بدر العبري- كاتب عماني
تحدثنا في الحلقة الماضية عن الصّراط المستقيم ومفهومه الواسع، ولهذا يبين الله تعالى هذا الصّراط هو مسلك من أنعم عليهم بذلك، ولا يهمنا هنا في لفظة [صراط] هل هي بدل كلّ من كلّ وهو قول الجمهور، أو صفة وهو قول البعض، ولكن الّذي يهمنا أنّ [صراط] جاءت لزيادة البيان من جهة، وتوكيد الأثر من جهة ثانية، ولهذا يقول الزّمخشريّ ت ت 538هـ في الكشاف: فائدة [البدل] التّوكيد، لما فيه من التّثنية والتّكرير، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين؛ ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده. ويرى الطّاهر ابن عاشور ت 1393هـ/ 1973م في التّحرير والتّنوير أنّ النّعمة – بالكسر وبالفتح – مشتقة من النّعيم، وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والتّرفه، والفعل كسمع ونصر وضرب، والنّعمة الحالة الحسنة؛ لأنّ بناء الفعلة بالكسر للهيئات، ومتعلق النّعمة اللّذاتُ الحسيّة، ثمّ استعملت في اللّذات المعنويّة العائدة بالنّفع، ولو لم يحس بها صاحبها، فالمراد من النّعمة في قوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} النّعمةُ الّتي لم يَشُبْها ما يكدرها، ولا تكون عاقبتها سُوأَى، فهي شاملة لخيرات الدّنيا الخالصة من العواقب السّيئة، ولخيرات الآخرة، وهي الأهم، فيشمل النّعم الدّنيويّة الموهوبيَّ منها والكسبيَّ، والرُّوحانيَّ والجثمانيّ، ويشمل النّعم الأخرويّة. فهنا نرى ابن عاشور يعمم النّعمة لتشمل خيري الدّنيا والآخرة كما في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} القصص/ 77، ويقول سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الأعراف/ 32، كما أنّه بين من منهج المؤمنين الجمع بين الحسنيين في الدّنيا والآخرة حيث جاء في دعائهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} البقرة/ 201.
فالنّظرة السّلبيّة إلى الدّنيا مخالفة للقرآن، الّذي حث على الجمع بين الدّنيا والآخرة، ولهذا نفهم مثل رواية: الدّنيا ملعونة ملعون ما فيها، أنّها تتعارض وأدبيات القرآن الكريم، وما جاء في بعض الآيات من وصف الدّنيا باللّهو واللّعب ليس من باب التّحقير من التّمتع بها، ولكن من باب الانغماس لدرجة نسيان ما أمر الإنسان به من بناء الحياة واستثمارها وعدم الإفساد فيها، والاستعداد للدّار الآخرة بزراعة الدّنيا ذاتها، ولهذا قيل قديما: الدّنيا مزرعة الآخرة، وهذه المزرعة يشترك فيها الجنس البشريّ ككل. ولهذا الجمع بين النّعمتين هو منهج الأنبياء والصّالحين: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} النّساء/ 69. وقدّ تقدّم بيان استثمار هذه الحياة من العبادة لله تعالى في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ولا تعارض في ذلك؛ لأنّ استثمار الحياة وزراعتها عبادة، والعبادة في ذاتها طاعة وقربة لله سبحانه، والتّمكن من ذلك نعمة من نعم الله تعالى على عباده، ولهذا يقول ابن عباس ت 68هـ في معرض تأويل الآية: {صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي طريق من أنعمت علـيـم بطاعتك وعبـادتك من الـملائكة والنّبـيـين والصّديقـين والشّهداء والصّالـحين الّذين أطاعوك وعبدوك. وما جاء أنّها بمعنى المؤمنين أو المسلمين أو السّابقين كموسى عليه السّلام فلا تعارض بينهما؛ لأنّ هذا المنهج السّليم الجامع بين الحسنيين منهج أنبياء الله تعالى والمؤمنين بهم منذ بداية البسيطة!!! إلا أنّ المشكلة عندما ينحرف هذا المعنى الواسع والجامع إلى معنى مذهبيّ ضيّق، ليكون لصيق طائفة أو مذهب، هنا يضيق المراد القرآني الواسع الّذي يعمّ النّاس جميعا، فينحصر في طائفة ومذهب!! ونحو هذا ما روي عن أبي العالية ت 90هـ وقيل 93هـ: أنّهم محمد – صلّى الله عليه وسلّم – وصاحباه أبو بكر ت 13هـ وعمر ت 23هـ، وفي المقابل يرى فرات الكوفيّ ت 325هـ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: شيعة عليّ ت 40هـ الّذين أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، لم تغضب عليهم ولم يضلّوا، وبمثل هذا يقول الكاشانيّ ت 1090هـ في تفسيره الصّافيّ: وفي المعاني عن النّبيّ – صلّى الله عليه وآله – الّذين أنعمت عليهم شيعة عليّ – عليه السّلام – يعني أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب – عليه السّلام – لم تغضب عليهم ولم يضلّوا، وعن الصّادق ت 148هـ – عليه السّلام – يعني محمداً وذريته، بينما يجمع شهر ابن حوشب ت 100هـ بين الفئتين فيقول: هم أصحاب رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – وأهل بيته. فلهذا ندرك كيف ينحرف الخطّ القرآنيّ من المفهوم الإنسانيّ الواسع إلى المفهوم المذهبيّ الضّيق، ولهذا ندرك أنّ النّعمة مرتبطة بالجنس البشريّ كجزء تكوينيّ، فتستثمر في صلاح الإنسان ذاته، وفي بناء الأرض وإصلاحها، وفي تحقيق العبوديّة لله سبحانه وتعالى، وهذا هو منهج أنبياء الله سبحانه، وهو الهدي الّذين عاشوا وماتوا عليه، وبهداهم اقتده. وهذا هو الصّراط المستقيم الّذي يدعو المؤمن ربه يوميا أن يوفقه لهذا المسلك القويم، والطّريق المستقيم، الّذي يرجع نفعه إلى البشر جميعا!!!