أبجد

كتّابٌ يستقصون قدرة انتصار الفنون على دموية الحروب

كتّابٌ يستقصون قدرة انتصار الفنون على دموية الحروب
كتّابٌ يستقصون قدرة انتصار الفنون على دموية الحروب كتّابٌ يستقصون قدرة انتصار الفنون على دموية الحروب

عالمنا العربي تغير كله وأصبحت الدموية والصخرية أهم صفاته ، ما مدى قدرة انتصار الفنون والمعرفة على ما يمرُّ به العالم العربي من اقتتال وتناحر، وهل يمكن أن تكون القصيدة حلاً.. ؟

وفي هذا أكد الشاعر العراقي الدكتور عارف الساعدي أن الفن الخالص بإمكانه مواجهة الخراب الذي يهيمن على الحال العربي مؤكدا ذلك بقوله:

لا شك شكلت القوى الناعمة على مدى زمن طويل جزءا من ردم الفجوات التي تتركها الساسة والحروب والمصائب، لذلك كانت اللوحة والقصيدة والموسيقى جزءا من علاج تتداوى به الشعوب للأمراض التي تخلفها الدكتاتوريات، ولكن المشكلة الأهم من ذلك أن عددا كبيرا من الفنون تحول بمرور الزمن إلى نسق متماه مع السلطة بحيث نجد عددا كبيرا من القصائد تمجد العنف وتدعو إلى القتل وإلى الكراهية، وصارت الموسيقى تعزف لأناشيد الخراب والدمار بدلا من أن نسمع الموسيقى مصاحبة لفيروز رحنا نسمعها مصاحبة لمشاهد العنف والموت، لذلك علينا أولا أن نعالج الفن أصلا ونبعده عن الوظيفية التي يتمسح بها ليعود إلى وظيفته الأساسية وهي صناعة الجمال، ومن ثم حين نضمن فنا خالصا يدعو إلى الحب والجمال ويسهم بجد في صناعة حياة كريمة سنكون إزاء فن حقيقي يواجه النشاز في كل وقت ويكون جزءا من البديل الحياتي للخراب الذي تواجهه الشعوب.

أما الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري فقد ذهب إلى أن العالم العربي قد نجا جزء كبير منه نتيجة الحركات التنويرية إذ قال:

