لـ معاوية الرواحي
يطرح جمع [تاريخ الموسيقى] مع كلمة عُمان إِشكاليات ذهنية قبل دخول النصوص التاريخية في الأمر، هكذا يبدو الأمر للقارئ العُمانيّ عندما يتلقى كلمة مثل كلمة [تاريخ] أمام كلمة [الموسيقى] أيضا، ماذا عساه أن يكون تاريخ الموسيقى في عُمان؟ وكيف يمكن أن يتم تتبع هذا التاريخ وأداة التوثيق الرئيسية الكبرى من أجهزة تقنية أو أستوديوهات تسجيل حديثة العهد في عمان، كيف يكون تصوري كقارئ لكتاب يتحدث عن تاريخ الموسيقى؟ إلا من خلال نافذة أخرى تتجاوز الآلة التقنية بعد الثورة الصناعية، إلى كتب التاريخ وصفحاته التي تختزن الأفكار التي تتناول الموسيقى، كما تختزن التصورات والرؤى والسياق الاجتماعي الحادث آنذاك، من هُناك يأتي كتاب القاص والباحث وليد النبهاني [من تاريخ الموسيقى في عُمان إشكاليات ونصوص] عملا بحثيا مختلفا للغاية وجريئا وصادما أحياناً.
يقول الباحث: “ولأن هذه الجهود ما زالت في بدايتها، تأتي هذه الدراسة مُحاوِلةً استكمال ما بدأه الباحثون بالتركيز على بعض الجوانب التاريخية التي قد تكون فاتت الدراسات السابقة لشح المصادر العُمانية في ذلك، ولعدم الاقتراب من المصادر الأخر لكونها تحمل نظرة سلبية إزاء الموسيقى، وما أعنيه هُنا تحديدا هي المصادر الدينية.”
في مقالٍ أدبي أنيق في بداية الكتاب وضح الباحث في البداية نظرته البحثية في تناول تاريخ الموسيقى في عُمان وما رافق ذلك من صعوبات جمّة سواء من حيث الابتعاد التلقائي للثقافة العُمانية ولا سيما في عُمان الداخل عبر العصور السابقة عن الموسيقى لما تمثله من لعب ولهو، أو من حيث ندرة الكتب المطبوعة التي يمكن الرجوع إليها مع تأكيده في مواقع لاحقة من الكتاب عن إمكانية تعميق الدراسات في تاريخ الموسيقى في عُمان باللجوء إلى الكنز من المخطوطات العُمانية والتي ما زالت في طور المراجعة والطباعة، مع انتقاده ما شاب بعض المطبوعات من أخطاء.
ناقش الكاتب في الباب الأول من الكتاب القطعة الموسيقية الأهم في تاريخ عُمان الحديث، ألا وهي النشيد السلطاني الذي أنشدته حناجر العُمانيين في بداية عهد عُمان الزاهر لجلالة لسلطان قابوس بن سعيد، وذكر عبر تتبعه للمصادر التاريخية ما يمكن أن يسمى تغيير جذريا في جميع الروايات التي قيلت عن النشيد السلطاني، سواءً من حيث تلحينه، أو من حيث تاريخ الأناشيد الوطنية حتى مع سلاطين عُمان في زنجبار، وقد تتبع الباحث جذور نشوء النشيد الوطني معتمدا على مراجعٍ أجنبية وعربية وعُمانية.
أما في الباب الثاني، فقد كان مختصا بالتراث العربي بشكل كبير، واتكأ كثيرة على الروايات الموجودة عن شخصية مازن بن غضوبة أول من أسلم من أهل عُمان، وكذلك على كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، ولعل أهم ما احتوى هذا الفصل ارتباط عُمان التاريخي بفكرة البعد والنأي، مما دفع أحد الخلفاء إلى نفي أحد المغنّين [الفنانين] في عصره إلى عُمان، وسيأتي ذكر ذلك لاحقا في جسد المقال.
