” محايد مثل مسدس، وبريء كرصاصة “
قراءة في شعر الجزيري
مراد ساسي
“ما الذي يراه الشاعر حين يمثل في حضرة الشعر؟ لان الكتابة هي بوابة مشرعة على الوجع والضنى ..إطلالة على مدار الرعب لان الشاعر حين يكتب يراوده حتفه ؟”
“الشعرَ هو الكون ذاتهُ..وهو جوهر كل الكائنات..والزّمن غير قادر على إلغاء لغة هي حاجة طبيعية لاستمرار التوازن..”
*الشعر في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب،الذاتُ والعالم،حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة” محمد الهادي الجزيري
* الشعر بما هو تخيل ولغة وتجربة ومخزون صور وتمثيلات وجسور موصولة بين خبرات جمالية متباينة من حيث تاريخيتها وجغرافياتها.
منذ البداية في أعماله الشعرية مزج ما بين الشعر والنثر،وهذا يظهر جليّا في أغلب منجزه .. الأمر الذي جعله يكتب قصيدة تحمل رؤية مغايرة عما هو سائد في القصيدة العربية، كما كبار الشعراء صيتا وتجربة وعلى خطى العظيم درويش حين قال في ديوانيه ” كزهر اللوز أو ابعد أو الحضور في الغياب ”
“الآن أصبحتُ شاعراً ،ابتداءً من هذا الكتاب أصبحتُ شاعراً”..
هكذا قال درويش حين أنهى كتابة ،هذا الكتاب ‘(انهاهُ في العام2006) أي عندما كانت تجربته الشعرية قد اكتملتْ .وكيف اكتملت؟حين قلصَ المسافة بينَ النثرِ والشعر ، نلمس هذا في ديوانه “كزهر اللوز أو أبعد”حين يقتبس في بداية الديوان من أبي حيان التوحيدي في الإمتاعِ والمؤانسة فيقول ” (أفضلُ الكلامِ ما قامت صورتهُ بينَ نظمٍ كأنهُ نثر ،ونثرٍ كأنهُ نظم”..قلصَ درويشُ المسافة بين الشعر والنثر واكتملت تجربته الشعرية “ف الآن أصبحَ شاعراً” وماتَ بعدها بسنتين !
ذاك رهان الشاعر محمد الهادي الجزيري على الاحتفاظ للقصيدة بمتعة الدهشة وجمال الحيرة ..وتحفيز الذوات القارئة على التفاعل الإيجابي مع النص باعتباره محصلة -زواج- سعيد بين وهج التجربة الحياتية والاستدعاءالواعي والذكي لصور وتمثيلات تجد أساسها في الموروث الشعري العربي القديم والحديث أو التجارب الشعرية الغربية…المختلفة
وهو الذي يرى أنّ الشاعرَ الحقيقي دائم القلق،وأكثر قرباً من واقعه،وملتزما بما يدور في فلكه،يحاول دائماً أن ينبش في الأشياء،ويحفر في الأرض ويمضي حاملاً أوجاع الحياة ومرارة الواقع،ليرسم لوحةً من الكلام الشاهق لتؤسس لصور مكتظة بالدهشة …بالمجاز وبالجمال بالافتتان…والغواية
“قد صدئت رغبتي في الإغراء والإيذاء
أرغب فقط في تشرّب الملح وحدي
ومواصلة الرسوب في طيّات الرمل
وحدي جئت ووحدي أنمحي في صمت”
ويحتفي بطقوسه داخل عالمه ..فيلُّم ما تناثر في الكوكب من رخاوة في المشهد المعاش،ويتجشم الصعاب والصراعات مع كل الكائنات ليخبرنا بنصره رافعاً تلويحة أملٍ في غبش الحياة المحاصرة بالضباب وانين المواجع…هو كمن يرجئ الموت ..
