حسن مجَّاد
” يقدر المرءُ أن يكون عظيماً في الحزن ، أو قل بطلاً ، ولكنه في السعادة وحدها يكون إلهاً “
هاينريش فيلهلم فون كلايست
-1-
من يحرّك أغصانَ الشجرةِ المتشابكة في ليل الشتاء الحزين ؟
– أهي الريحُ كما يقول المعلمُ في قاعةِ الدرسِ ، أم أنَّ فيلماً مرعباً تشاهده ، وما ان تخرج من صالة العرض حتّى تداهمك الطبيعة بالأسئلة ، فتظنُّ أنَّ شبحاً ما قد حرّك طيف الأشجار .
لا يمكنُ لك أن ترى الشبحَ ، ولكنَّه يتراءى لك ، لا ينكشفُ أمامَ عينيك ، ولكنَّه يتكشّفُ لحظةَ مروقه واختفائه معاً ، وما سيبقى من طيفه الا صورة غامضة للشعور بالخوف .
نتساءلُ دائماً ، ونحنُ نطالعُ قصيدةً تهتزُ بها فرائصُنا ، عن أسرارِ أطيافِها،وعن مَبعثِ هذا الحُزْنِوالشُّعور المخيف بالفرح،ولكنَّ القصيدةَ تختفي ببلاغتها من ذاكرتنا ونبقى أسرى لماضي تجاربنا الدفينة في الشعور بالإحباط والعجز عن تحقيق الأحلام .
وفي أزمنة الخيبة وضياع الحلم ، يصبح الشاعر المعاصر ممزقاً بـ(روح هاملتية) يثأر للقاتل الذي قتل أباه ، فتزوَّج أمَّه ، ثأراً يُشبه عواءَ ذئبٍ يفترسُ ضحيتَهُبالبكاء ، فالشاعرُ الهاملتيُّ لا يكشفُ عن جريمةِ قتلٍ ، أو يقدّمُ إدانةً لموقف الانحطاط الأخلاقي والقيمي فحسب، إنّه يُعرّي حالة التمزَّق الروحيّ ، ويفكك زيفَ الافتنانِبالسؤال عوضاً عن تحرٍ مشبوه خلف وجه قاتل ٍ مموه بأقنعة الدميمة ويد ملطخة بدماء ضحايا الحروب.
لا تريد هذه الورقة أن تعزز فكرة فنطازية لقرين الشاعر ، أو تؤكدُ على فكرة الاختلاق المسرحيّ في شبح هاملت شكسبير ، أو تستذكر هموم ارنستو ساباتو في تجاربه وقلقه ومخاوفه عن ( الكاتب المعاصر وكوابيسه ) وهو يقدم بذهنه المتوقد تأملات عن صنعة السرد وقواعد الكتابة الروائية ، أو تستعيد فكرة (طيف الخيال) لتستلهم أبعادها الرؤيوية في الشعريّة العربيّة، وإنما تريد أن تجد تفسيراً لجموح الخيال وأفقه ، و أصول الرؤيا ومنابعها في القصيدة المعاصرة ؛ لأننا ندركُ أنَّ الحقيقة الشعريّة تبقى مقرونة بالحس الذاتي، بقدر ما تقتنص من نفوذ وعي مشرق في فكرها الفلسفيّ، يكون بمقدوره توليد الصورة من خلال ربط اللامعقول بالمألوف وتوليف الجزئيّ بالكليّ وصولاً الى ما تكشف عنه المرآة في قاع الروح وتناقضاتها .
أقولُ ذلك، معترفاًَ، بأنَّ النقد لا يضرب في متاهة التخمين الساذج عن لحظة ولادة القصيدة وكتابتها وتلقيها ؛ لأنَّ الأوضاع المعقدة في اختلاف أزمنة الكتابة الشعريّة وطقوسها واحتفالاتها تختلف وتتباين لا بحسب تباين سايكولوجية الجمهور وتفاوت الذائقة الجمالية للعصور فحسب، بل باختلاف نوع من الغموض الذي يرافق ولادة هذا الطفل المبارك من احتفالات الآلهة في التراجيديات الإغريقية الى يقظة لهيب الجماهير في الواقعية الاشتراكية وصولاً إلى الإنصات لسلطة اللاوعي في الكتابة الميكانيكية عند السورياليين وأسلافهم .
