فضاءات

بدر العبري يكتب: التّفسير الإنسانيّ لـ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ

بدر العبري يكتب: التّفسير الإنسانيّ لـ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
بدر العبري يكتب: التّفسير الإنسانيّ لـ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ بدر العبري يكتب: التّفسير الإنسانيّ لـ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ

بدر العبري- باحث عماني

بعد بيان الحروف المقطعة حيث يتشكلّ بها أيّ كتاب ونص مكتوب، هنا يربطها الله تعالى بكتابه الكريم، المعجز من جهتين: الجهة الأولى إعجاز الإنزال والإيجاد، والجهة الثّانية إعجاز البلاغة والفصاحة في ذات الكتاب.

لهذا ابتدأ الله تعالى الآية باسم الإشارة (ذلك)، وهي للمذكر العاقل وغير العاقل البعيد، والأشهر استخدمت هنا بمعنى هذا، أو استخدم الغائب بمعنى الحاضر، وفيه نكتة التّعظيم والتّفخيم، أي كأنّ هذا الكتاب المعلوم لديكم ابتداء لا ريب فيه.

والإشكاليّة الّتي حدثت في ذهن المفسر سابقا من جهتين: الأولى استخدام ضمير الغائب، فهل يعني هذا أنّ المراد بالكتاب غير القرآن؟ لهذا ذهب البعض المراد به التّوراة والإنجيل المخبر عن القرآن، وذهب آخرون المراد به اللّوح المحفوظ.

والجهة الثّانية: أنّ سورة البقرة متقدمة، ولم ينزل القرآن كاملا بعد، فكيف كانت الإشارة إليه، لهذا ذهب هؤلاء أنّ هذا من باب الجزء المراد به الكلّ، أو لأنّ الكتاب من باب الخبر في جملته، والخبر عادة يستخدم فيه ضمير الغائب، وإن كان حدوثه قريب جدا، ومنه قوله تعالى: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ} [البقرة/ 68].

وذكر الرّازي ت 604-606هـ في تفسيره عدة أوجه لا تخرج في عمومها عن هاتين الجهتين، ولا يهمنا تكرارها هنا؛ لأنّ استخدام اسم الاشارة ذلك لا يخرج عن دائرة التّعظيم والتّفخيم لله سبحانه وتعالى، فهنا التفات بديع في بيان إعجاز الكتاب لتكونه من ذات الحروف المتحدث بها، إلى الغائب وكأنّه حاضر كمل إنزاله وتمامه.

والحاصل كان الافتتاح هنا بذكر الكتاب، فهل الكتاب هو القرآن، أم هو غير القرآن، ولفاضل السّامرائيّ [معاصر] استقراء جميل لآيات القرآن من حيث ورود لفظتي الكتاب والقرآن في الآيات حيث خلص أنّه عندما يبدأ ذكر الكتاب في السّورة يتردد ذكر الكتاب فيها أكثر بكثير ممّا يتردد ذكر القرآن أو قد لا تذكر كلمة القرآن مطلقاً في السّورة، ونحو هذا سورة البقرة والّتي افتتحت بقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} جاء ذكر الكتاب في السّورة 47 مرة، بيد أنّ القرآن ذكر مرة واحدة في آية الصّيام {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة/ 185]، وكذا سورة آل عمران، حيث بدأت السّورة بذكر الكتاب: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عمران/ 3]، وورد الكتاب فيها 33 مرة، بينما لم ترد كلمة القرآن ولا مرة في السّورة كلّها.

أمّا عندما يبدأ الخطاب بالقرآن يتردد في السّورة ذكر كلمة القرآن أكثر الكتاب، أو قد لا يرد ذكر الكتاب مطلقاً في السّورة، كنحو سورة طه، بدأت السّورة بالقرآن: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه/ 2]، بينما ورد القرآن فيها ثلاث مرات، والكتاب مرة واحدة.

وإذا اجتمع القرآن والكتاب فيكونان يترددان في السّورة بشكل متساو أو متقارب كما في سورة ص تساوى ذكر القرآن والكتاب، وفي سورة الحجر بدأ {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر/ 1] ورد ذكر القرآن ثلاث مرات والكتاب مرتين.

