أثير – نصر البوسعيدي
أثير –
نصر البوسعيدي
بينما يسطو الآخرون في الوقت الحاضر على التاريخ لسرقته، والانتساب إليه ليس اعترافا بالجزء، بل محاولات بائسة لتضليل الأجيال القادمة، وتشويه الحقائق، ونسف دور الإمبراطورية العمانية التي وصلت حدودها إلى مملكة البحرين، وبلوشستان، وبعض أجزاء من إيران في الشق الآسيوي، والساحل الأفريقي وبره في الشق الأفريقي من العالم الذي كان يشهد جميعه بتاريخ، العمانيين ومجدهم في ذلك الزمن.
إن الذين يبحثون عن حاضرهم اليوم، وينتقدون الذود عن كل هذا الماضي التليد، نقول لهم: التاريخ جزء من تاريخ العائلة التي تنتسب إليها، والذي يجب ألا يندثر كنسبك بوجود جيل بعد جيل يحمل شرف العائلة واسمها، لذلك لا يمكن لك الانتماء لهذا العالم بالشكل الطبيعي إلا من خلال نسبك الذي تبني من أجله حاضرك وأنت تكمل مسيرة البناء، فالتاريخ ليس قصصا مروية فقط، بل هو مجد وجب على كل فرد منا معرفته، والإيمان به ليعلم تماما مدى التضحيات، والدماء التي سالت من أجل عمان، هذا الوطن الذي لم يصل إلى بقعة من هذه الأرض إلا وفاح فيها الخير، والسلام، والأمن، والتعايش، والوئام.
إن سطو التاريخ الذي يتعرض له التاريخ العماني بشكل فج ليس إلا ترسبات الإهمال الذي تواصل بشكل لا يلامس طموحنا جميعا في اهتمامنا نحن بهذا التاريخ الذي يراد منه إكمال البناء، وتعزيز الهوية، والانتماء لما صنعه الأجداد لمجد عُمان، ولكل التضحيات التي قدمها أهل عمان في سبيل الوصول بهذه الأجيال لحياة أفضل ومستقبل مشرق بالعلم، والعمل، فعلماء عمان، ومخطوطاتهم ليست إلا أصغر دليل على تقدم العمانيين لخدمة الحضارة الإسلامية، وتوريث كل تلك العلوم للإنسانية جمعا.
الواقع الماثل الآن رغم كل الجهود التي تقدم في حفظ التاريخ العماني، وعرضه، وتقديمه بصورة أفضل بعيدا عن المجاملات، والإضافات التي يجب أن نحذر منها للأمانة العلمية التي تحتم علينا البحث العلمي التاريخي المقرون بالآثار، والشواهد، والمخطوطات، وكل ما يتعلق بالأدلة المقنعة التي يكتب من خلالها التاريخ، يعد واقعا سلبيا، ولا يرضي الطموح مثلما أسلفنا في حفظ هذا التاريخ للأجيال، فاستهداف التاريخ العماني ليس وليد اللحظة، بل هناك خلفية تاريخية، لذلك إن استوعبها الكثير سيعي تماما لماذا هذا الاستجداء لإنقاذ التاريخ من محاولات التشويه، والسطو، والتهميش، وعدم تسويقه علميا، وإعلاميا بالشكل المطلوب، وبالطرق الحديثة التي تصل بسرعة إلى الأذهان.
لقد تعرّض التاريخ العماني منذ عهد الدولة الأموية، والعباسية، وما تلاها لتغييب متعمد، وتهميش محزن لنظرة الكثير من المؤرخين العرب بتعصب إلى الأرض العمانية كونها أرضا مخالفة لا تنتمي إلى تبعية الدولة الأموية، والعباسية، فالخلافات السياسية أدت إلى تعمق الخلافات الدينية بين أهل عمان، وسلطات الخلافة في عصر الأمويين، والعباسيين، وانعكس ذلك على المؤرخين العرب، وتعصبهم، وبالتالي مارسوا كلّ أنواع محاولات التهميش، وعدم المهنية العلمية اتجاه التاريخ العماني، ورجالاته إلا قلة قليلة منهم.
ومن المؤسف حقا أن يتنكر الكثير من المؤرخين العرب، ومناهج التاريخ العربية لبطولات أهل عمان في دحر المستعمر البرتغالي لوحدهم بعدما ترك العالم الإسلامي عمان، وأهلها يقاسون أنواع العذاب، والتنكيل لهجوم بربري غاشم ارتكب أفظع جرائم الحرب على مستوى العالم في التاريخ الاستعماري الحديث، فقد أبادوا بشهادتهم أنفسهم بعد مقاومة العمانيين لهم من الأطفال، والنساء، والرجال الكثير، وكان هناك تطهير عرقي دنيء ضد أهل عمان، وخاصة في مسقط، وقريات وطيوي، وصحار وكل المناطق الساحلية التي استولى عليها البرتغاليون في وقت كانت عمان ترزح تحت ظلام الشقاق، والخلافات السياسية الداخلية، ولم يتمكن أهل عمان من دحر ذلك المستعمر إلا بعدما وحّدوا الصفوف في عهد الدولة اليعربية من أجل الوطن لا غير، بدايةً من الإمام ناصر بن مرشد، ومن خلفهم بعده، وهذا إن دلّ، فيدلّ على أن تاريخنا يثبت جليا لنا جميعا بأن العمانيين كلما توحدت صفوفهم، وكلمتهم، وولاؤهم للأرض، والقائد، كانت عمان أقوى عسكريا، ونهضة، واقتصادا، وكل الجوانب الأساسية لبناء حضارة متقدمة كحضارة الإمبراطورية العمانية التي سجلت حضورها بقوة في صفحات التاريخ الحديث.
