عزة بنت محمد الكميانية- روائية عمانية
الواجبات المنزلية وطول الدوام المدرسي في بلادنا كرَّهت الطلاب في المدرسة، فهم يذهبون في الصباح الباكر لمدارسهم مجبرون، فيصحون قبل الساعة السادسة صباحا ليتجهزوا للمدرسة، ثم يعودون في الساعة الثانية أو الثانية والنصف ظهرا، يذهبون ممتقعو الوجوه وكأن الحياة نزعت من قلوبهم، ويعودون متعبين، وكأن أحمال العالم ألقيت على كاهلهم، وما يلبثون أن يستريحوا قليلا من عناء يومهم الدراسي حتى تدب الحياة في قلوبهم، وكأن هماً ثقيلاً انزاح عن كاهلهم، وفوق كل ذلك هناك واجبات منزلية تنتظرهم في المساء، فإذا نام الطالب قبل أدائها فإنها ستتراكم عليه في اليوم التالي أضعافا مضاعفة، فأيُّ ذنبٍ تقترفه وزارة التربية والتعليم في حق هؤلاء الصغار؟!!
وليست الواجبات المنزلية وحدها من تضايق الطلاب إنما أكثر شكواهم هو المكوث الطويل في المدرسة.
فكثير من أولياء الأمور لا يطالبون بإلغاء الواجبات المنزلية والمشاريع وحسب، إنما يطالبون أيضا بإرجاع الدوام المدرسي إلى عهده القديم قبل عشرين سنة، بحيث يكون الدوام حتى الثانية عشرة وعشر دقائق لطلاب الصف الأول إلى الصف السادس، وللساعة الثانية عشرة وخمسين دقيقة للطلاب في الصفوف الأعلى، بحيث تعود الحصص إلى ست وسبع حصص، وإذا تم تخفيضها إلى ست حصص لكل المراحل الدراسية سيكون ذلك أفضل وأكثر راحة للطلاب والمعلمين، لأن الطالب يقل استيعابه بعد الحصة السادسة، فما فائدة حشو عقله بمعلومات لا يستوعبها!!
والبعض يعارض تخفيض ساعات التعليم حتى تتساوى ساعات دوام المعلمين مع ساعات دوام الموظفين الآخرين في الدولة، دون اعتبار لصعوبة مهنة التدريس وأهميتها في إنشاء جيل صالح.
فإذا كانت وزارة التربية والتعليم تشك في جدوى تنفيذ هذه المطالب، أو تعتقد أن النتيجة سوف تكون عكسية، فإنه يمكن تجربة ذلك لمدة سنتين أو أكثر، وليقارنوا الفرق بين مستوى الطلاب قبل التنفيذ وبعده، فالقوانين ليست شرعا منزلا من السماء، ويمكن تغييرها بين الفترة والأخرى.
كلنا كنا ندرس في المدرسة – جيل السبعينات والثمانينات- ونذكر جيدا كيف كانت الحصة السابعة تمضي ببطء شديد، ونظل ننتظر جرس انتهاء الدوام وكأنه جرس الانقاذ، وكنا نتحسر على السنوات الخوالي حينما كنا ندرس ست حصص في اليوم عندما كنا في المرحلة الابتدائية، فلم نكن نشعر بالوقت الذي يمضي سريعا ثم نعود للبيت، وبالرغم من التعب إلا أننا نظل ننتظر اليوم التالي الذي سنذهب فيه للمدرسة، لم تكن المدرسة حملاً ثقيلاً علينا ولا على أهلنا، ففي المرحلة الابتدائية لم تكن هناك مشاريع يقوم بها الطلاب باستثناء إذا طلبت المعلمة عمل (وسيلة) وهي مجلة تعلقها في الحائط ليستفيد الطلاب منها، ونادرا ما كنا نجمع النقود لشراء مفرش لطاولة المعلمة أو لتزيين الصف، وكان العبء الأكبر الذي يقع على عاتقنا هو حمل الحقيبة المدرسية الثقيلة، وحل الواجبات المنزلية المملة، ولكن للأسف عوضاً عن حل هذه المشكلة ظلت الواجبات المنزلية فرضاً على الطلاب كل يوم، وازدادت الحقائب المدرسية ثقلا، وأصبحت المدرسة عبئاً كبيراً على المعلم، وعلى الطالب، وعلى أولياء الأمور، فالطالب مجبر على الدراسة في الكتاب ثم الكتابة في الدفتر، وحل الكثير من الأوراق التي تطبعها المعلمة في الصف، ثم تعطيه غيرها يلصقها في الدفتر لحلها في البيت!! مما يؤدي لارتباك الطالب وإرهاقه، لما لا يكون كل شيء في الكتاب المدرسي لطلاب الحلقة الأولى؟! وذلك لتخفيف الحمل على الطالب ليس في الدراسة وحسب إنما في التخفيف من ثقل الحقيبة المدرسية أيضاً، وقد اعتمدت فرنسا هذه السنة نظام الكتاب الواحد لكافة المواد، بحيث تطبع الوزارة ثمانية كتب، كل كتاب يحتوي على المقررات الدراسية التي سيدرسها الطالب في شهر واحد، وهكذا كلما انتهى شهر استلم الطالب كتاباً جديداً، مما يخفف الحمل عليه كثيرا، وكان هذا الحل من ضمن الحلول المقترحة على وزارة التربية والتعليم للتخلص من ثقل الحقيبة المدرسية، ومن ضمن الحلول المقترحة على الوزارة أيضاً هو طباعة الكتب بأوراق أخف من الأوراق المطبوعة حالياً، أو استبدال الكتب الورقية بالكتب الالكترونية أو بالكتب الالكترونية التفاعلية، وبما أن ذلك سيحتاج لميزانية ودراسة أكثر للعمل بها فإن أفضل الحلول الآن هو تخصيص الكتاب الواحد لكل شهر، وبعض المدارس في السلطنة خصصت خزانات للطلاب في كل صف، لكل طالب خزانة يضع فيها حقيبته وأدواته المدرسية، فلما لا يتم تعميم هذا الأمر على كل المدارس إلى أن تعتمد الوزارة حلاً للتخفيف من ثقل الحقيبة المدرسية، وخاصة لطلاب الحلقة الأولى.
