مسقط-أثير
إعداد: أشجان بنت محمد المعمرية، باحثة في التاريخ الاجتماعي
لم يكن الزواج في عُمان حدثًا عابرًا في حياة الأفراد، بل مرآةً دقيقة تعكس بنية المجتمع، وقيمه الاقتصادية، وسلطته الاجتماعية، فمن زواجٍ بسيطٍ تُنظِّمه الجماعة وتدعمه الأعراف، إلى زواجٍ حديثٍ تتداخل فيه الاعتبارات الاقتصادية والقانونية والتعليمية؛ تتبدّى قصة التحول الاجتماعي التي رافقت اكتشاف النفط وما بعده.
قبل النفط: كيف كان الزواج؟
قبل عام 1967م، لم يكن الزواج في عُمان شأنًا خاصًا بأسرةٍ واحدة، بل مناسبة اجتماعية يشارك فيها أهل القرية أو الحيّ بأكمله. الجميع كان حاضرًا، من إعداد الولائم، إلى تجهيز مراسم الزواج التي تبدأ بالخطبة، مرورًا بالمهر وعقد القِران، وصولًا إلى الإشهار. في تلك الفترة، كان الزواج المبكر أمرًا شائعًا، خصوصًا بين الفتيات، حيث كان يُنْظَر إلى استمرار عزوبتهنَّ -كما عبَّرت إحدى الدراسات- كاستثمار خاسر.
المهر… رمز اجتماعي لا عبء مالي
اختلفت المهور في المجتمع العُماني قديمًا تبعًا للمكانة القبلية والاجتماعية للمرأة وأسرتها، الأمر الذي أدى إلى تباينها بين المناطق؛ من مدينة إلى أخرى، ومن الساحل إلى الداخل، وبين شمال عُمان وجنوبها، وتكشف الوثائق الأهلية عن أشكال متعددة للمهور؛ فبعض النساء كان مهرهن عددًا من أشجار النخيل، بينما تلقت أخريات مهورًا نقدية من الفضة، أو ممتلكات منقولة بسيطة.

هذه الأمثلة تعكس واقعًا اقتصاديًا متواضعًا، جعل من المهر تعبيرًا عن الالتزام الاجتماعي والروابط الأسرية، لا صفقة مالية، فمحدودية الموارد، إلى جانب القيم الاجتماعية السائدة، أسهمت في بقاء المهور ضمن مستويات منخفضة تتناسب مع إمكانات العائلات، ما خفف الأعباء المالية، وعزز الاستقرار الاجتماعي في تلك المرحلة.
الاختيار بيد الأسرة
كان اختيار شريك الحياة يتم وفق الأسلوب التقليدي، عبر تدخل الأهل والأقارب والمعارف. الزواج المبكر كان السائد، لا سيما في المناطق الريفية؛ حيث كانت الفتيات يتزوجن في سن تتراوح بين العاشرة والرابعة عشرة، بينما يتزوج الذكور في سن السادسة عشرة تقريبًا، ولم يكن للرجل أو المرأة رأي حاسم في هذا القرار، إذ خضع الجميع لسلطة الأب، في مجتمع قبلي محافظ، يرى الزواج شأنًا عائليًا بحتًا.
حين تتدخل الدولة
إلى جانب سلطة الأسرة، كان للدولة دورٌ في تنظيم بعض حالات الزواج، خاصة للنساء اللواتي لا وليّ لهن، فقد أُجيز للقضاة تزويج المرأة بناءً على طلبها ورضاها، بهدف التيسير والحد من المشكلات الاجتماعية، وتوثق بعض المراسلات الرسمية هذا التوجه؛ فعلى سبيل المثال: وَجَّهَ السلطان سعيد بن تيمور خطابًا لقاضي صحار حُرِّرَ في يوم التاسع من شهر شوال 1351ه الموافق 5 فبراير 1933م؛ جاء فيه: "من سعيد بن تيمور ليعلمَ الواقف على كتابنا هذا أننا قد أَبَحْنَا للقاضي الشيخ سعيد بن حمدان قاضي صحار أن يزوج كل امرأة لا وَلِيَّ لها بعد رضاها وطلبها الزِّواج بمَنْ تريد من الأَكْفَاء على حُكم كتاب الله وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فهو مأذون من قِبَلِنا في هذا الأمر“، ويعكس هذا الأمر حرص السلطة آنذاك على معالجة القضايا الاجتماعية ضمن الإطار الديني والقانوني.
زواج القياض وطقوس الفرح
ومن أنماط الزواج المعروفة آنذاك زواج القياض، وهو نمطٌ يعتمد على تبادل الزِّواج بين عائلتين؛ بحيث يتزوج الرجل من امرأة مقابل أن يتزوج أحد أقربائِه من قريبتها، من دون اشتراط مهرٍ مالي؛ بل يقوم على التفاهم والتراضي المتبادل بين الطرفين، وغالبًا ما انتشر هذا النوع بين أبناء العمومة. أما حفلات الزواج، فكانت بسيطة؛ يقتصر الاحتفال على الرجال بأهازيج الرزحة وأصوات البنادق، بينما تتولى النساء مرافقة العروس إلى بيت الزوجية بأغانٍ شعبية.
غير أن بساطة الزواج لم تخلُ من تحديات؛ إذ كان صغر سن العروس يؤدي أحيانًا إلى تأخر الإنجاب، إضافة إلى هجرة كثير من الأزواج للعمل في الخارج لفترات قد تمتد إلى سنوات، ومع الأخذ بالحسبان أن هذه العادات تختلف من منطقة إلى أخرى، وتتغير تدريجيًا عبر الزمن، وصولًا إلى التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع العُماني في العقود اللاحقة.
