النقد في عمان: قراءة ورؤية[i]
د. خالد البلوشي
إنّ أيّ مجموعة شعريّة، مهما يكن نصيبها من الجمال الفنّيّ، تصل إلى القارئ سياسةً تتشابك وتتقاطع مع الخطابات الثقافيّة السائدة، تقف منها مواقف مختلفة، تارة تؤّيد هذه وتقوّض تلك، وتارة تتأرجح بين هذه وتلك. هذا كان شأن المجموعات التي نوقشت في هذه الدراسة، وسيظلّ شأن أي مجموعة ستأتي. على أنّ المؤسف أنّ نقّادنا يصرفون عن هذا الجانب إلى وجوه البيان والبلاغة. وما هذا إلا وجه من وجوه غياب نقد عمانيّ، مبنيٍّ على أطر نظريّة رصينة، له شخصيّته من حيث موضوعاته ورؤاه وأدواته ومناهجه…
الرّأي عندي أنّنا يجب أن نتجاوز الانطباع إلى النظر المدروس المؤطّر. وفي هذا الشّأن ثمّة سؤال يومنا هذا أجدر به من غدنا: ما الدّور الذي ينبغي للنّاقد الأدبيّ أن يؤدّيه؟ هل ينبغي له أن يأتي على النّصّ الشّعريّ صقرًا لغويًّا ينقضّ على همزة مقطوعة كان أمرها في رأيه أن تكون موصولة؟ هل ينبغي له أن يأتي بميزان يقيس به هذه الوحدة الموسيقيّة أو تلك، أو بجهاز يكبّر به هذا المجاز، فيميّز الرّاجح من المرجوح والكلّ من الجزء والحالّ من المحلّ؟ هل ينبغي له ألا يأتي بكلمة في الخطابات الثّقافيّة السائدة ولا في الوسائل التي يوظّفها الشعر في تناولها لتلك الخطابات؟ الحقّ أنّ هذا ليس خيارًا متاحا؛ فالنّاقد إن مالت عينه عن الشّعر سياسةً مال بذلك إلى تعزيزه سياسةً. لسنا أمام خيارين؛ ليس (ولن يكون) أمامنا نصّ شعريّ بريء وآخر سياسيّ، كل شعر سياسة، من هنا لا بدّ لنا من أن نتبنّى النّقد الثقافي.
قلت بأنّ أيّ مجموعة شعريّة تصدر سياسة تتشابك وتتقاطع مع السّائد على نحو من الأنحاء. الحقّ أنّ هذا الكلام ينطبق على كلّ كلمة تُكتَب وكلّ حرف يُلفَظ. من هنا فإنّ “النقد الثقافيّ” الذي أدعو إليه ليس مجاله “الشعريّ” أو “الأدبيّ” فحسب بل كلّ ما يمسّ الإنسان العماني من تاريخ ودين واجتماع وثقافة. لعلّ المقام هنا مناسب أن أذكر أنّي ذهبتُ في غير موضع إلى أنّ في ثقافتنا العمانيّة تيّارًا كوزموبوليتينيًّا عالميًّا إنسانيّ النّزعة[1]. على أنّنا ينبغي لنا أن نعي أنّ هذا التّيّار ليس جوهرًا ولا أصالة منزّلة من السّماء، ولا قراءة نستخلصها من مذهب فكريّ أو تيّار دينيّ، ولا عقيدة لا يأتيها باطل. وإنّما هو سعيٌ إلى حياة عزيزة كريمة في ظلّ إسلام وعروبة قوامهما الإنسان. هذا السّعي يتجلّى في صور وأشكال شتّى ويدخل في صراع مع تيّارات شتّى، فتارة يتجدّد ويتقدّم وتارة يتعثّر ويتخلّف؛ قل هو حركة وصيرورة قابلة لأنْ تُعزَّز، قابلة لأنْ تُقوَّض.
لعلّنا نلمس في هذا الشّأن مفارقة عجيبة، فواقع الإنسان العمانيّ اليوم أكثر غنًى وأرحب أفقًا من خطابه “الثّقافيّ”[2]. فبينما نرى التّعدّد واقعًا معاشًا في البيت العمانيّ على مستوى اللغة واللهجة والفكر ونمط العيش نجد في مؤسّساتنا “الثّقافيّة” هيمنة قراءات أحاديّة للدّين والعروبة والوطنيّة والتّراث والتّاريخ. الرّأي عندي أنّ النّقد يجب أن يسهم في تشكيل رأي عامّ مبنيّ لا على سلطة اجتماعيّة ولا سياسيّة وإنّما على مناصرة الذّات الإنسانيّة، بوجوهها المختلفة المتعدّدة، وقيم المشاركة السّياسيّة والحرّيّة والعدالة والكرامة. فكما يظهر تحليلي في الفصول السّابقة فالإنسان تتجاذبه قوى مختلفة، كلّ يريد أن يشدّه إليه، كلّ يدّعي أنّه يمتلك الحقّ. دور النّاقد يكمن في فضح مثل هذه الادعاءات وكشفها عن طريق ربط الكلمة – شعرًا وقصّة، درسًا ووعظًا، قولاً قاله الرئيس وآخرَ المرؤوس، حكمةً أتى بها متعبّد في صومعته وأغنيةً غنّاها مغنٍّ في ملهاه – ربط كلّ ذلك بالسّياسة بمعناها العامّ الشّامل الذي أوضحته في الفصل الأوّل. إن قام النّاقد بذلك لم يكن إكمالاً لدور ابتدره الأديب أو الخطيب أو السياسي، وإنّما كان قوّة (سياسيّة) فاعلة في تشكّل خطاب ثقافيّ جديد مبنيّ على وعي أنّ المعنى ليس وحيًا سماويًّا يُنزَل به إلى الأرض ولا جوهرًا قارًّا متعاليا، وإنّما هو ما نصنعه وما يصنعنا على نحو ديالكتيكي؛ حقٌّ لنا أن نفكّك هذا المعنى لنرى ما يصنعه فينا وحقٌّ علينا أن نفكّك أنفسنا لنرى ما نصنع فيه. إن وعينا وأقررنا بما لنا وعلينا من حقّ كنّا أَمْيَلَ إلى نسبيّة صحيّة تجعلنا أكثر تسامحًا، أكثر قبولاً للاختلاف، أكثر “إنسانيّة”.
[1] خالد البلوشي “الترجمة من منطلق وطني إنسانيّ”، ص ص 27-41، واستشراف التجربة العمانية في “جوادر”: نحو خطاب إنسانيّ متعدّد، ص ص 19-28، و”تصدير المترجم” عمان في عيون الرّحالة البريطانيّين، قراءة جديدة للاستشراق لهلال الحجري، ص ص 7-14.
استشراف التجربة العمانية في “جوادر”: نحو خطاب إنسانيّ متعدّد
عمان في عيون الرّحالة البريطانيّين، قراءة جديدة للاستشراق
[2]أقصد هنا بالثقافة ما يُتعلَّم في مؤسسات تعليميّة كمدارس ومعاهد وجامعات وما يُنظَّم تحت إشراف رسميّ من مناشط تعنى بالأدب والفكر.
[i]هذه المادّة مقتبسة من خاتمةِ كتاب نقديٍّ لي سيعرض في معرض مسقط القادم للكتاب ( في القصيدة العمانية الحديثة، نحو نقد ثقافي. 2015، عن جامعة نزوى، مركز الفراهيدي وسيصدر عن دار الجمل ببيروت)
في القصيدة العمانية الحديثة، نحو نقد ثقافي