رصد-أثير
رصد-أثير
إعداد: يحيى الراشدي
إعداد: يحيى الراشدي
“ما من جريمة كاملة” بهذه العبارة يُمكن أن نبدأ القضية التي رصدناها من مجلة “القانون والمجتمع” التابعة للادعاء العام، والتي سنستعرضها في السطور القادمة؛ إيمانًا بأن نشر مثل هذه الوقائع هو تعزيزٌ للثقافة القانونية، وزجرٌ لمن تسوّل له نفسه ارتكاب أي جريمة كانت.
ثلاثة فتية في ريعان الشباب، لم تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين عامًا، أغراهم حب المال وعنفوان الشباب، فاجتمعوا على فكرة قادت بهم لاحقا إلى خلف القضبان؛ إذ دبروا أمرهم ليلا لسرقة إحدى محطات تعبئة الوقود، ويحسبون أنهم قادرون على كسر قيم المجتمع بجريرتهم من دون أن تطالهم يد العدالة.
وقع اختيارهم على محطة تعبئة الوقود المجاورة لمنطقة مسكنهم، فهم على دراية بتفاصيل المكان لترددهم على المحطة بصورة مستمرة، كما أنهم يدركون تمام الإدراك أن المحطة والطريق المؤدي إليها تصبح مُقفرة من السائقين بعد الواحدة فجرًا، لبعد المكان وقلة عدد السكان في المنطقة.
أدرك المتهمون، في بادئ الأمر، أنه لا يمكنهم الذهاب سيرًا على الأقدام إلى محطة تعبئة الوقود، لارتكاب جريمتهم؛ فحملهم لأدوات الجريمة والمسروقات يتطلب توفر مركبة آلية تعينهم على تنفيذ مخططهم؛ كما أيقن المتهمون جليا أنهم لن يستطيعوا استخدام مركباتهم الشخصية خوفًا من التوصل إلى هويتهم في حال تم التقاط رقم المركبة وتفاصيلها بواسطة آلات التصوير الخاصة بالمراقبة في المحطة.
فأقدموا تمهيدًا لجريمتهم الاصلية على سرقة مركبة قديمة الطراز، بعد أن تمكنوا من كسر إحدى نوافذها وإدارة مُحركها بطريقة فنيَّة؛ لينطلقوا بها، بعد انتصاف الليل بقليل، إلى محطة تعبئة الوقود ، وكل منهم يضع على وجهه لثامًا؛ للحيلولة دون التعرّف على ملامحهم ويرتدون قفازات؛ لعدم ترك بصماتهم ومسرح الجريمة، وحملوا معهم عدّتهم من حبال وقضبان حديدية، لتنفيذ جريمتهم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد وإنما حملوا سلاحًا ناريًا تقليديًا من نوع (شوزن).
وصل المتهمون بمركبتهم إلى المحطة، وتظاهروا برغبتهم في تمويل المركبة بالوقود. وحسبما اتجه مخططهم، كان المكان خاليًا تمامًا من المارة، باستثناء عامل المحطة، الذى كان بمفرده، في ذلك الوقت المتأخر من الليل؛ فترجَل المتهمون من المركبة، وأشهر أحدهم السلاح في وجه العامل، وتمكنوا عقب استسلامه من قيده بالحبل؛ ثم الدخول إلى مكتب المحطة، وحملوا الخزانة الحديدية المخصصة لحفظ الأموال المتحصلة من بيع الوقود ووضعوها في المركبة؛ كما اقتحموا، بعد ذلك ـ محلا لبيع المواد الغذائية، الكائن في حرم المحطة، وحملوا معهم الآلة التي توضع فيها النقود.
لكن، مهما أوتي الجاني من خصال الحرص والحذر؛ لابد أن يترك خلفه أثرًا يُستدل به للتوصل إليه؛ فبعد انتهاء المتهمين من جريمتهم، امتدت أيديهم الآثمة إلى بعض المواد الغذائية، وكذلك قنائن المياه المعدنية من الثلاجة، احتفاءً بإنجاز مخططهم بنجاح، من دون أن يخطر على بالهم أن احتفاءهم هذا سيكون هو الشعرة التي ستقود التحري إليهم؛ حيث إنهم، وبعد أن ارتووا من تلك المياه المعدنية الباردة، ألقوا القنائن الفارغة في المحل ذاته؛ فكانت هي الطريق المعبّد الذي قاد رجال الضبط القضائي، بمساعدة فنيي المختبر الجنائي، إلى التعرف على هويتهم.
غادر المتهمون مسرح الجريمة؛ إلا أن مغادرتهم لم تكن من الطريق ذاتها التي سلكوها إلى المحطة؛ بل اختاروا طريقًا جبلية، ليكونوا في منأى عن الأنظار، وأوقفوا المركبة في عمق الوادي، وهناك فتحوا الخزانات بواسطة بعض القضبان الحديدية التي كانوا يحملونها واقتسموا الأموال التي حوتها فيما بينهم، وبعدها تخلصوا من جميع الأدوات والمعدات المستخدمة في الجريمة، بإضرام النيران في الملابس والأقنعة التي كانوا يرتدونها، بالإضافة إلى الخزانات الحديدية، وذلك لضمان طمس أي أثر أو بصمة تدل على هويتهم.
عاد المتهمون إلى منازلهم سيرًا على الأقدام وتركوا المركبة المسروقة التي استخدموها في الجريمة بعمق الوادي مع بقية المواد المحروقة، وأكملوا ما تبقى من ساعات ليلتهم في النوم بمنازلهم قريري العين.
فور تلقي مركز الشرطة بلاغًا عن الواقعة، باشر جمع الاستدلالات الأولية من حيث معاينة الموقع وجمع وتحريز الأدوات والآلات التي يمكن فحصها فنيًا أو رفع البصمات منها، بغية التوصل إلى أي خيط يقود إلى هوية المتهمين؛ كان من بين المواد المحرزة تلك القنائن الفارغة التي ألقاها المتهمون في مسرح الجريمة.
بفحص القنائن فنيا واستخلاص مادة (DNA) من فوهتها، تم التوصل إلى الأحماض النووية للمتهمين والتعرف على هويتهم؛ كما أن عثور رجال الضبط القضائي على مكان ترك المتهمين للمركبة المستخدمة في الجريمة والمواد المحروقة، أسهم هو العثور على العديد من الخلايا الطلائية بداخل المركبة والتي تطابقت مع العينات المرفوعة من القنائن الفارغة.
تمكن مأمورو الضبط القضائي من إلقاء القبض على المتهمين، وبسؤالهم عن الواقعة أقروا بفعلتهم، وأرشدوا رجال الشرطة إلى كيفية ارتكابهم للجريمة؛ ليحال بعدها المتهمين الثلاثة إلى الادعاء العام، ثن أحيلوا إلى محكمة الجنايات المختصة، بتهمة السلب، المؤثمة بالمادة (1,2/284) من قانون الجزاء، وجنحة (السرقة العادية) المعاقب عليها بالمادة (279) من القانون سالف الذكر، وجنحة (التهديد بسلاح ناري) المؤثمة بنص المادة (264) من القانون ذاته.
أدانتهم المحكمة جميعًا بما هو منسوب إليهم، وقضت بمعاقبتهم عن جناية السلب بالسجن لمدة عشر سنوات، وعن جنحة السرقة بالسجن لمدة سنة، وعن جنحة التهديد بالسلاح بالسجن لمدة ثلاثة أشهر، مع إدغام العقوبات حقهم، وبذلك سينفذ كل من المتهمين عقوبة السجن لمدة عشر سنوات.