بعد النفط: كيف أعادت النهضة الحديثة تشكيل الزواج؟
مع انطلاق النهضة النفطية الحديثة، لم تتغير ملامح الاقتصاد في سلطنة عُمان فحسب، بل امتدت التحولات إلى عمق البنية الاجتماعية، وكان نظام الزواج في مقدمة الظواهر التي أعادت هذه المتغيرات صياغتها، فقد انتقل المجتمع العُماني تدريجيًا من نموذج تقليدي صارم تحكمه الأعراف، إلى مجتمع أتاح للفرد مساحة أوسع من الاختيار، في ظل تحولات اقتصادية واجتماعية متسارعة.
تحولات كبرى في زمن النفط
مع ارتفاع مستويات الدخل وتوفر فرص العمل بعد عام 1967م، بدأ نمط الزواج يشهد تغيرًا ملحوظًا. تراجع الزواج المبكر، وتأخر سن الارتباط، وبرزت عوامل جديدة مؤثرة، في مقدمتها طريقة اختيار شريك الحياة، والتعليم، ودخول المرأة إلى سوق العمل، ما أعاد ترتيب أولويات الأسرة والفرد على حد سواء.
غلاء المهور… مشكلة قديمة تتجدد
لم تكن ظاهرة غلاء المهور وليدة العقود الأخيرة كما يُعتقد، بل بدأت مؤشراتها بالظهور منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، فقد نبّهت الجهات الرسمية مبكرًا إلى تفاقم هذه الظاهرة، وأصدرت تعميمات تدعو إلى تحديد المهور بما يتناسب مع المستوى المعيشي، محذّرة من العقوبات بحق المخالفين.\

غير أن الطفرة النفطية وما صاحبها من تحسن اقتصادي أسهمت في استمرار ارتفاع المهور، بل وتعدد أشكالها، لتتحول إلى أحد أبرز التحديات التي واجهت الشباب المقبلين على الزواج، ورغم الجهود المتكررة التي بُذلت للحد منها، ومنها التوجيهات المتواصلة للسلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – بعدم المبالغة في المهور، فإن الظاهرة استمرت مع تفاوت حدّتها بين المناطق والمحافظات.
من سلطة الأب إلى شراكة القرار
شهد عصر النهضة النفطية تراجعًا نسبيًا لدور الأب الحاسم في فرض خيارات الزواج، مقابل تزايد مشاركة أفراد الأسرة، خصوصًا الأبناء أنفسهم، في اتخاذ القرار، وتراجعت ظاهرة الإصرار على الزواج من الأقارب داخل القبيلة، التي كانت تشكّل عائقًا أمام رغبات الشباب، وإن ظلّ هذا التوجه حاضرًا بدرجات متفاوتة في بعض المناطق حتى اليوم.
اختفاء الزواج المبكر وصعود التعليم
أدّى انتشار التعليم، لا سيما تعليم المرأة، إلى تلاشي ظاهرة الزواج المبكر بصورة واضحة، فقد أصبح للمرأة دور فاعل في اختيار شريك حياتها، وحقّ في تأجيل الزواج لصالح الدراسة أو العمل. وفي المقابل، تباينت مواقف المجتمع من هذه التحولات؛ فبينما فضّل بعض الشباب الزواج من الموظفات لما يتمتعن به من مستوى ثقافي واستقرار مادي، رأى آخرون في ذلك سببًا لارتفاع المهور وزيادة الأعباء المعيشية. كما أسهم التحاق المرأة بسوق العمل في تأخر سن الزواج، وانخفاض معدلات الإنجاب، وظهور تحديات أسرية جديدة، انعكست في ارتفاع حالات الطلاق منذ منتصف الثمانينيات، نتيجة عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية متشابكة.
القانون ينظّم الواقع الجديد
في مواجهة هذه التحولات، صدرت مجموعة من القوانين والمراسيم لتنظيم شؤون الزواج والأسرة، أبرزها قانون الأحوال الشخصية الصادر في عام 1997م، الذي وضع ضوابط واضحة للزواج، ومنع الزواج القسري والمبكر، وكفل حرية الاختيار للطرفين بعد بلوغ سن الثامنة عشرة. كما منح القانون المرأة حقوقًا قانونية موسعة، من بينها طلب الطلاق في حالات محددة، والحصول على ضمانات اجتماعية ومعاشات تقاعدية، في خطوة عكست التحول في النظرة إلى دور المرأة داخل الأسرة والمجتمع.
الأعراس… من البساطة إلى الفخامة
لم تقتصر التحولات على مضمون الزواج، بل امتدت إلى شكله وطقوسه، فبعد أن كانت الأعراس تمتد لأيام وتعتمد على التقاليد المحلية، أصبحت تُقام في قاعات حديثة، تتسم بالفخامة والتكلفة العالية، في انعكاس مباشر للتحول الاقتصادي والاجتماعي الذي شهده المجتمع العُماني.
مشهد متغير… وقيم تتشكل
في ضوء هذه التحولات، يمكن القول إن الزواج في سلطنة عُمان لم يعد كما كان قبل النفط، فقد أعادت النهضة الحديثة صياغة هذا النظام الاجتماعي، وفرضت واقعًا جديدًا تتداخل فيه القيم التقليدية مع متطلبات العصر، في مسار ما يزال مفتوحًا على مزيد من التغيرات.