وها هو ينبض بالحب ليلغي الموت : ليضحك من سطوة الشعر والعشق لأنه يعلم أن القصيدة مكيدة وان العشق اهتبال وخبال لذيذ ..وفناء في شراك الغواية ..معراج في سموات مربكة ..تنصب على كل حافة فخ:
إسراء
في أعالي الجبال قصدنا الغزالةَ
أكبرُنا قتلته القصيدةُ
لكنّه لم يزل نابضا
ظلّ يضحك من سطوة الشعر والعشق
حادي مسيرتنا غاص في الليل والتيه
من أجل قلبي
أنا كنت ثالث حاجّين
لا يعبدان الغزالة مثلي ولا يشركان بحبّي
فإذا دخلنا عالم شاعرنا محمد الهادي الجزيري أدركنا المسافة بين الجمالية الفنية والفعالية الفنية التي تمتلكها جل قصائده،ونتقصى أبعاد تمسكه-أحيانا-بقصيدة النثر ومدى مشروعية-هذه الأخيرة- وهيمنتها على الراهنالشعري المعاصر،ونستشرف بالتالي جدوى الكتابة في حياة المبدع..
ويتجلى ذلك من خلال تجربته الشعرية بمختلف تجلياتها النصية باعتباري ذاتا قارئة متلقي ناقدا أنادخل مناخات إرهاصات الوعي بأهمية القول الشعري:..لديه …خاصة وأننا إذا دققنا في قصائده وجدناها حمالة لرؤية حداثية جديدة ومختلفة أو مغايرة تماما مع ما هو سائد في قصيد النثر كما القصيد العمودي الحر ..فهو يرفع القداسة ..عن نظم القصيد ..كحياة ثانية يتحقق الوجود في احراشها ودواخلها وتختزل أوجاع الإنسان وتنبجس آفاق الإنسانية ..كرحابة الوجود ..
هنا في قصائده او منجزه ككل نجد أن الشاعر ما ينفك يوسع من نفث حياته بلا أي خطاطة داخل قصيدته. وهذا ما يجعلها حرة وكثيرة تجابه تأويلات بأشكال ومكونات ذات لحظات خصوصية جد متعددة، لكونها قصيدة متقدمة، بقوة وسعة عطاء.
.وإذا سلمنا بعد قراءة متأنية في النص الشعري للشاعر أدركنا أن الحرف بالنسبة له هو الانفلات من عقال الزمن،التعبير الحقيقي عن مواجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة…ما تخفر به الحياة من حب وإرادة
لأنه يؤمن بان الشعر هو رحلة في عوالم جديدة …مفاتيحها الإيغال في الاكتشاف وتطويع الرؤية لغة وصورة …فقد وهب الجزيري للقصيد صوتا فرديا سريا من الأعماق كنشيد للإنسانية .
فاختزل النص جملة الانفعالات لحظات المكاشفة التي لا يعلمها إلا الشاعر وفي قراءتي للمحجب منها لرصده والتعبير عنه ..فاحترف تغريدة جمعت بين الأضداد…الانفعال الانكسار الموت الحياة ..الصفاء ..الكدر ..وبهذا ألغى الطمأنينة والدعة وانتحى الحيرة والجرأةوالريبة والشك…و ايقاض الألم فيه ككسرة صديقة ..إذ يقول :
تفاصيل الدهشة
لدينا إذنْ زهرة تتألّف من قطرات ندى
يساريّة الروح
تغفو على جنبها الأيسرِ
في سرير فسيحْ
لدينا كذلك نافذة
لا ترى ما نرى من جمال فصيحْ
تطلّ على ساحة من حشيش وموتى
ونقطة ماء تؤكّد أنّ هنالك خلف العمارات
بحرا من الملح
يبغي الوصول إلى الزهرة الْ تتألّف من قطرات الندى
غير أنّ المدينة تمنعه
من بلوغ السرير الفسيحْ
وتلك هي حالة الكتابة الحق …إرهاص يتوالد لا يكف عن التكاثر ..من وجعه يمنح النص التوهج وللقارئ لذة الولادة …ولعله أتقن فن الانتقال من الحكي الشعري إلى الصورة المتخيلة الفريدة وهو نتاج دربة واختمار تجربة عميقة في تطويع الكلام والمعنى والمتخيل وانظر هذه القصيدة وكأننابمشهد مسرحي أو روائي ..كتب الشاعر سيناريو هذا الحدث :
تقول القصيدة إنّ نبيلا سرى بالحزين
إلى مطعم لابن عمّهما من يهود الرباط
عجوز يجيد الحياة
ويفقه ما العشق
أدّى به ذات أنثى محرّمة من بنات الملوك
إلى السجن
لكنّ ما فات فاتْ
يغنّي لسمّاره الغرباء إلى مطلع الفجر
أبهى التباريح من زجل مغربيّ إلى ولعٍ تونسي إلى ….