وأما بالنسبة للإمبراطورية العمانية التي أسّسها السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي، فقد كتبت أحرف مجدها من ذهب قبل انهيارها، وانقسامها نتيجة صراع أبنائه على السلطة بعد وفاته، وتحديدا بين السيد ماجد في زنجبار، وممالكها، والسيد ثويني في عمان، وامتدادها حتى حدود البحرين، وإيران، وبلوشستان في زمن شهد تقدّم الدول الأوروبية نتيجة الثورة الصناعية التي جعلتها دولا قوية تتطلع لاستعمار العالم الثالث، والمنطقة التي كانت ترزح تحت الشتات، والانقسام، والمشيخات، والحروب العبثية التي كانت مبنية على تعصبات مقيتة شتّتت الأمة الإسلامية بشكل محزن.
وعطفا على كل ما ذكرناه أعلاه، واختصارا للكثير من الأحداث، نجد أن الوقت الحاضر بالنسبة لتاريخ عمان مثلا في شرقي أفريقيا معرّض اليوم بشكل خطير للسطو الواضح للعيان بعدما- بكل صراحة- مارسنا إهماله، وعدم الاكتراث به كثيرا خصوصا بعد عام 1964م، وسقوط حكم آخر سلاطين عمان في أفريقيا، وهو السلطان جمشيد إثر الانقلاب المشؤوم الذي حدث في زنجبار، واستشهد من خلاله آلاف العمانيين الأبرياء العزل، وتم قتلهم بطرق وحشية أمام مرأى، ومسمع، وصمت مخجل لدول العالم المتحضر، ودول العالم العربي والإسلامي دون أي حراك يذكر لإنقاذهم!
هذا الإهمال الذي يقتات من خلاله الآخرون للسطو على التاريخ العماني نتحمل مسؤوليته جميعا بداية من حرمان حق العودة للعمانيين بعد عام 1986 م تقريبا، وعدم منحهم الجنسية العمانية أو الإقامة الدائمة ودعم وجودهم في أفريقيا، وهو الامتداد الحقيقي للتاريخ العماني هناك، بل تركناهم في ظل تردي أوضاعهم الاقتصادية واضطروا في الأخير بحمل الجنسية التنزانية مكرهين بدل جنسيتهم الأم دون دعم حقيقي يربطهم بالأرض الأم عمان سوى علاقات القربى التي فرضت نفسها على الواقع!
هذه إشكالية من الواجب النظر إليها من جديد، والنظر في إمكانية منح الإقامة الدائمة أقلها لمن أصوله عمانية، وواضحة للعيان، ودعم وجوده، وحياته المعيشية في زنجبار، وأفريقيا بشكل عام.
هذا الشرخ بالإضافة إلى عدم المبادرات القوية جدا لجمع، وحفظ كل ما يتعلق بالتاريخ العماني، وآثاره في القارة الأفريقية قد أصبح فعلا هو المنفذ للكثير من عمليات السطو على تاريخ أهل عمان، ويجب أن نتنبه له، والنظر إليه بحكمة لدعم الوجود العماني، وبالتالي دعم الأدلة الحقيقية لمجد التاريخ العماني، وأثره في شرقي أفريقيا.
ومن جانب آخر لا نجد اليوم تلك المؤتمرات التاريخية المهمة في كل عام، والتي تستقطب المتخصصين في مجال التاريخ، والتاريخ العماني على وجه الخصوص، والمدعومين كذلك من قبل علماء الآثار لبحث أهم المعلومات التاريخية التي توثق تاريخنا المجيد، ومناقشتها، وطباعتها، ونشر كل أوراق العمل المصاحبة للجميع بطرق منهجية مدروسة.
ولا زلت أمنّي النفس كثيرا بتبني جهة مرموقة لهذه المهمة كمركز السلطان قابوس العالي للثقافة، والعلوم مع التنسيق بالمعنيين في التراث، والثقافة، والجامعات، والكليات والنادي الثقافي وجمعية الكتاب والأدباء ووسائل الإعلام المختلفة.
كما أسجّل هنا عتبا شديدا على المؤرخين العمانيين الأكاديميين المتخصصين في مجال التاريخ والآثار لقلة مؤلفاتهم العلمية رغم اجتهادهم، وعدم تفاعلهم الكبير في مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت اليوم أداة مهمة، وفعالة لإيصال المعلومات التاريخية الموثقة بمصادرها، ومراجعها لأكبر شريحة من المتابعين، بالإضافة إلى العتب الشديد على الإعلام العماني، وعدم تسليطه الضوء بجميع وسائله على التاريخ العماني الذي يجب أن يخصص له حلقات تلفزيونية، وإذاعية، وأعمدة صحفية بشكل مستمر لما يمثل هذا التاريخ التليد من قيمة بكل ما يحتويه من مجد، وأحزان للاستفادة من دروس الماضي، وأخذ العبر لواقع حاضرنا اليوم، وتعزيز الانتماء، والعلم، والبناء بالأدلة، والمراجع، والمصادر الموثوقة، والآثار المكتشفة.
كل ذلك ليس إلا من باب البحث عن المشكلات، ومحاولات تصحيح المسار المتعلق بمفهوم التاريخ العماني وكيفية الحفاظ عليه، والإيمان بأهميته لتعزيز الانتماء الوطني لإكمال البناء وتحقيق تطلعات العمانيين ليروا السلطنة من أفضل دول المنطقة بما أن تاريخها زاخر بالمجد، ومستمر بإذن الله بيد أبناء عمان وسلطانها.
للحديث بقية بلا شك، وسنسلط الضوء على تضحيات أهل عمان، وتأثيرهم، وتأثير وجودهم الإيجابي في شرقي أفريقيا خصوصا في زنجبار أندلس عمان وجوهرتها.