إذاً ، فإنَّ تشريح جماليات القصيدة ، لا يعني قتلها أولاً ، ثم تحويلها إلى جثث من بلاغة المعاني ، وسحر البيان ، ووقع أداء البديع ، بل يعني مراقبة نبضها ، والإنصات الى أصدائها البعيدة في تمثيل التجارب الجمالية ، واستكشاف طاقتها الحيوية في مواجهة الفرد للواقع ، ومقابسة المصير بالمجهول .
-2-
تكشف باقة المجموعات الشعرية المختارة من رحلة الحصاد في مسابقة ( جائزة أثير للقصيدة العربيّة – في دورتها الثانية لعام 2016 ) عن مشكلات في الشعريّة المعاصرة على مستوى التعبير الجماليّ والنزوع نحو أفق المغايرة ووقوع شاعرها في ممالك أشباح النصوص الكبرى في الشعريّة الحديثة، يفتتن بها ، ويحاول أن يتعقبها، فيصطاد من ظلالها ما يُرى في نصه واضحاً ، ويختفي الآخر بسبب معالجات في أداء الكتابة ومهارات الأسلوب ، ولكن أشباح التأثير تظل واضحة ، تبدو هنا وهناك في مرايا النص مثل بقع أرجوانية ، أو كوشمٍ على جسد غض لم يكتمل بعد ، ولكن هذا القول لا يعني التقليل من النص الشعريّ قيمة ومعنى؛ باسترداد أصواته إلى أصداء قريبة أو بعيدة، بقدر ما تعني محاولة الخروج من أطياف التجارب ، وهي بكل الأحوال مشكلات متداخلة ومتباينة من شاعر الى آخر ، تخبو في نصٍ ، وتنبو في نصوص أخر ، بشكل يدفعنا إلى بيانها على وفق ما يأتي :
1- مشكلة تجاوب أصداء الرواد وما بعدهم في القصيدة المعاصرة.
2- مشكلة الافتنان بتنويع أجناس البديع في قصيدة البيت الشعريّ .
3- المعاظلة بين الفكرة الشعرية والشكل التعبيريّ .
وقبل أن نعالج نقدياً مشكلات القصيدة المعاصرة ، علينا أن نقف عند منازل الرؤيا الشعرية توقداً في التصور، وجموحاً في الخيال، وبعداً انسانياً في العواطف ؛ لكي نجدَ مبرراً لاستكشاف التجارب المغايرة بتنوعها وتدفق أصواتها وحيوية أساليبها، وهي على النحو الآتي بلا ترتيب يفصح عن أهمية أحداها على الأخرى:
(مرايا آدم) لـمهدي سلمان، و (تركنا نوافذنا للطيور) للشاعر محمد عريج، و (شمعة في العدم) للشاعر محمد المهدّي، و(في الصعود الى الماء) للشاعر أيمن إبراهيم معروف، و(أصابع على سياج المنفى) للشاعر محمد السويديّ،و(وصايا العاشق) للشاعر نمر سعدي و(لم ينتبه أحد لموتك) و(اخترت هذا المجاز) لزياد السالمي.
-3-
ونحن نطالع هنا المجموعات المختارة ينبغي ألاّ نمحو من أذهاننا ذاكرة تاريخ القصيدة العربيّة وقد تخلصت منذ منتصف القرن العشرين من عبء بلاغة المثال العالي في عمود الشعر معارضةً وتقليداً ومحاكاة لنماذجها الكبرى، والإفادة من تنوع الموسيقى وامتداداتها وتموجاتها؛ تبعاً لمتغيرات الحالة والشعور الوجدانيّ .
وإذا كانت القصيدة مع تراث الرواد ومبتكراتهم الشعريّة تعقد صلة ماضي هموم الانسان المعاصر بحاضره ، فإنَّنا لا نلبث مع نهايات القرن العشرين أن نمسك بولادة نمط شعريّ لم يخرج من عباءة هذا التراث الشعريّ ببلاغته وتنويع أشكاله الشعريّة ؛ لتعبر عن مسخ الانسان ، وتقدم شعورا مبهماً بالحياة ، وهي تستلهم بنوع ما نموذجها من مقابسات الأثر .
فقد ظلت تجربة السياب الأسطورية الرمزية ، وخليل حاوي في فكرة البعث الحضاري، وأحزان صلاح عبد الصبور الممزوجة بالغنائية الرومانطيقية والحس الوجودي ، ويوميات سعدي يوسف الشعريّة في قصيدة المنفى ، والهدير الإيقاعي للنبرة اللغوية في عوالم درويش الشعريّة حاضرة في القصيدة المعاصرة بنوع من المباشرة حد التماهي حيناً ، ونوع من الخفاء الذي يتطلب محو الأثر حينا آخر، وهو ما يوقع القصيدة في الاتباعية في الوقت الذي يدعو شاعرها الى الابتكار ، ويضعها في تجاوب مع المثال في الوقت الذي تسعى به نحو الاحتكام الى جماليات الشكل الشعريّ ومقتضياته التعبيرية .
