أَنا الرَّجل الَّذي أَدمن النسيان!
لم أَكن أُريد الحديث عن رحلة الموت، وإصبع السبَّابة، وثقبِ السَّماء، وانحسار الأَرض.
رأَيتهم يمشون فوق الماء، ينضحون بالعرق، عيونهم شاردة في البعيد، أَصواتهم بخار صاعد إلى السَّماء، ووجوههم كأَرغفة الخبز المحروق، وأَنا أَدور كأَنَّني محور أَزليٌّ للأَرض، كنت خارج الأَسماء والأَشياء، وَحولي كلُّ شيء يتَّشح بالأَزرق: عيونهم، عماماتهم، والبسط، والسُّبح، والسَّقف، والجدران، والأَحذية، والملابس، والأَصابع المحشوَّة بالكبريت.
كيف يمكن أَن أُصدِّق الحياة، والحياة مخلوقة من ماء؟
أَنا…. أَعترف بأَنِّي مجنون…لا….أَنا…فقط…أَعترف بأَنِّي لا أَعرف مَنْ أَكون!
أَيُّ إزميل ذاك الَّذي حفر ملامحها في الرُّوح، أَيُّ جنون تلبَّسني وأَنا أَراها عارية عبر النَّافذة!
كانت أَجمل من نجمة وحيدة تتوسَّط ظلمة السَّماء، عيناها سوداوان فيهما سطوة صيَّاد، مكتنزة الشَّفتين، وجهها مستدير، جسدها أَبيض مصبوب من رخام، وشعرها مسترسل على ظهرها كأَنَّه ذيل فرس.
كيف لامرأَةٍ أَن تكون خارج الوصف والكلام؟ كيف لامرأَةٍ أَن تكون البسملة والفاتحة والختام؟ كان اسمها….آذار.
أَنا الرَّجل الَّذي أَدمن العصيان!
أَشعر بنفسي تهرب منِّي، وتضيع، أَغرق في عتمة تشبه عتمة التَّابوت، أُفتِّش عن ضوء يقودني إلى أَيِّ رصيف يقيني الغرق، الوحدة قاتلة، وأَنا وحيد.
أَيُّ قدر حمل جدِّي ذات يوم إلى هذه المدينة الخرساء؟ كيف انفتحَتْ السَّماء واغتسلَتْ الأَرض برائحة البارود؟ كيف جاء منتصراً لأُمٍّ بائسة، وزوجةٍ مجنونة، ورجلٍ يتفلَّت في أَعماقه من ذاته، حاملاً على كتفيه رؤيا الخراب؟ أَلم يكن بوسعه أَن يبتعد بالبيت عن سور المقبرة الطَّويل؟ هل كان يستأنس بالموتى، والقبور؟ هل كان يبحث عن مكان أَقرب إلى الجحيم؟ لماذا ترك تلك النَّافذة تطلُّ على القبور؟
فتحتُ عينيَّ في الدَّير على مقبرةٍ باتِّساع الأَرض، وسورٍ طويلٍ، طويل، يمتدُّ من أَوَّل الدُّنيا إلى آخرها، بُنِيَ كي يحفظ القبور من العابثين فكان ستاراً لهم، وعلى طوله كُتِبتْ كلمتان بالخطِّ الأَسود تتكرَّران باستمرار: “ممنوع التَّبوُّل” .
كانت البوَّابة بلا حارس، ربَّما كان ثمَّة حارسٌ لكنَّه لا يأتي، ولا يقف أَمام الباب، فالمقبرة ممتلئةٌ لا متَّسعَ فيها لميتٍ جديد، والحارس ربَّما لم يعد يجد مبرِّراً لوجوده، أَو ربَّما كان يخاف من الموتى الَّذين ينهضون في اللَّيل بثيابهم البيضاء، أَرجلُهم في الأَرض ورؤوسهم في السَّماء.
