صلاحيات الطوارئ الرئاسية.
ووفقًا لتقرير Le Monde الفرنسية، فإن إجمالي عدد المشاركين في الموجتين تجاوز سبعة ملايين أمريكي، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الاحتجاجات السياسية الحديثة.
موقف ترامب وردّه الرسمي
ردّ الرئيس دونالد ترامب على هذه الاحتجاجات عبر منصته Truth Social قائلًا: أنا لست ملكًا، أنا رئيس اختاره الشعب، لكنني لن أسمح للفوضى أن تسيطر على الشوارع.
وفي تجمع انتخابي بولاية تكساس، قال: من يرفع شعار (لا للملوك) لا يريد رئيسًا قويًا، بل يريد دولة بلا قائد.
واتهم ترامب وسائل الإعلام بـ“تضخيم الأعداد“، فيما وصف الحزب الجمهوري الحركة بأنها “حملة يسارية لزرع الفوضى”، في حين دافع الديمقراطيون عنها بوصفها “إحياء لروح الثورة الأمريكية الأولى”.
أبرز القرارات التي أجّجت الشارع
ذكرت Politico وAP News أن عدة قرارات اتخذها ترامب كانت من أبرز أسباب الاحتجاجات، منها:
- إصدار أمر تنفيذي يوسّع سلطات الطوارئ الرئاسية في حالات الاضطرابات الداخلية.
- العفو عن شخصيات سياسية مقربة متهمة بالفساد المالي.
- التلميح بإمكانية تمديد فترة الرئاسة بدعوى الظروف الاستثنائية.
- تصعيد الهجوم ضد الإعلام والقضاء واتهامهما بتقويض الأمن القومي.
يرى محللون أن هذه الخطوات كانت بمثابة ”القشة التي قصمت ظهر الثقة العام“، وأعادت إلى الأذهان مخاوف من حكم الرجل الواحد.
الرمزية والبعد التاريخي للحراك
أعاد المحتجون إحياء رموز الثورة الأمريكية، فرفعوا الأعلام الصفراء التاريخية “Don’t Tread on Me”، لكن مع تعديل شعاراتها لتصبح “We the People – No Kings”.
وفي مدن مثل فيلادلفيا وبوسطن، ارتدى المتظاهرون ملابس رمزية من القرن الثامن عشر، وقرؤوا مقاطع من إعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776 أمام مباني الكونغرس المحلي، في مشهدٍ وصفته The Guardian بأنه “عودة إلى الجذور الثورية لأميركا الحديثة”.
الامتداد الدولي للحركة
امتدت التظاهرات إلى خارج الولايات المتحدة، حيث نظّمت وقفات رمزية في كندا وألمانيا وبريطانيا واليابان، حملت عناوين مثل “No Dictators – Support US Democracy”.
وأشارت صحيفة Le Monde إلى أن هذا البعد الدولي أعطى الحركة طابعًا عالميًا، باعتبارها إنذارًا مبكرًا ضد صعود الشعبوية في الأنظمة الديمقراطية.
التأثير المستقبلي المحتمل
يرى باحثون سياسيون أن هذه الاحتجاجات قد تعيد تشكيل المشهد السياسي الأمريكي، من خلال:
- تعزيز الرقابة على السلطة التنفيذية.
- دفع الكونغرس لمراجعة صلاحيات الرئيس في حالات الطوارئ.
- تنشيط المشاركة المدنية في الانتخابات المقبلة.
لكن محللين آخرين يحذرون من أن استمرار الاستقطاب الحاد بين الحزبين قد يهدد التماسك السياسي، ويحوّل الديمقراطية الأمريكية إلى حرب أيديولوجية مفتوحة.
المصادر:
Time Magazine
The Guardian
The Washington Post
Associated Press
Le Monde
مصدر صورة الموضوع : الأناضول