فضاءات

عندما صدح العراق في “الأوبرا”

عندما صدح العراق في “الأوبرا”
عندما صدح العراق في “الأوبرا” عندما صدح العراق في “الأوبرا”

عبدالرزّاق الربيعي

وأنا أستمع إلى كلمات “فراقهم بكاني” تشدو بها حنجرة سفير المقام العراقي الدكتور حسين الأعظمي في الحفل الذي أحياه بدار الأوبرا السلطانية بمشاركة المطربة بيدر البصري، تساءلت مع نفسي  هل تخيل “عزاوي” الشاب الذي كان يعمل في  المقهى البغدادية التي يعود تأسيسها إلى القرن التاسع عشر، إن اسمه سيتردّد في مسقط، ودار الأوبرا السلطانية في القرن الواحد والعشرين ؟

ولكي أواصل استمتاعي باللحن، والصوت، والكلمات، نحّيت تساؤلي جانبا، وفرددت مع الأعظمي

سلّم عليّ من ابعيد  وحواجبه هلال العيد

ممنون قلي شماتريد سواها بيه سلمان

بيك اشترك دلالي  يقولون حبي زعلان

آه ياقهوتك عزاوي بيها المدلل زعلان

وكما قرأت إنّ سبب تسمية المقهى باسم الشاب الذي يعمل به، وليس باسم صاحبه يعود إلى الصفات الجميلة التي كان يتمتع بها الشاب، وكذلك براعته في إعداد الشاي، وتقديمه، وللبغداديين طقوس في تقديم الشاي، ولكن حصل سوء تفاهم مع صاحب المقهى ، فترك العمل، وعاد إلى الجنوب حيث تقيم عائلته، فأنزعج رواد المقهى الذين اعتادوا على بشاشته ،وخدماته، فهجروا المقهى  حتى أغلقت، فكتب أحد الشعراء كلمات هذه الأغنية التي ظلّت تتردّد في مقاهي بغداد التي كانت ساحة يغنى بها المقام العراقي بمصاحبة الجالغي البغدادي الذي أدواته: القارىء ، والملاحظ إنّ الذي يؤدّي المقامات يدعى “قارىء” ،وليس مغنيا، ويصاحبه عازفو: السنطور، آلة موسيقية ورد ذكرها في الألواح  السومرية التي تعود إلى الألف الثالث وأول الألف الثاني قبل الميلاد،  والجوزة التي تشبه الربابة  ، والطبلة ،و الدنبك ، وفي بعض الأحيان الرق ( الدف )، ويأتي معظم النص باللهجة العراقيّة

الليلة حلوة وجميلة

قلبي سكن بغداد سوق الهرج بيه

ميلوا الحلو ليغاد

لا تنجبر بيه

إنه الفن الأصيل ، الذي يلامس الوجدان، والروح بكلمات بسيطة تدخل مباشرة القلب بدون استئذان، وهذا ما لمسناه في الحفل،فكلمات الأغاني تخلو من التعقيدات ،إنها تنساب انسيابا، مثل أغنية “طولي يا ليلة” التي غنّتها بيدر، وهي من التراث العراقي ،وكثيرا ماسمعناها بصوت المطربة سميرة توفيق

طولي ياليلة

عدنه الحلو خطار

حدرج ياشيلة

شمس وكمر ونجوم

آه من يلبس المودة

آه جي وردن خدوده

بويه بوجناتك خذت عقلي وياك

لقد تميّز  المقام العراقي بعدّة ميزات، يجملها الباحث الموسيقي وائل قاقيش بقوله ” إنّها تحوي على سلالم موسيقيّة لا توجد في الموسيقى الشرقيّة (ونقصد على الأخص مصر وسوريا)”، و يؤكّد إنّ الفنان محمد عبدالوهاب حينما استمع إلى قارىء المقام العراقي الشهير محمد القبانجي، يؤدّي مقام اللامي بعد انعقاد مؤتمر القاهرة سنة 1932م تأثر به، ولحّن به بعدها ألحانا عديدة أشهرها” ياللي زرعتوا البرتقال” .

وإلى جانب القبانجي تقف قامة يوسف عمر الذي حضرت له حفلا في “خان مرجان” ببغداد منتصف الثمانينيات، في ليلة بغدادية لا تنسى، واليوم لم يبق من قرّاء المقام، سوى عدد قليل جدا يقف الأعظمي في صدارتهم ،وكذلك المطربة فريدة ،وأنور أبودراغ، والملاحظ إنّ قرّاء المقام العراقي في الخارج ،يجدون اهتماما وطلبا عليه أكثر مما في  الداخل، لكونه يمثّل عنوانا من عناوين الفن والثقافة العراقيّة ،ومن هنا تأتي أهميّة  تخصيص  دار الأوبرا السلطانية مسقط ليلة للمقام العراقي ضمن موسمها الحالي، فحينما أرادت الدار أن تحتفي بالغناء العراقي رأت أنّ المقام العراقي خير ممثّل لها، وتمّ ذلك بدعم سعادة د.آمال موسى حسين سفيرة العراق بالسلطنة، فهو هويّة عراقيّة، يفوح منها عبق التراث، والفنّ الأصيل الذي ينتمي إلى الإنسان، والحياة، فكانت أمسية جميلة بدأها العازف خالد محمد علي الذي قدّم ارتجالات من المقامات العراقية، على آلة العود، وغنّت بيدر البصري عددا من الأغاني من بينها:” ياعمي”، و”مروا علي”، و”أيام مشغول”، و”حبيبي” ،و”أبونونة”، و”لونمشي”، و”على جبين الترف”، ثمّ غنّى الأعظمي مجموعة من المقامات هي : مقام الخنبات للفرقة الموسيقية ، ومقام البنجكاه مع الأغنية التراثيّة، والقصيدة لبشارة الخوري، أعقبه عزف على آلة المطبك مع الإيقاع المرافق، وقصيدة أبو الفضل الحصكفي، وهي من مقام الدشت، كما قدّم ” فراقهم بكاني”، و”يامن لعبت به الشمول”، و”يازارع البزرنكوش”، وأختتمت الأمسية بمجموعة من الإيقاعات العراقية، وحين غادرت القاعة ظلّت كلمات “ياقهوتك عزاوي بيها المدلل زعلان” ملصقة في ذاكرتي، لتعيدني إلى ليالي بغداد، ومقاهيها .

Your Page Title