كأنّ أناه الضئيلة عاصمة الأغنياتْ
وإذا أمعنا في استباحة ..بيت عزته أي عوالم نصه ..وجدنا التشكل المذهل لترنيمة الروح كرفيف من شقوق انفعالاته التي تمور في مخيلته ومهجته …لا هجوع ولا تراخي …حتى أنها تندس في لغته الباذخة ..كإصحاحنبوة لم تأتي من أحلام متصوفة ..بل هي نتاج لذة لم يطأسحرها فاعل قط ..
:
المدينة نابضة رغم ضيق الخناقْ
جفّف الناس غائطهم تحت شمس الظهيرةِ
واتّخذوه عشاء
فلم يبق فأر هنا أو هناك
ولم تسلم القطط الحشرات الكلاب الوفيّة
لم تنجُ من جوعهم دابة
بل لقد كان ما لا يُطاقْ
جثث الشهداء انتهت في بطون الرفاقْ.
قال لي:
لغتي نبع دمع خفيّ
وبي حرج من وجودي
أنا العار آكِلُ آلهتي وأحبّة روحي
أنا ظمأ خالد وأصيل…
مصبّ الدماء التي هُدرتْ
والدماء التي ستُراقْ
( ………….. )
لا تدّخرْ نبضا ولا حجرا فكلُّكَ في خطرْ
دنياكَ ..
آخرة الذين تحبّهم
وتصدّق الصحراء إكراما لَهمْ
والياسمينة…
هذه الخضراء رغم حدادها
بقلوبها البيضاء تحضن ربّها وذبابَها
لا تبصر الأعداء في أولادها
بل لا تقرّ بما تراه من المعاول
بين أيدي من تحبّ
ككلّ أمّ لا تقرّْ
إن إنزال اللغة من أوهام عضلاتها البلاغية في محاولة ذات اجتهادات واسعة، لتهشيم الجمجمة الكلاسيكية للأسلوبية المتداولة، هو ما يطبع فعل الكتابة لدى هذا الشاعر، الذي لا يكتب عن الحياة من وراء أقنعة، بقدر ما يعبّر عن ندوبها الذاتية، هذه التي نشهدها في قصيدته التي ما انفكت تتوسع في كل مرة إلى حقول جديدة، متوسلة بصداقة المضيء المستتر في الذات العزلاء. .
هي ممازجة فريدة بين الألم والضنى وانبجاس الحياة .وتناقضاتها في البلد ..في العالم . صور مكتظةبالتحولات ..هو المخاض العسير لولادة القصيدة في معراجها إلى الحافة الفضية المرتقبة …الفرح الذائع القصي ..الحلول في الغائر …في شوق بعيد …فكل شيء يتسلل في نص شاعرنا كلص شاطر …يقتحم بيت عزته ..كالأراجيح اللدودة ..تقتحم خلوته عنوة ..حتى وان كانت طقوس القصيدة غير متاحة وتلك هي معانات الشاعر …
فالقول الشعري لا يتشكّل لديه إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين:لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها ضغط اللحظة الواقعية،كونها الباعث الأول على القول،وضغط اللحظة الشعرية،بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية.