وعلينا ونحن نطلق هذا الرأي أن نراقب حساسية النص والاستجابة الجمالية لمتغيرات الواقع ، من دون الاكتفاء بالإحساس المشوب باليقين الذي يرافق لحظة تلقي القصيدة؛ لأنَّ محاولة تفسير أسرار افتتان الشاعر المعاصر بتراث الرواد وما بعدهم من الستينيين، قد يوفر لنا فرصة الثرثرة النقدية حول(واقع القصيدة وآفاقها المستقبلية) عبر مراجعة يختلط بها الإطاحة بالحكم لصالح التكهن بالغيب، ولكنها تغيَّب لحظة قراءة ما يمكن أن نعيد النظر به من فرصة جادة في مناقشة (جذور التوليد والابتكار) في راهن القصيدة المعاصرة، ومشكلات ثقافة الشاعر ونضوجه في التجربة .
كان الشاعر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وصولاً الى خيمة الهزيمة الحزيرانية جزءاً من المشهد التاريخيّ في صناعة الالتزام الايديولوجي وإكساب الوجدان القومي بالشعور السياسي ، ودمج الانسان بالوطن مناضلاً ضد قهر القوى الاستغلال الاقتصادي من سلطةالإقطاعية الى القوى الرجعية، وصولاً الى تحقيق الوعي الجماهيري بحركة التاريخ، وارتطمت القصيدة بهول الحلم المفزع في تكوين حياة كريمة تبدأ من أرصفةالنقابة العمالية وتنتهي عند بوابات الحانة السعيدة.
كان الشاعر وعل الغابة المتشابكة ، يدخلها مرتطماً بالفعل السياسيّ والمزاج الذاتي الحاد ، متقلباً بين حلمٍ متوهجٍ بالصعود الاقتصادي للدولة الوطنية وتأرجحٍ متعثرٍمن اليمين الى اليسار ،حتى أصبح وعل الغابة ووحلها معاً ، وحين انطفأت جمرة الحلم كان الرماد يذري كحل العيون فلا نرى الطريق الى منازلنا الا بفائض من شجن العودة الى أمكنة مقتلعة ، أو حنين مدمر لذات تشعر بانسحاقها وضياعها ، وقد جاءت القصيدة بأطوارها المختلفة من لحظة الانبهار بالأنموذج الى لحظة السقوط تعبيراً حيّا لمبتكرات الانجاز الحداثيّ في الشكل الشعريّ وممكناته التعبيرية والأسلوبيّة.
أما الشاعر الشاب المعاصر فإنّه قد وصل الى الحياة وقد وجد المسرحية قد احتفت بقاتليها ، الجلاد وبائع التذاكر، ونادل الحانة المخبر مع حفار القبور، فلم ير شارعاً عريضاً للمظاهرات الحاشدة ، بل رأى حياة معلقة بين سراديب الأقبية ومضاجع المقبرة ، فهو لم يكتسب ممارسةً للفعل السياسي، أو دوراً في التغيير الاجتماعيّ يعزز أحلامه في فكرة التغيير الثوريّ كما أتيحت لآبائه ، وحين عجز عن ذلك ، وقع في فتنة التغيير الثوري من داخل القصيدة.
وإذا كان العمل الحزبيّ في تاريخ ربط الحركة الجماهيرية بأشكال التنظيم السياسيّ في اللحظة العربية الحرجة قد شيد صناعة النجوم الثقافية والأدبيّة، فإنَّ انهيار الأحزاب في أزمنة الدولة العسكراتية قد ضيق الأفق لولادة الأجيال الشعريّة المغايرة عن تراث الرواد وما بعدهم من الستينيين ، وبذلك ، لم يكن أمامه الا الاحتفاء بالتغريب الشكلي لـ(النصّ المفتوح) و(تداخل الأنواع) و( قصيدة النثر) بدوافع التجريب الجماليّ الذي لا يخلو في جانب من جوانبه من دوافع الاستسهال في فنون القول والشعور المبهم لتوليد أشكال هجينة بسبب من قلة دربة في أصول الصناعة ، وانطفأت بذلك وحدة الشعور الجمالي في التعبير الأدبيّ، لصالح تقوقع الذات المجرّحة في هواجسها ووحدة نبرتها وتساؤلاتها .