ناقش الباب الثالث الموضوع الديني بشكل موضوعي ومنصف، وناقش خلاله في عنوان لا يخلو من الحبكة الفنية الشعرية [آلة موسيقية اسمها الدهر]، وتناول فيه العقلية العُمانية تجاه الموسيقى، والصورة النمطية التي تعامل بها الفقهاء، وكان من الواضح أن هذا الفصل هو أكثر الفصول التي أخذت من الكاتب جهدا بحثيا كبيرا للغاية يظهر من خلال قائمة المراجع الطويلة للغاية التي ألحقت في نهاية الكتاب والتي وصل عددها إلى [61] مرجعاً!!.
لم يحاول الكاتب في هذا الكتاب أن يتعامل مع الموسيقى كحالة دفاعية ذهنية كما يفعل الباحثون عادة، كنت قلقا أن أقرأ إحدى تلك الكتب التي يكتبها باحث شابٌّ نزق يهاجم فيها رجعية الزمن الماضي بأدوات غير منصفة للزمن الماضي أو للعقليات التي سادته وسادت فيه، إلا أن الكاتب لحسن الحظ قد خيب ظني.
كنت قلقا قبل أن أقرأ الكتاب ألّا أجد بغيتي فيه، كقارئ توقعت من الكتاب أن يخبرني عن شيء جديد لم أكن أعرفه عن الموسيقى في عُمان. وكشابٍّ عُماني في عصر عُمان الجديد أعلم جيدا أن أكبر إنجاز موسيقي في تاريخ عُمان هو بلا شك الأوركسترا السلطانية العُمانية. قبل أن أقرأ الكتاب كنت أتساءل، هل هناك جذورٌ لمثل هذا الإنجازِ العُماني؟ وأنا أمسك الكتاب وأتأمله قبل أن أشرع في قراءته وضعت هذه الأمنيات جانبا، ودخلت في حالتي الذهنية وأنا أقرأ، مختفيا عن العالم ومنسجما مع كل سطر على حدة.
تناول الكاتب أخطاء في فهمنا الإعلامي من خلال الأخبار المنقولة هنا وهناك عن النشيد السلطاني العُماني، ومن ضمن ما جلبه من مراجعه الــ[61] حكاية وردت عن النشيد السلطاني الحالي وكيف أنه تم تلحينه كما يبدو على عجل أثناء ما قيل عن حضور لسلطان عُمان افتتاح قناة السويس العربية. إلا أن الباحث الذي يجمع بين دراسة الإعلام وتقنيات البحث العلمي عبر كونه منسقا لتحرير الموسوعة العُمانية استخدم مرافعةً أنيقة ودقيقة لإثبات خطأ تلك الروايات بكل لطفٍ، راجعاً إلى الفتاوي التي ترافقت مع ذلك العصر ليؤكد الرواية الأقرب.
أورد الباحث حكاية مهمة عن السيد برغش وما ارتآه في عصره من ضرورة لوجود ما أسمها حينها [مقامة] تُعزف في المواسم والأعياد الرسمية معتمدا بذلك على ما رآه في أوروبا. ونقل الباحث مقالا نادراً يحكي الحكاية كاملةً، سواء من حيث إعطاء الملك لأوامره، أو تنقل هذه الأوامر إلى موظفي الإرساليات العاملين في تلك الفترة في المنطقة، الأقرب للموسيقى وللتأليف بسبب حياتهم المدنية المختلفة عن أفريقيا في ذلك العصر. كانت هذه حكاية النشيد الخاص بزنجبار والذي أنقل كلماته لك أيها القارئ الكريم كما وردت لي الوثيقة التي أوردها الباحث وللعلم فإن الأخطاء النحوية واللغوية فيها من الكتاب وليست من الباحث أو من كاتب المقال:
مقامة الدولة الزنجبارية
أنشئت في عهد السيد برغش بن سعيد بن سلطان بن أحمد آل أبي سعيد سلطان زنجبار وما يليها من أصل البر بأفريقية أدام الله ملكه
فليحيى السيد
مولانا الأمجد
في كل زمانِ
فليحيى منصورا
سعيدا مبرورا
بجاه الرحمانِ
طوبى لزنجبار
قد عمها الفخار
من فيض المنان
سادها السيد
برغش الأمجد
بالأمر الرباني
عمر البيداء
أقهر الأعداء
بنصر رنان
طوع العقوق
أعتق الرقيق
جاد بالإحسان
ملك البلاد
وساس العباد
بعدل حقاني
فليهتف الشعب
إحفظه يا رب
في كل آوانِ
&&&
تناول الكتاب موضوع أراه مهما للغاية ربما دون أن ينوي الكاتب ذلك، ألا وهو توثيق آثار الثورة الصناعية على حياة الإنسان كعنوان عام، وكعنوان خاصّ بالكتاب، تناول النص التاريخي من حيث الإمكانيات الصناعية في الفترة تلك، ومنها ما قالته الأميرة سالمة عن [الآلة الضخمة] التي كانت تخرج الألحان الموسيقية.