وهو ما نلمسه في طرحه قضية الثورة ومعضلة الراهن …وكأنه يخز خاصرة الواقع …او يشوك عينه …حيث يعتبر الياسمين كرمز للثورة دنس …وداسته أقدام أرادتللحرية الحمراء .أن تظل حبيسة ..في قمقم تحت أسقفالظلام ..لذلك هو جرس لإطلالة على مدار الرعب ..ومنبه للمخاطر المحدقة …بالبلد …والمراودون لردة …تأتي من خشخشة الخيانة الرابضة …في أصيص الورد ذاته ..
لا تدّخرْ نبضا إذنْ
لا تدّخرْ حجرا لنجدتها
ولا تذرف سوى دمك الغزير إذا التحمت بها
لتروي مجدها وشبابها
لا تدّخرْ حجرا…
أصيصُ الورد يصلح أن يكون قذيفة.
كتبُ السماءِ
مجلّداتُ الرفض والحريّة الحمراءِ
شاهدةٌ تآنسُ قبر أمّكَ…
كلّ شيء صالح للقذفِ في وجه الغبار المنتشرْ
لا شيء إن طال المسوخ الياسمينةَ
يستحقّ العيش
ذاتُكَ
أهلُ قلبكَ
ربّ أهلكَ
نسلكَ الشعريّ والفكريّ والبشريُّ
بل كلّ البشرْ
اضربْ فكلّك في خطرْ
اضربْ بكلّك وانتصرْ
هي القصيدة الشريرة بهذا المعنى شريرة وجميلة، تُسْفِر على لياقة شعرية عالية بالنظر إلى طاقتها الهائلة المخربة لمفهوم القصيدة بشكلها السائد. وهو تخريب بالمعنى الإيجابي لا التجاوزي فقط. تحضر الذات داخلها في فعلها الحميمي واليومي، لتقول كل شيء. فالكلمات المُسَوّدة فوق الورقة دائما لا تقول إلا ما سودته….ْ
ففي اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ حين يتلقّف اللحظة الواقعية،أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً،ليلقي بها في مصهره الداخليّ،ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ،وتحولاتٍ جمّة،حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة،أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.ويظل النص الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب،الذاتُ والعالم،حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة.فيغدو نشيده خناجر …ناعمة …
قاسٍ غيابُكِ مثل هذا الصيف
أو أقسى قليلاَ
هل أحبّكِ؟… ربّما
أو أشتهيكِ ولم أجدْ موتا بديلاَ
لا علينا…
كيف حالك؟
ما رصيدك من ضحايا اليوم
يا النار الخجولةْ؟
هل رأيت الله في التلفاز
يبدو قاتلا حينا وأحيانا قتيلا
لا علينا
هل قصصت على الليالي والبناتِ
حكاية القنّاص .. كيف غدا رسولا؟.
هل ندمت على النجاة
وصحت في ملكوتك السريّ :
سحقا للشهامة والرجولةْ
أم صنعت لطيفيَ المحزون إكليلا جميلا؟
عين المعنى ما سنستشفّه من جرد انتقائي واقتطاف خاطف نابض بسحر المفردة في الإحالة على أنوية المعاناة إذ تلامس المحطات المفصلية من تجربة عاكسة لتعدد الذات الشاعرة في ارتباطاتها بالهمّ الوطني المعتّق الحضور القوي لذاكرة المكان.:
يفكّر فيكِ ويفعل ما لا يريدْ
يكرّر أنّات من سبقوه إلى قبضة العشق
ينسخ أيّامه مجبرا
ويسير إلى قبره في زحام العلاقات