وفي ظلّ هذه الآفاق تجيء مجموعتا (لم ينتبه أحد لموتك) و(وصايا العاشق) وهما مندغمتان بالعوالم الدرويشة على مستوى الصوت اللغوي، ولهجة الشجن الفلسطينيّ ، ففي (لم ينتبه أحد لموتك) يشاع الأسلوب الدرويشيّ في المفتتح الشعريّ بوصفه تقليداً لتهيئة أجواء القصيدة وعالمها من وصف المشهد وتأثيث الديكور الخارجيّ الذي يوفر إمكانية تعدد الأصوات والمونولوج الدراميّ في القصيدة الغنائية ، وهو في قصيدته ( فطمة تحمل جرحين بيدٍ واحدة) يذكرنا أيضاً بـ( كتاب حمدة) لمحمد القيسيّ في استثمار الوعي الشعبيّ المقصيّ في رسم الشخصية بأبعادها الإنسانية والروحية :
( فطمةْ تعدّ ليَ السفينةَ
هل أعدُّ لها انتظاريْ؟
من أينَ يأتي العجزُ –يا أمَّ القصيدةِ-
بانكساري؟؟!
فطمةْ..
ستفتحُ صدرها للبحرِ
ترضعهُ، وتصمدُ..
كلُّ هذا الملح تعرفهُ
وتعرفُ كيف تسكُب منه شيئًا في الطعامِ
وكيفَ تفطمُ طفلها ) ( لم ينتبه أحد لموتك : 8-9 ) .
يقدّمُ لنا نمر سعدي في (وصايا العاشق) أنموذجاً شعرياً لبلاغة الموقف ، موقف الرفض السياسيّ والتوحد الصوفيّ ؛ ليطل من خلاصة وصيته على اختلال التوازن بين عاشق الأرض – المرأة ، وهي صورة في توحدها شائعة في شعرية الرفض السياسيّ لما بعد قصيدة المقاومة الفلسطينية لاسيما عند درويش وسميح القاسم والبرغوث ، فيبقى العاشق بحاراً يمخر عباب الدنيا الصعبة ؛ بحثاً عن الأزرق في عيون حبيبته :
( وفي طريقِ البحرِ أغنيةٌ
تحثُّ دمي على الطيرانِ
لنْ أنسى فلا شَبحي هنا شَبحي
ولا سيناءُ سينائي
أعطني سبباً لأعرفَ
أنَّ ما أنا فيهِ ليسَ من التقمُّصِ
وأعطني قلباً لكي أنسى
وأذهبَ في طريقِ البحرِ )
ولكن نبرة الأسى للبحّار المأخوذة بلا جدوى المغامرة تظل جزءاً من الولع الدرويشيّ في ( صورة البحر) المنسكب على جسد امرأة ، وهي صورة وفرتها فكرة التداعي الذهني واختلاط المشاهد بالصورة من خلال الذاكرة الشعريّة التي تعمد الى تكوين مقاطع عرضية متقابلة بين البحر والصحراء بدلالتها المتعددة للعجز والتيه . وكان بإمكان ( وصايا العاشق) ، وهي قصائد قصيرة متسلسلة ضمن مناخ شعوريّ واحد، أن تصبح قصيدة طويلة وقد تشكلت على مقاطع من خلال استثمار الكولاج والقطع السينمائيّ للمشاهد، لولا هيمنة الدمج الذي يكسر فكرة أن نعدها (قصيدة مطولة) وذلك باستثمارها وحدة الحدث المأساوي واكتناز أبعاده الدرامية بأفق يصور تصدع الذات ويضع نهاية لمصير العالم بعد موت العاشق المغدور ! .