يجب على كل كاتب عُماني لديه الرغبة الفنية لتحويل بعض محطات التاريخ العُماني إلى أعمال أدبية أن يقرأ هذا الكتاب لكي يتجنب الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها بعض الأعمال المنشورة المعاصرة التي تسير على هذا المنوال، من باب الدقة التاريخية سواء من باب الدقة التاريخية أو من باب الجودة الفنية.
اكتفى الباب الثاني الذي أخذ من المصادر الأقرب إلى كل باحث عربي ببيان نقطة مهمة لقارئ الكتاب، ألا وهي إسلام مازن بن غضوبة وحواره مع النبي الكريم عن ولعه بالطرب، ودعاء النبي له أن يستبدل حبه للطرب بحبه للقرآن. متتبعاً بعض المراجع والأبيات الشعرية التي تتحدث عن ذلك، وهذا الباب كما يبدو لي كقارئ هو الباب الأوسع والأكثر تدفقا معلوماتيا من باقي المصادر لذلك أجد أن الكاتب كان حكيما في عدم الاستغراق فيه لتجنب التكرار. وختم الباب الثاني بحكاية لطيفة عن الخليفة الواثق الذي نفى أحد مغنيه إلى عُمان، وقد أحبطنا صاحب الأغاني بعدم إكماله للحكاية التي لا أدري أهي من وحي خياله أم من وحي ترحاله، عن المغني المسدود الذي نفي إلى عُمان ولم يقل ماذا حدث له فيها.
نأتي الآن إلى الباب الأهم من أبواب الكتاب، ألا وهو الباب الذي كان فيه الباحث جريئا ودقيقا، مع لمسة واضحة من اللطف بالآخر واحترام أفكاره بما لا يخرّب من الكتابة العلمية ويحول اتجاهها إلى مجال آخر. كنت قد خشيت أن أقرأ هجوماً شرساً من كاتب شاب على العقلية الدينية العُمانية القديمة أو الحالية التي نكن لها كل الاحترام، خشيت أن يكون ذلك جزءا من رعونةِ الإعلامية لا من حصافة الباحث والحمد لله فإن خشيتي لم تحدث.