لهذا يرى السّامرائيّ أنّها أقرب إلى المشترك اللّفظيّ، فأصل استخدام القرآن في اللّغة من مصدر الفعل قرأ مثل غفران وعدوان، والكتاب من الكتابة، وأحياناً يسمى كتاباً؛ لأنّ الكتاب متعلق بالخط، وأحياناً يطلق عليه الكتاب وإن لم يُخطّ {أنزل الكتاب} حيث لم يُنزّل مكتوباً وإنما أُنزل مقروءاً، ولكنه كان مكتوباً في اللّوح المحفوظ قبل أن ينزّل على رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-.

بينما محمد شحرور [معاصر] من خلال نظريته بعدم وجود التّرادف في القرآن فيرى أنّ الكتاب شيء، والقرآن شيء آخر، فالكتاب هو مجموع ما نزل من سورة الفاتحة وحتى سورة النّاس، وهو يحوي كتبا كما في قوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة/ 2-3]، فالكتاب يحوي كتبا ككتاب العمل الصّالح، وكتاب الصّلاة، وكتاب الصّوم، وهكذا دواليك، لهذا كان الكتاب هداية للمتقين، ولم يقل للنّاس.

وأمّا القرآن فهو جزء من الكتاب، فهو السّاحق الماحق المتعلق بالخبر، لهذا كان القرآن هو المعجز، فكلّ قرآن كتاب، وليس كلّ الكتاب قرآنا، ولهذا كان القرآن هدىً للنّاس جميعا.

وأمّا محمد إسماعيل إبراهيم [معاصر] فيرى القرآن تفصيل الكتاب، وتفصيل كلّ شيء، فالكتاب سابق، والقرآن مفصل، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس/ 37].

وإن تأملنا ما كتبه المفسرون السّابقون فنجد في الجملة لا يفرقون بين الكتاب والقرآن، فهما من المشترك اللّفظي كالفرقان والذّكر والبيان ونحوه، بيد هناك من يرى الكتاب هو الأصل في اللّوح المحفوظ، وهو أصل الكتب السّماوية، فالتّوراة والإنجيل والقرآن هما كتاب واحد من حيث الأصل، إلا أنّه من حيث الإنزال أصبحت كتبا متفرقة.

وهذا الخلاف في جملته لا يؤدي إلى نتيجة كقاعدة مطردة؛ لأنّ كلّ آية في حقيقتها بناء متكامل، لذا كلّ لفظة ناسب وضعها في المقام الصّحيح، ولهذا أرى أنّ ذكر الكتاب هنا ناسب المقام من جهتين: الأولى الافتتاح بذكر الكتاب الّذي يفصل المجتمع المدنيّ من جوانب متعددة أشرنا إليها في مقدمة سورة البقرة.

ومن جهة ثانية لازم التّعظيم ذكر الكتاب لأنّه كالدّستور المكتوب المنظم لجوانب عديدة، خلاف القرآن فهو أقرب إلى القراءة والتّدبر والتّأمل.

ولهذا كان الكتاب هنا هدى للمتقين، وهذا لا يعنى أنّه ليس هدى للنّاس، ولكنه بتطبيق وإنزال الكتاب يخرج المجتمع الّذي يقي نفسه من الأخطاء والشّرور، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات، ولهذا ناسب المقام الإشارة إلى الطّوائف الثّلاثة الّتي ستتعامل مع هذا الكتاب كما سيأتي بيانه لاحقا.

من هنا كانت الجملة الاعتراضيّة [لا ريب فيه] أي لا شكّ فيه، زيادة في التّوكيد والبيان، ولأنّ المتقيّ هو من يؤمن بالشّيء ابتداء، حتى يحصل على ثمرته كغاية من الإيمان والتّصديق بالشّيء.

والتّقوى من الوقاية الأخطاء والشّرور الّتي تؤثر على الجنس البشريّ في نفسه وماله وعرضه ومجتمعه، ولهذا كان هذا الكتاب مرشدا وموجها لهذه الغاية لكي يقي الإنسان نفسه ومجتمعه.

وعليه نخلص إلى أهمية الكتاب للإنسان والمجتمع الإنسانيّ، إذ يقدّم صورة وقائية للمجتمع يستفيد منها من آمن واتقى، بما يخدم البيت الإنسانيّ الكبير.

Your Page Title