مستوحشا ووحيدْ
يفكّر فيك
ويروي على عجل ظمأ السفهاء إلى ذِكره
يدرّبهم من بعيد على ذمّه من … بعيدْ
يفكّر فيك
ويرضى على مضض
أن تقاسمه الكلمات الحنينَ إليك
ليحفظ جذوة حبّك في عهدة الكلمات
وكي تتحوّل كلّ الحروف سعاة بريدْ
فإن مات دون الوصول إليك
سيجتاح ذاتك هذا النشيدْ
وبأسلوب يتفنن في انتخاب أدواته باستمرار، وبرؤية بليغة. تنطلق من نسغٍ يتأمّل الواقع ويتجاوزه، لكي يصل الأشياء بجوهرها، في غمار تَعَلّقِه بالظلال الوافرة التي يفرزها الإيحاء عبر انزياحات غير تقليدية فيتجلى المعنى متكاملا إيحاء وحدسا أو تأويلا …فيأتي الإدهاشوالمجاز أدعية مناسك يتقرب بها إلى اللغة لنوال المعنى الشعري العميق والمترامي ليضع المتلقي على ضفافه ..ضفاف نصه ..المتشظي طورا والمتمرد أحيانا حد الدهشة ..الامتناهية
ليكتمل بذلك تفشي النص باتجاه نهاية تقوم على أنقاض وثيرة وتساوق مشوّق لقران فني /معرفي يفتح أسئلةوجودية…الموت / العشق / الطبيعة / الكون/الحياة
نلتقي في سرير الترابِ
إذا طالنا الموت من دون أن نلتقي
ستشكّل ذرّاتنا زهرة دون ريب
فكلّ زهور الدنى
من عناق ذوات أحبّت وتاقت ولم تلتقِ
نلتقي رغم أنف المسافةِ
في شكل عصفورة من حنين
وجدول عشق نقيّْ
نلتقي كلّ يوم هنا وهنالك
في كلّ موعد حبّ
وفي كلّ شيء جميل وحيّْ
نلتقي دون شكّ.. غدا نلتقي
لنعدّل أوتار قصّتنا
ونحدّث ذاكرة القادمينَ
عن امرأة حلّقت في أعالي البهاءِ
وطارتْ بعقل النبيّْ
بلغة فاتنة ..أنيقة نستشف بذخها المعاصر، يكتب الشاعر ، قصيدته المضيئة، التي يعمل على تهريبها من مجالها المحدود بالرؤية إلى مجال انزياحها الترميزي. والترميز هنا ليس اشتغالا على علامات بأدوات مستهلكة، وإنما هو بنية ذات قوة واضحة، ومُمَنهَجة لا تبتغي التوسط للإدراك الذي يمنع القارئ من النظر مباشرة لعيني القصيدة.
يمكن القول بدقة أكبر، أن الترميزية، هنا، هي إخلاص للواقع اللا زمني، وهذا ما يحوِّل هذه الترميزية – بمجرد ارتطامها بفعل القراءة – إلى حدس عام….او ما يعبر عنه بالإدهاش بالمجاز و ليس شرطه تلك الإرغامات المحددة لمجموع المسارات التأويلية، في توتر بين نظام الحرية وفعلها الذي يقوم بإثرائها باستتباعات جديدة، مستمَدة من النزوع المستمر إلى البساطة وينابيعها في القول الشعري، ما يضمِرُ داخل هذه القصيدة انفتاحا غير مُفتَعَل على السرد وجمالياته الغنائية المطرزة بعلاقات مُعْجمية غير مألوفة، تقوم على تحرير الكلمات من شبكية ذاكرتها. وإطلاقها من جديد..:
هيعوالم تستغرق جوارح التلقّي بطقوسها…لأن شاعرنا آثر عنت الحيرة على دفء الاطمئنان …
لن أقتلكْ
مهما جرى لن أقتلكْ
فأنا سلام وارف للعابرينَ
وأنت ترجمُ كلّ من لا يشبهكْ
سأصدّ وحلكَ عن حدائق أمّتي
فإذا سقطتَ أمام حزني
دون قصد من يديَّ….