أعتقد أنّه لولا الحركات الإصلاحية والتنويريّة والموجات الأدبية والفنية التي عرفها الوطن العربيّ منذ مطلع القرن العشرين خاصة ، لكان هول واقعنا مضاعفا ، إذ نجا قسم لا بأس به من مجتمعنا العربي وتحصّن الملايين من الناس بالعلم والمعرفة والفنّ، أولئك الذين مرّوا بالمدارس والمعاهد والجامعات ودور الثقافة ونوادي المسرح والشعر والسينما وغيرها، تلك التي انتشرت بشكل تصاعدي في أنحاء كثيرة من الدول العربية ، أقول هذا وأنا واع تماما بالتفشّي الرهيب للأميّة والشعوذة في أغلب الشرائح الاجتماعيّة، لكن كما يقول المتنبي العظيم ” بضدّها تتميّز الأشياء “، ولنا أن نتصوّر لحظتنا الراهنة المحتقنة الدامية في غياب شرائح المتعلمين والمثقفين والمبدعين، إذن سلم البعض منّا من شهوة القتل والتخريب ومن تأثير المتاجرين بالدين الإسلامي الحنيف بفضل جهود نبيلة بُذلت طوال القرن الماضي وإثر استقلال بعض الدول العربية من الاستعمار الغاشم ، فقد عملت النخب ذات الحسّ الوطني والقومي على تحرير الإنسان العربي من براثن الجهل وحرصت على توجيهه نحو عوالم الثقافة والعلم والفنّ ، ممّا حدّ نسبيّا من هيمنة الخرافة والعصبيّات والنعرة القبليّة والجهويّة، إضافة طبعا إلى مقاومة كلّ أشكال الطائفيّة في بعض الدول العربية وتحفيز الناس على الانفتاح على العالم والمعارف الإنسانية من خلال التعلّم والاطلاع على الإبداعات الأدبية والفنيّة المتعدّدة، كما تمّ الالتفات المقصود إلى الحضارات القديمة وإلى موروثنا من أدب نيّر وفكر مجتهد ، أعتقد حقيقة أنّ دمويّة مشهد اليوم كان يمكن أن تكون أشدّ فظاعة وفداحة لو لم تنج نسبة المتعلمين والمثقفين والمبدعين ، لكنّ مشكلة الوطن العربي أعمق ممّا يظنّ البعض ، فالمعضلة تكمن في الفكر الأحاديّ وتأصّل شيطنة الآخر في باطن الإنسان العربي ، ولا تخفى عن أي مثقّف نزيه الجهة التي تكرّس هذا الفكر المريض وتخصّص الميزانيات الضخمة لتحقيق التصحّر الثقافي في أنحاء الوطن العربي، الجهة التي جعلت من عقيدة الأغلبية الساحقة تجارة كثيرة الربح، وحادت بها عن قيمها الرائعة مثل التسامح والإيثار والسلم والعدل وحبّ المعرفة والتعايش السلميّ ، يعرف المتوغّلون في تاريخنا الإسلامي العربي أنّ المعركة بين العقل المتكلّس والفكر الحرّ المجتهد دامت دهورا واحترق في سعيرها الآلاف والملايين من المصلحين والمفكّرين والمجدّدين ، دون أن ننسى ضحايا العقل المتحجّر من الأدباء والمبدعين عبر العصور المتعاقبة ويكفي أن نذكر الحلاّج وابن رشد وابن المقفّع مثلا ليشهق الدم في سلالتنا المتناحرة وأمّتنا التي يتقاسمها شقّان متصادمان بقوّة، شقّ اتّخذ من الخرافة والشعوذة وسيلة رهيبة للجم كلّ فكر حرّ وكلّ توق إلى حريّة الرأي والتعبير وشقّ لم يرم المنديل أبدا ولن نرمي سوى الكهنوت القديم المتجدّد في بئر لا قاع لها ، هذا الطرف الثاني يمثّله مبدعو الوطن العربي ومثقفوه ونخبة المفكّرين المهمّشين عن قصد في دول تعي أنظمتها جيّدا أنّ في انتشار الثقافة والإبداع والابتكار والخلق زوالها واندثار الفكر الظلامي الذي تقود به عامة الناس والرعاع والغوغاء وما خلّف الجهل، خلاصة القول أؤمن أنّ تراكم الفعل الإبداعي ومواصلة بثّ المعرفة في مجتمعاتنا سيثمر يوما جيلا معافى من الأمراض الطائفية والمذهبية ، جيلا يؤمن بحريّة الإنسان وبحقّه في التفكير المخالف للسائد والتعبير الحرّ المسؤول ، جيلا يحترم الآخر ويقدّس الحريّة الشخصيّة وهذا ما سيكون رغم أنف الغبار العابر ، فقد علّمني التاريخ أنّ البقاء لأفكار المجدّدين وإضافات المبدعين وتوهّج الشعراء في هشيم كلّ زمان ومكان، أمّا الوحش الكافر بالإنسان فنهايته حتميّة، لأنّه ببساطة ضدّ الحياة ولا رادّ لتدفّق الحياة.

أما الناقد العراقي حسن مجّاد فقد أكد قدرة الفنون والشعر على الانتصار بعد الإدراك التام بما يحيط بها من بشاعة وقبح فقال:

مع كلِّ جرح جديد نتحسسُ أوجاعَه يُصبحُ من اللازم علينا أن نبرهنَ على شيوعِ صحةِ ما هو قائمٌ أصالةً ، من دون أن نشككَ بمنطقه الداخلي وتماسكه الموهوم وحقيقته الخادعة ؛ ولهذا نظلُّ نقتبسُ من حقيبة الوصايا حكمة النوائب : ( داوِ جرحك لا يتسع ! ) و ( كن في الفتنة كابن اللبون ….) وقديما قال الشاعر : لا نسب اليوم ولا خلة … اتسع الخرق على الراقع ! فهل بعد كلِّ هذا التصدّع العظيم والانهيار المخيف ما زال الشعراءُ بقصائدهم يبحثون عن فراديس أرضية في خرائب المدن ، بعد أن ساهم الشعر بشكل أو بآخر بتكريس فحولة الحقيقة المطلقة حتّىوصلنا إلى هنا ؛ نقفُ بأطراف أصابعنا على أعالي البرزخ فلا نرى سوى عثرات الخطى ، ولا نشاهد الا مدناً للبنادق تتكدس مثل غابة بلا طيور . أقولُ ذلك وأنا أطلُّ على سنوات التوابيت التي قضيناها معاً بين الأرجوحة المنزلية وساحات الحرب ووصولنا أخيراً إلى شارعنا الشعبيّ الصاخب ، فقد انطفأت بها تلك السنوات قناديل الكلمة المضيئة لصالح الأهازيج الشعبية الكبرى ، ورست أساطيل بلاغة ( الخاكي) على سواحل ألوان الحياة المتعددة ، وتحول تراب الوطن إلى كافور نشيع به الموتى إلى مقابر مجهولة من دون أن نعرف ما الجدوى من كلِّ ذلك ؟ ووقف الشاعر على المنصة راقع نعل ومبرر حماقة ، واتاحت الأجواء هنا بعد عواصف الصحراء أن يُشاع فهم للحياة قوامه التشرد الزائف والصعلكة الخادعة ، فانهارت صورة الشاعر حامل مشاعل المعرفة بعد ان تلطخت ضحكته بنكات العجوز الذي لم يجد أحداً يكاتبه وبدت مثل حشرجة مخيفة ، وضاقت الدنيا بأهلها ، فتلاشت صورة المعلم الملهم الذي يقودُ تلاميذه الى نور العلم والتفكير العقلانيّ ، بعد ان وقع في فخاخ الحاجة الى لقمة العيش . ومن المعلوم أن يُشاع فهم ملتبس للحياة في ظل غياب الإيمان بالشعر والآداب من جهة ، وانهيار التفكير العقلاني في تقاليد المدرسة العلمية من جهة أخرى، فهم أقل ما يقال عنه إنَّه ايقاظ لرائحة العنف الخفي في السلوك، والعيش على حافة الاحساس بالفجيعة المرة التي نتوجس بها من الآخر ، فقد أصبح الشارع متاحاً للأفكار المغمسة بكراهية الماضي ،فأصبح الانسان مصاحباً لأشباح الظلام والعتمة، يأنس بوجودهم ويلتذ بالخوف الذي يحيطه وبالرهبة التي يشعر بها، ولكن وعلى طريقة المجنون العاشق : أقول لظبي مر بي وهو شارد… أأنت أخو ليلى فقال يُقال على طريقتنا في الجنون بالقصائد والحلم والرؤيا في أن نغير الهواء الضيق بالكلمة ونضيف (رتلاً) واحداً من الماء الحي ؛ لكي نصبح أحياء في حياة تليق بنا، أتساءل عن الشعراء ، عن أخوة ليلى الذين لا يبحثون عن عطور شهرة صالة العرض ، عن الشاعر الذي لا ينتمي الا الى نهر وطنه وماء قريته وبشاشة أهله في الحزن والفرح ، عن شاعر يكابد المعنى الشاق حتى يصنع الخالد من دون أن يركض خلف لهاث ( الاتحادات ) و ( النقابات ) التي هي جزء من بقايا الأنظمة الشمولية الكبرى التي رسخت مدائح الحماقة ، وحولت الناس من مواطنين في منازل الوطن الكبير الى جماهير في الشوارع لقاعدة شعبية ، وحولت الرأي إلى صوت مبحوح على شكل بطاقة يانصيب ترمى في صناديق الاقتراح ! . فهل الشعر قادر على احداث الفارق الجوهري ؟ – نعم ، هو قادر بعد أن ندرك بشاعة ما نحيا به !

Your Page Title