وتأتي (أصابع على سياج المنفى) وهي تتكئ على معطيات (العمود الرومانسيّ) في بلاغة التركيب الشعريّ على مستوى علاقات الاستعارات القريبة والبعيدة ،وهي تفيد من بلاغة قصيدة البيت بمبتكراتها الأسلوبية الجديدة التي لا تخلو من العودة الى ” وجدانيات “المدرسة الرومانسية في الشعرية العربيّة ومعطيات تراث الكلاسية الجديدة عند الجواهري والبردوني، ولكنها وهي تؤثث بنيتها الشعريّة نجد انفصالاً بين أبياتها ، ولا ينتظمها الا وحدة الموضوع الذي يبقى خارج الذات ، وهو ما جعل مفتتح قصائد المجموعة لوحات وصفية ينتظمها الوصف الشعريّ من خلال التحسين البلاغي والتزويق اللفظي بفنون البديع، ولا يخلق أجواء جمالية او فضاء شعرياً ، على الرغم من اقترانه بالأسى والنبرة السوداوية ،والمجموعة بها حاجة – في أغلب نماذجها – الى مهارة في بلاغة إنهاء القصيدة بوصفهاً جزءاً من البناء العضوي ، ولنأخذ قصيدته ( وجع الملح ) مثالاً ندلل به على مشكلة اللاتجانس والمعاظلة بين مقتضيات الفكرة الشعرية والشكل التعبيريّ:
( أُمِّي امرأةٌ
يُمْكِنُ أَن تَسأَلَ بُستَانًا عَنْ خُضرَتِها
أُمِّي امرأةٌ يُمكِنُ أَن تَغْسِلَ بُلدانًا مِن دَمْعَتِها
أُمِّي وَجَعُ المِلحِ
ونَفْثُ اللهِ على الأَشْهَادِ
وأُمِّي أن تُصبِحَ حَلاجًا
كي تَعلَمَ ما في جُبَّتِها …
أُمِّي في حارَتِنا نَخْلةْ
تُطْعِمُنا مِن تَمْرِ العِفَّةِ
دَجلةُ
يَعبُرُ مِن حَارتِنا
يأخُذُ خُبزًا
مِن جارتِنا
يأخُذُ ثَمَرًا
مِن تينَتِنا
يَومًا
أَغْرَقَ دجلةُ طِفْلاً
رحنا نَصْرخُ
يا سُبحانَكَ
أَعِدِ الطِّفلَ !
فنَحنُ أناسُكْ !!
نحنُ يقينُك َ أَو وَسواسُكْ
.لم يَسْمعْ دَجلةُ صَرخَتَنا !
أَصْبَحَ دَجلةُ لا يَعرِفُنا !
بل
يَأكُلُ
لا يَشبَعُ
مِنّا )
يتشكل بناء القصيدة على مبدأ المزاوجة بين فكرة التشخيص الرمزية والتشبيهات التقريبية في بناء الصورة الشعرية، ففي الوقت الذي يكسب الشاعر إحساساً إنسانياً للجماد في ( وجع الملح) ، فإنَّه لايعمق هذا الإحساس بنوع من التوازي في الصورة ومقابلاتها ؛ لأنَّ صور القصيدة المتلاحقة ستبقى من نتاج (الخيال التفسيريّ) الذي يكون بنية التشبيه في وظائفه التقريبية والتمثيلية لعقد أطراف النسبة بين( المشبه والمشبه به) ، اما في مبدأ التشخيص والتجسيم و تراسل الحواس فإنَّ الصور قد تجيء من وحي الذاكرة التي تعمل على التوليف بين اللامألوف والمألوف وهي نتاج الخيال الابتكاريّ الذي يولد الصورة الشعريةبوظائفها الحيوية ومنابعها اللاشعوريّة ، ومن خلال هذه المزاوجة المفتلعة أصبحت نهايات القصيدة أكثر قلقاً من بداياتها ،تنحو نحو المباشرة والبتر في الانتقال فيسلالم التعبير الشعريّ ، وصولاً الى نفي العلاقة وتجريد محتواها الموضوعي والفكريّ ، بحيث يصبح من السهولة أن نحذف النهاية من دون أن تنهار فكرة القصيدة وهكذا تختتم القصيدة : (
أَصْبَحَ دَجلةُ لا يَعرِفُنا !
بل
يَأكُلُ
لا يَشبَعُ
مِنّا )
إنَّ استكشاف الجوانب المظلمة للوجع الإنسانيفي القصيدة ينبغي أن يكون نموه نمواً داخلياً وليس وصفاً خارجياً ، فأوجاعنا هي أوجاع النهر في رغبته الجامحة للظمأ والحياة معاً ، وهو ما لم نشهده في قصائد (أصابع على سياج المنفى) التي تبشر بصوت شعريّ ممتاز في القصيدة العراقيّة.
-4-
بدءاً قد يوفر الشعر الخلاّق ضرباً من ضروب الاتزان السايكولوجيّ، فالشعور بالغبطة والشجن ليست عوارض لحالة إنسانية، كما أن الإحساس بالفجيعة ليس حدثاً يقع على ضفة بعيدة من اضطراب الموج بالعاصفة، فالقصيدة بنية وتركيباً وعمقاً دلالياً تحافظ على عمق الفكرة الطازجة مع الوعي الذاتي بالتجربة الانفعالية ؛ كيلا تصبحَ ترهلاً فائضاً عن حاجة الشعور ، أو تقوقعاً فكرياً تنغلق على ذاتها بشعرية اللامعنى وإشاعة الغموض .