تناول الكاتب بإنصاف تام دور العقلية الدينية في محاصرة أشكال التعبير الفني الموسيقي في عُمان مع بيان أسباب ذلك، ولعل أهمهما جانب خارج موضوع الكتاب ألا وهو الوضع الاقتصادي وكيف أن الموسيقى فعليا ترفٌ يأتي مع الرفاهية المالية. إلا أنه ورغم تلك العصور وما عانته من فقر حقيقي في المال والحال، لم تخل الحياة العُمانية من الترفيه الموسيقي، إذ أورد الباحث ما يؤكد ذلك من خلال [ردة فعل] المؤسسة الدينية ورجالاتها آنذاك على بعض النشاطات الموسيقية، كانت النقطة الأهم في نظري في الفصل الأهم من هذا الكتاب هي نظرة الباحث حول [وثوقية] التأريخ الشعري، مؤكدا ذلك بقصيدة لراشد بن خميس الحبسي حول ابن عمّار السعالي، وهناك بدا لي كما لو كنت أقرأ عن عُمان أخرى لم أكن أتخيل وجودها ليس لأنها لم تكن موجودة، ولكن لأن الجميع مشغول بتوثيق أشياء أخرى أو النبش في مجالات أخرى بعيدة عن حياة الإنسان العُماني العادي في تلك العصور القريبة أو البعيدة، عن عُمان المجتمع وعُمان [الإنسان العادي] كيف كان يعيش؟ وكيف كان يفكر؟ وهي نقطة تحسب للباحث ضمن أشياء كثيرة في هذا الكتاب الجميل.
النقطة الأخيرة: هل قلت لك عزيزي القارئ أن كل ما ورد أعلاه يتحدث عن كتاب جاء في [57] صفحة فقط !!!
هنا تأتي المهنية الفنية التي أثارت إعجابي في الكتاب. وليد النبهاني الذي كان يوما من الأيام أحد أوائل السلطنة، ومن ثم أوائل دفعته في كلية الآداب، إلى وظيفة تلو أخرى في مجال الإعلام، إلى مؤلفات في القصة القصيرة والشعر، إلى محرر في الموسوعة العُمانية، إلى منسق لتحرير الموسوعة العُمانية قبل أن يبلغ الثلاثين من العُمر، إلى باحث ثقافي في وزارة التراث، صنع طريقه في الكتابة والبحث بجهد طويل عبر سنوات طويلة. وعبر تمرين طويل على رأس العَمل مكنه من [فعل هذا الكتاب]، رسالة بحثية دقيقة ورصينة، والأهم جميلة كنص مكتوب بغض النظر عن موضوع البحث.
أدهشتني قدرة الكاتب على الكتابة في مواضيع جدلية للغاية بأسلوب فني لطيف لا يخلو من حزم الباحث الذي يتدخل لو لزم الأمر، وكذلك القدرة العالية على التكثيف السردي لكتاب بحثي كتب بلغة أدبية أنيقة. لا يشكل الكتاب ورقة بحثية مهمة فحسب، وإنما احتوى على [نظراتٍ] عميقة لقراءة التاريخ في عُمان، وكذلك لكيفية الكتابة عنه، احتوى على رسالة شخصية من الباحث عن جيلٍ قادم شغوف بالمعرفة، واحتوى على طريقة فنية يمكن بها للباحث أن يخاطب القارئ بمختلف مستوياته المعرفية، شعرت بدهشة بالغة وأنا أنهي الكتاب لمرتين كاملتين قبل أن أعود إلى ملاحظات وشخبطاتي، وأقول في نفسي: كم مرة ترك رسالة تاريخية للباحثين القادمين عن الموضوع؟؟؟
هذا ما أريد إيصاله لك أيها القارئ الكريم عن هذا الكتاب، أنه وعلى عكس مؤلفات كثيرة تحاول أن تنهج النهج نفسه، فإن هذا الكتاب تجاوز دهشة البداية إلى البداية نفسها، إلى وضع الخطوط العريضة والاتفاق عليها بلغة منصفة للجميع، مستخدما لغة العلم التوافقية دائما، ومع أن الكتاب من بدايته إلى نهايته مكتوب بلغة فنان وبريشة شاعر، إلا أنه أيضا كتب بعقل باحث متفحص مستعدٍ لتحدي الحقيقة التاريخية التي قد تبدو مألوفةً بحقيقة أخرى مع بيان الأدلة والأسباب، وهذا هو مجال العلم الأصيل الذي يجعل كل شيء في مكانه الصحيح. هنيئا لك يا وليد هذا الكتاب الممتع، والمفيد، والمثير للتساؤلات، وهنيئا لنا الأمل الكبير بباحث جاهز للعطاء، هنيئا لك يا وليد كل ذلك.