سأغسل الأدران منكَ وأكرمكْ
وأسير وحدي خلف نعشك غائما…
متذمّرا ومعاتبا :
ما أجهلكْ
ما أجهل
إن ما نتابع مراتبه في نص شاعرنا ، هذا الذي لا يمكن أن نلتقيه إلا راميا نفسه في لُجّة الضوء، هو تَسَنْبُله عن حياة كاتبه.. فهو نص يُلفِفّ متنه بدفء صاحبه، محايد مثل مسدس، وبريء كرصاصة….وهو المدهش في متنه …كله …:
*في هذه الأرض وعليها أردنا الحياة، في هذه الأرض وعليها سنظلّ نحبّ ونغنّي للجمال .. للحياة،.. نغنّي للطبيعة بجباله وسهولها.. وبحرها ويمها للحبيبة وعيونها، وهمس العشاق ، لقرطاج وقلعتها، للقيروان وأصالتها..وجمالها لحضرموت ورباطها ..لتونس وأبوابها وقدمها .وأماكنها العتيقة… للرأس الطيب .بسحر ساحله وطواحينه..الحالمة بشدو الريح …هكذا انشد محمد الهادي الجزيري ملاحمه ..وكلما ازداد عشقه ..زاد غناؤه ..ازداد حبا وحنينا …
قد تكون رسائل حبّ
وهل يكتب الحبّ غيري أنا؟
ليتني الحبر والخطّ والمفردات وساعي البريدِ
الوحيدة في الركن روحي الجديدة
تنهضُ
تعلن كلّ أنوثتها في الممرّ المؤدّي إلى الحزن
تفتح باب الغياب
وتدخل في ملكوت قصيدي
وعد لا ينحني إلا لتخوم الخارق المعجب ..تلبس على نحو صميمي ..ينهض منه الشعر والشاعر في اللحظة نفسها لحظة التلاقي للمثول في رحاب زمن الإبداع ومنها ..يواعد القصيد لينتشل الوجود من الترهل والذهول والبلى لذلك هو يحتفي بالشعر ويجاهر به وكأننا به مزارع ينط من بيت العزة بيت الخيال بيت الخصب ،فيزرع وردة وفُلّة ،ياسمينة تميمة القلب والوطن فيترعنا بالأمل رغم الضنى والوجع وإطلالته على مدار الرعب.
هكذا أراد شاعرنا محمد الهادي الجزيري أي يكون ، وهكذا أرادنا ان نكون معه في إصحاح أناجيله.. !!
فدَيْدَن شاعرنا استلهاما من مجمل منجزه، يشاكس الراهن تحت مظلات إنسانية…وجمالية تساير الطرح الحداثي الإبداعي متحاشيا التكلف كما الإسراف في بلورة مشاهد ثرية ومختزلة في بديهية المعطى المنتصر للإنسان والحياة ..والحرية … أولا وأخيرا.ويتألق ذلك في قصيدته ” نامت على ساقي الغزالة ” التي منحها كتيمة لكل مجموعته التي توجت بجائزة ” اثير الشعرية ” بسلطنة عمان وفيها يقول :
نامت على ساقي الغزالة
كان شيطاني يقود الليل نحو صباحنا النائي
وكان الله يرقب دهشة الانسان عن كثب
ويدعو لي بحب في امتحاني
اشتهيها …اشتهيها ..
كم عوى الذئب المعربد في دمي
وانا اهدهد جمرها الغافي بحشرجتي
وانزف من فداحة ما لديها ..
نامت على ساقي غزالة
وجهها الطفل استجار برحمتي ..
وغفا ليحلم بي بعيدا عن متاهات الجسد
* كذلك هو الحال عند الشاعر المبتكر محمد الهادي الجزيري في تعاطيه مع اللحظة التي يمثل فيها الشاعر في حضرة الشعر …لحظة الميلاد العظيمة ليقول خبايا الحدث دحرا لسلطان الصمت ..
إنها توليفة متناغمة الأضداد تحتفي بإغفاءة الروح كموطن أبدي للحقيقة وللحياة بشتى معاني وتجاربها الموغلة مع جذور خيبة متربصة به على تخوم قاتمة رمادية .ورغم اقتحامه اللذة ..بجسارة المتحدي في بصيرة دامية ووعي إنساني متّقد وعصيّ على الاضمحلال…
في حضرة هذا الشاعر ينهش سرك الحرف … القلم ’وتتحداك العبارة والصورة ولا تتراجعا…يحملك الشوق إلى أقاصي الدهشة …وحافة الحيرة القاسية …فتنة البشارة …ومن ثمة اجزم بأنه : محايد مثل مسدس، وبريء كرصاصة.