وعليه، فإنَّ التجربة مهما تناهت في فرديتها لا تصبح مثالاً شعرياً ما لم تكتسب معنى صالحاً لفهم طبائع الحياة وجوهرها الغامض والملتبس، فلا تحمل القصيدة الجادة بأصواتها وأصدائها نبرة شحوب العواطف وخفة المواقف الصادمة التي تمرُّ بصاحبها في وهج أيامه، بل تستقرُّ في أقاصي لاوعيه بوصفها أثراً لجرح وندوباً لنداء وجع قديم ، ومن هنا، فإنَّ اصطدام الشاعر بالواقع قد يعرض قصيدته للآني ما لم يعمل على ربط خزائن لاوعيه بقلق الموقف واضطرابه وحيرته ، فتصبح القصيدة فيضاً محتدماً وليس انفعالاً صارخاً، مشاكسة لمنطق الريبة، وليس سخطاً مموهاً بغضب فاتر ، وهو ما أوقع مجمل التصوير الفنيّ وأنماطه المتباينة في دائرة الافتعال في بعض النصوص الشعريّة المختارة .
ومن خلال ضبط الانفعال العاطفي من الوقوع في ترهلٍ او شحوب صار بإمكان القصيدة العربيّة أن تتجه الى معادل موضوعي كما يسمه ( ت. س .اليوت ) وهو يناقش المسائل الجمالية في الشعر الدارمي في مقالته(هاملت ومشاكله)، وذلك من خلال التمثيل الدرامي بدل التعبير الذاتي ، والمونولوج الدرامي الذي يستكشف أبعاد وعي الشخصية ، وهو ما نجده في طبيعة الانفصال بين (ذات الشاعر) واصطناع شخصياته الرمزية في القصيدة كما في (مرايا آدم) لمهدي سلمان و(تركنا نوافذنا للطيور) لمحمد عريج .
تأتي مجموعة الشاعر مهدي سلمان (مرايا آدم) لتختبر محنة آدم المعاصر وهو يقشّر تفاحة العدم، ويطعن براءة الخلاص الروحي لمشكلة الانسان الطيب الذي تداهمه الخطيئة وتورثه الشعور بالخذلان، وهي تذكرنا بمجموعة الشاعر العراقيّ عليّ جعفر العلاّق ( أيام آدم ) التي قدمت بلاغة عميقة للإحساس بالزمن الشعريّ ، او مخاطفة الزوال كما في قصيدة سامي مهدي ( سعادة عوليس) التي يقرن بين يوم بلوم عند جيمس جويس في (يوليسس) و يوم قاسٍ للبغدادي العائد من نزهة الحرب .
ولكن مصادر التعبير الشعريّ في (مرايا آدم) لا تبعد عن فكرة التمثيل الرمزيّ لصورة آدم الروحية والدينية والميثولوجيّة ، ولعلَّ فكرة الإنسان – الطيب قد تجيء من ذاكرة عصور النهضة الآفلة، حين صوّر الصراع الإنسانيّ بين براءة الإنسان الطيب وشرور الطبيعة ، وعلى الرغم من أنَّ البطاقة الشخصيّة لتاريخ هزيمة الإنسان يعود إلى أصل وجوده أولاً ، فقد فُسرّت مشكلاته الوجودية في سعيه نحو البحث عن الخلاص في العالم الآخر من دون أن يكتشف بعد عن الإرادة الجبّارة التي تكمن في سرّه وتضطلع بمهام تحقيق المعادلة الحرجة بين الضروري من الحاجات الاقتصادية والممكن من السعادات الروحية الشاقة، وهي بدورها تنعكس جدلياً مع طبيعة العلاقات السياسية التي يحياها الفرد وتكرسها الجماعة في أشكال التنظيم من مجتمعات ما قبل القبيلة الى مجتمعات الدولة، أو من فكرة الحق الإلهيّ الى سبل التعاقد الاجتماعيّ ، فمن (التراتيل الدينية) في طقوس الاحتفالات الميلاد والبعث إلى “أغاني المنشد الجوّال” في الضيعة القرون الوسطى وحقولها عبوراً نحو تكشف ولادة الذات والغوص في مجراتها وعوالمها ، يكون الفن وسيلة من وسائل تنظيم الانفعال الإنسانيّ وطريقة من طرق اختبار الوجدان في رحلة المسرات والأحزان.