صدَّقتُه حين حدَّثني عن الكنز المخبوء خلف العينين، حين أَوقفني أَمام المرآة وأَشار إلى الحدقتين:
– هنا يكمن الجواب لكلِّ سؤال على الأَرض.
رائحة عطره لم تتغيَّر، لم تغادر رأسي منذ اقتادني في ذلك اليوم البعيد إلى بيت جدَّتي، طوال الطَّريق من باب الدَّير إلى باب البيت الجاثم على سور المقبرة وأَنا أَعدُّ عوارض سكَّة الحديد، أَصِل إلى العشرة ثمَّ أَعود للعدِّ من جديد، كان يسبقني بخطوةٍ واحدة، ثيابه سوداء من الرَّأس حتَّى أَخمصِ القدم، لحيتُه تتدلَّى على صدره، وشارباه عريضان طويلان، والشَّيب قد بدأَ يتسلَّل إليهما، وعيناه عسليَّتان صافيتان، وبشرته بيضاء، يضع على رأسه قَلَنسُوةً سوداء، وكفِّي الصَّغيرة عالقة بكفِّه، ورائحة عطره تثقب رئتيَّ، وأَنا صامت، وهو يحدِّثني عن جدَّتي.
أَلبسَتْني مربّيتي ماريّا سروالاً قصيراً وقميصاً أَزرق كي أَكون مناسباً، غَسَلَتْ وجهي بالماء، مَشَّطتْ شعري، أَسلمَتني ليده وهي تقول لي:
– سيأخذك أَبوك ميخائيل إلى بيتك…
شعرتُ بالكآبة، والحزن، والخوف، وحين وصلنا إلى البيت ورأَيتُها تشبَّثتُ بثوبه، بكيتُ، شعرتُ بأَنَّه آخر ملاذ لي فوق هذه الأَرض.
لا أَعرف من منَّا كان القاتلَ، ومن كان الضَّحيَّة!
أَنا يا أَبتِ أَكره البحر، وزرقةَ السَّماء، والموسيقا، وأَصابعَ السبَّابة، والكلاب، لن أُحدِّثك عن العذاب، والقهر، وانكسارِ البشر، لن أُحدِّثك عن حضارة الجنون، وزرقة العينين، وعتمة الرُّوح، لن أُحدِّثك عن كلِّ العذابات الَّتي عانيتها حتَّى بات بوسعي أَن أَكتبَ ما كتبتُ، وأَتذكَّر كلَّ ما حاولت أَن أَنساه ذات مرَّة إلى الأَبد، وعصارة الحزن الَّتي شربتُها طوال عمري على مهل، على مهل…. كأَنَّها قدر.
يرتفع صوت المؤذِّن في الفجر، تفتح جدَّتي الباب.
– أَلم تنم بعد؟
– أُحاول أَن أَقرأ…
تمسك الورق بين يديها، وتلقيه جانباً…
– أَنت مجنون.
أَسأَلها عن آذار فتزمُّ شفتيها، وتنكر أَنَّها تعرفها، أَسأَلها عن أُمِّي الَّتي لا أَعرف وَجهها، ولم أَرَها قطُّ، ترفع حاجبيها وتعود لتزمَّ شفتيها من جديد:
– قلتُ لك، أُمُّك في البرازيل…
تحدِّثني كيف قاتلَتْ مع جدِّي إلى جانب عبد القادر الحسينيِّ على أَسوار القدس، وكيف كان يعاملها مثلما يعامل الرِّجال، وكيف زوَّجها من جدِّي قبل أَن يُستشهَد بيومين، تحدِّثني كيف مات، وكيف سقطَتْ فلسطين، وكيف جاؤوا مُهَجَّرين، وكيف قضَتْ ثمانية أَعوام لا تحبل ولا تلد، وكيف ظلَّتْ تركض بين طبيبٍ وطبيب، وتتَّهم نفسها بالعقم، حتَّى سافرَتْ إلى غزَّة مع جدِّي، ووقعَتْ حرب مصر، فحملَتْ هناك بأَبي، ثمَّ عادَتْ لتقطع النَّسل.