وبين (مرايا آدم) لمهدي سلمان و(اخترت هذا المجاز) لزياد السالمي صورتان متقابلتان لمحنة آدم المعاصر، تتشكل الصورة باختلاف مرجعياتها الشعريّة ، ولكنها تنهل من (المأزق الوجودي) للإنسان الفائض عن الحاجة ، يقول زياد السالمي :
( استراحة
هي هكذا من عهد آدم
كالمبالاة النوايا عامراتٌ بانحسارك
هكذا أعجاز وعدٍ ؛عبرةٌ في سابقيك على نهارك فاسترحْ واتركْ لحزنك أن يضيء بجرأةٍ ؛ أقسى من الرجوى اشتعال القيد منك إلى خيارك ؛
خطوةٌ للخلف قد تغنيك عن إغراء حلمك
هدِّمْ الجسر الذي لم يكتمل بعد
اجتزئ ْتنهيدةً من رغوة النسيان كي تقوى على قطع المسافة
لا على مضغ انتصارك..)
إنَّ مأزق الخيار مرتبط بحرية الإرادة ، والإنسانالمعاصر مقيد بأغلال الشركات الاقتصادية العابرة للقارات ، تهلك قوت يومه ، وتجعله نهباً لوحش المصير المجهول ، ولا يبقى أمامه الا أن ( يختار هذا المجاز ) الضيق في دروب الأرض الموحشة .
وتقدّم مجموعة (تركنا نوافذنا للطيور) صورة حية لتركة الإنسان المخذول الذي طحنته الأوبئة والانسحاق ، فمن محارب بزي هوميروسيّ يروّض الحروب بشراسة الى صائد يدجن الطيور البرية ، وهي مجموعة تمزج في طريقها نحو تحقيق المعادلة الشعرية الصعبة بين معطيات الأسلوب الأدونيسيّ في العبارة الشعريّة ونبرة الرفض السياسيّ عند درويش ، وتبقى متأرجحة بين مصادرها المتعددة ونماذجها المختلفة من قصيدة التفعيلة الى قصيدة البيت .
ومن آفاق الشعور الحاد بزيف الواقع والاندماج بالتجربة الباطنية بوصفها محوراً لتأمل الذات والعالم تجلت فكرة (الخيال المفرط) في الشعرية الأوربيّة في الاتجاه الرمزي ، واتخاذ الرؤى والأحلام بديلاً جوهرياً عن الحقيقة الموضوعية التي تعكس طبيعة العلاقة التراجيدية لمأساة الانسان المعاصر ، واتخذت مصادر (الخيال المفرط) أسسها التجريدية من فيض التجارب الصوفيّة ، وإدراك الانسان بأنَّ الحقيقة هي ما تتولد بالذات التي تصل بوعيها الى حالة الفناء ، وعلى هذا يمكن أن ننسب (في الصعود الى الماء) الى هذا الاتجاه الشعريّ ، وهي تذكرنا بـمقولة أبي القاسم الجنيد ( قد مشى رجال باليقين على الماء ، أما من مات على العطش فهو أفضل منهم يقيناً ) ، فهو يقول في مفتتحه ( إيماءة ) :
( من أجل أغنية فقط ،
من أجل أغنية، وسبع سنابل
عطشى ، أتيت
ما خنتُ أنهاري
ولا غدرت بماء الشعر أسئلتي
وما قلت ارتويت )
تشكل (في الصعود الى الماء) لأيمن إبراهيم معروف نوعاً من الانبثاق الصوفي في استكشاف الوجد ومقامات الرائي ؛ بحثاً عن (الماء – الآنية)وقد تماهت حد اللانفصال ، أو ملتحقة بما يعرف صوفيا بـ(يقين العطش) ، وتتضح النبرة الغنائية في نصوص معروف وتغدو نشيداً ذاتياً ، يتكرر في أجواء القصيدة والأخرى ، مفيداً من رمزية الماء كما تجلت عند الصوفيين، فالظمأ حالة تستلزم الارتحال الى داخل الذات حتى تفنى في الخلق ،والقصائد تقدم بـ( اللايقين ) صورة للعالم ، وترسم صورة لأبي العلاء المعريّ الهرطقيّ ، وتضيء الوجد عبر قصائد ( المقامات ) :
( اني اختلفت مع اليقين
وليس لي في الشك
غير الشك ما أخفي وأبدي )
وتتخاطف الرؤيا مصير الشاعر وماضي أيامه وهو مأخوذ بأقصى ما في تجربة الصوفي – الهرطقي من انزواء خلاّق لنكران العالم :
( لا لستُ زرقاء اليمامة
غير أني قد رأيت غدي
مساء البارحة ْ
يقتات من لحمي
وينشر عند باب الليل
في غده الكفيف : الرائحة )
إنَّ تجربة محمد المهدّي في (شمعة في العدم) لا تخرج عن أفق مسألة الاصطدام بين قناديل الأمكنةالشاحبة وعتمة الروح وخوائها ، فهو يمرّ من خلال قصيدته (من سلالة الماء) على أماكن غابرة (أثينا) (سرنديب) :
( رجلٌ من سرنديب
يحمل في يده صورتي ويقولُ :
احفظوا يا رفاقي صورة بوذا العظيم .