تضحك، وتضرب بكفِّها على فخذها….
– تُرى لو كان الله أَعطاني بعده بنتاً، أَما كانت ستعينُني اليوم على مشاقِّ هذه الحياة؟
ثمَّ بصوتٍ حزينٍ تعلن مرَّة أُخرى أَنَّه مات شهيداً في القدس عام 1967، ودُفِن هناك.
كانت صورته معلَّقة على الجدار، فوق سريرها، إلى جانب صورةٍ لعبد القادر الحسينيِّ، وملصق نعيٍ لأَبي.
ذات يوم، سأَنفجر في وجهها، بعد أَن وصفني ولدٌ بأَنِّي لقيط، وأُحطِّم كلَّ ما تقع عليه يداي، وأَضرب رأسي بالجدار حتَّى تسيل منه الدِّماء، وفي ثورة غضبي، وجنوني، ستقول ببرود إنَّني بالفعل… ولد لقيط.
ستأخذ نفساً طويلاً ثمَّ تعود لتؤكِّد لي ذلك:
– ما دمت مصرَّاً على معرفة الحقيقة، فهذه هي الحقيقة!
قلبي توقَّف عن الخفقان، شعرتُ بالعرق يتصبَّب بارداً ويسيل على عنقي وظهري، تجمَّدت قدماي في مكانهما، ضيَّقت عينيَّ وأَنا أُحدِّق إليها:
– لقيط؟
– نعم… وجدتُكَ على باب الدَّير، وعمرك يومٌ واحد، وترَكتُكَ لهم أَربع سنوات ثمَّ استعدتك، أَو لنقُلْ تقاسمتُك معهم.
ضحكتُ بجنون، تيَّار كهربائيٌّ ضرب جسدي فانتفضت.
– لا بدَّ أَنَّك تمزحين معي…
قلتُ وأَنا أَقرأُ قسماتها لعلَّني أَجد منفذاً واحداً يقول لي إنَّها كانت تمازحني.
– أُقسم بالله إنَّها الحقيقة.
– كيف يمكن أَن تكون هذه هي الحقيقة؟
– لا أَعرف.
– وأَبي ميخائيل يعرف؟
– يعرف، كلُّ النَّاس يعرفون ذلك عداك…
– كلُّ الناس؟
– نعم…
– كيف لم أَعرف ما دام النَّاس يعرفون؟
– كنت أُهدِّدهم تارةً، وأَتوسَّل إليهم تارة. لهذا بالذَّات كنتُ مصرَّةً على بقائك في الدَّير، لم أَكن أُريدك أَن تختلط بالنَّاس.
– وأُمِّي الَّتي في البرازيل؟
– كذبة…
– وأَبي الَّذي أَذابوه بالأَسيد في سوريا؟
– كذبة أُخرى…ليس أَباك.
– وشهادة ولادتي؟
– رشوتُ الموظَّفين لأَستخرجها لك…
شعرت بالرُّعب، انقلب كلُّ شيء في داخلي دفعةً واحدة، شيءٌ ما سمعتُه يسقط من الأَعلى ويرتطم بالأَرض، ويتفتَّت، ويتحوَّل إلى ملايين الشَّظايا، شيءٌ ما تحطَّم في داخلي فما عدتُ قادراً على الوقوف، جرجرت جسدي إلى الخارج، حاولَتْ أَن تمنعني من الخروج لكنَّني دفعتها بقوَّة، الدُّنيا تضيق، والأَرض تدور بي، جدران عالية تطبق على جسدي، وتعصرني، دخلت المقبرة، سرتُ غيرَ مبالٍ بالقبور، جلستُ فوق أَحدها، وأَطلقت لبكائي العنان.