رجل من سرنديب حدّ الذهول
له صلة بجديد اكتمالي
له صلة باكتمالي القديم )
وتبقى قصيدة ( الحكاية أكبر من قارئ عابر) واحدة من أهم قصائد المهدي الشعريّة ، وهو يقلب (قصة الخلق) ويمحو آثارها في القصيدة، ولكننا نستشف ظلالها النائية من خلال التوتر الخلاق بين مصير الانسان ورحلته في القفار الحديثة ، وتقدم لنا صورة أخرى لقصيدته التي تشيد في بنيتها الفكرية (مشكلة الرحلة) ليس بوصفها نوعاً من تقاليد الشعريّة العربيّة ، بل بوصفها هماً وجودياً يفضي الى تهديم العلاقات بين الرحلة الى الداخل ، والهجرة الى الخارج مغامرة ومنفى.
وإذا كانت فكرة ( المرآة المتصدعة) وسيلة الشاعر الرائي في بصيرة الوجه الشاحب لآدم الكسيح عند مهدي سلمان ، فإنَّ ظمأ روحيا سيبقى يدفعه في البلوغ الى بئر الماء في مجموعة إبراهيم معروف ، ويكون اختيار ( المجاز الضيق المعتم) عند زياد السالمي مرتبطاً بأغلال الإرادة والحرية الفردية، وهو ما قد توقده فيما بعد مجموعة الشاعر المهدي ( شمعة في العدم ) محتفلة بالتشرد والاغتراب عن الواقع، وتصبح نوافذ البيوت الخالية من أهلها منازل للطيور البرية في مجموعة (تركنا نوافذنا للطيور) لمحمد عريج ، ولا يبقى من أثر سوى أصابع على سياج الروح المتهدم في المنفى عند السويدي ، وهو ما يجعل هذه الباقة الشعريّة تنطوي على شعور حاد بـ( الفناء) و(الموت) ونهاية تاريخ الانسان على اختلاف في مصادرها الشعرية وتنوع تجاربهاومشكلاتها الجمالية قوة وضعفاً ، وهي تخاطف أشباح النصوص ومرايا الواقع المهشمة ، وأطياف الرؤى ، مخاطفة واقتباساً وتأثيراً في سعيها المخلص بالنوايا والاجتهاد والمثابرة نحو تأسيس مناخ شعريّ جماليّ آسر ، فلا يبقى من تلك المخاطفات الا صورة شاحبة لهواجس الشعور بالشفقة والخوف ! .
إذاً ، ليست الريح وحدها من تحرك أغصان الشجرة المتشابكة وسط حديقتنا المنزلية ، وليست بيوتنا مساكن يتخاطفها الأشباح في ليل الشتاء البهيم ،وإذا كنا مدفوعين بنوع من الشعور بالرضا لمدفئة العائلة ، نبدد حولها وحشتنا بالحكايات والثرثرة ، فإنَّ دبيب الأسى سيظل يرافقنا زمناً طويلاً عن مبعث الخوف الذي لازمنا ونحن نظنُّ أنَّ شيئاً ما قد حرّك شيجرات الصفصاف ، وتوارى خلف ستائر النافذة .
يسميه الطفل : أسماك القرش تلعب في ساحة المدرسة !
ويسميه الرجل الحكيم : طبول الليل في مغارة المعركة !
وتسميه المرأة : المغزل والخيط وهي منشغلة بترتيب عالمها المنزلي .
ويسميه الولد العاق معدلاً حكمته الشكسبيرية : شبح الحياة يمشي مثل ظل ممثل مسكين، قصيدة يقولها شاعر معتوه ملؤها الصخب والعنف ولا تعني أي شيء !.