ونعلم جيدا أن الذين قرروا بأن يمتد الدوام المدرسي لثمان حصص هم من مواليد الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وهم حينما درسوا ذلك القرار ثم أقروه في نهاية التسعينات كان قصدهم من تفعيله هو تحسين مخرجات التعليم، كان هدفهم ساميا ونبيلا، ولا نشك في ذلك أبداً، ولكن للأسف بعد مضي أكثر من عشرين سنة تبين أن هذا القرار فاشل، فلا مخرجات التعليم تحسنت، ولا الطلاب أحبوا المدرسة، وإنما حدث العكس، فقد أدى ذلك القرار لتشتيت عقل الطالب، والضغط عليه، وعلى المعلم، مما أدى لكرههم للمدرسة والتدريس، فهل ذلك القرار منزل من السماء لا يمكن تغييره؟! وقد أجمع معظم أولياء الأمور والمعلمين على فشله بعد تنفيذه بسنوات قليلة، وبالرغم من ذلك ظل يقاوم كل التغييرات، وكل التطورات، ولا يزال يقاوم، حتى بعد مضي أكثر من عشرين سنة على العمل به، فهل كل أولئك الذين رأوا فشله لا يملكون رأياً سديداً، ووزارة التربية والتعليم وحدها من تملك الآراء السديدة؟؟!
علماً بأن مادة المهارات الحياتية التي زج بها في المناهج الدراسية لا قيمة لها، فهي مجرد حشو في عقل الطالب، فكل المهارات التي يدرسها في المادة يتعلمها في البيت، ويمكن أي معلمة تعلم المواد الأخرى أن تعلمهم معنى النظافة، وكيفية الاهتمام بالنظافة الشخصية، والبيئة، والغذاء، إلخ.. ولا يحتاج هذا الأمر لتدريسه في مادة تضيع وقت الطالب في شيء لا قيمة فيه، والأفضل استبدالها بمادة التربية الأسرية للطالبات منذ الصف السابع، تعلمهن الطبخ والحياكة وشيئا عن الأمومة والاهتمام بالأطفال وكذلك الأشغال اليدوية كصناعة الملابس الصوفية أو تنسيق الزهور أو تعلم بعض الحرف التقليدية إلخ.. ، ويمكن استبدالها للطلاب بمادة الحرفيات يعلمونهم فيها حرف الأجداد كصناعة السلال من سعف النخيل (المخرافة والقفير)، وصناعة (الظروف) التي يخزن فيها التمر ليستخرج منه الدبس، وصناعة الحبال، والفخار.. إلخ ، أو تعليمهم شيئاً مفيداً كتصليح السيارات أو الأدوات الكهربائية، أو الرماية والسباحة وركوب الخيل، علما بأن هذه المهارات لها قدرة كبيرة في زيادة إدراك الطلاب وتقوية حسهم العقلي والحركي.
وربما تعارض وزارة التربية والتعليم هذا المطلب الأساسي، وربما يقابل هذا الطلب بالاستهجان أيضا، وربما سيظن البعض أنه لو تم إلغاء الواجبات المنزلية وتخفيض ساعات الدوام المدرسي سوف يحدث تدهور لمستوى الطلاب، ولكن الواقع شيئا آخر، ولنا في فنلندا مثال، فهي تعد أفضل الدول في العالم في التعليم، فمنذ عام 2000م عندما احتل طلابها المركز الأول في اختبارات القياس الدولية، أصبح العالم يتساءل: ما الذي جعل فنلندا الأفضل في التعليم على مستوى العالم؟! ومنذ ذلك العام بدأت الوفود المختصة بالتعليم تتوافد على مدارسها لاستقاء الخبرة منها، والاطلاع على التجربة الفنلندية الناجحة، وقد ظنت معظم الوفود أن السبب هو المدارس المريحة أو رواتب المعلمين العالية أو النظام التعليمي المعقد، ولكن كل ذلك لم يكن السبب، وكل من زار المدارس الفنلندية للاطلاع على تجربتها في التعليم ذهل، وقد تم إنتاج عدة برامج تلفزيونية تتحدث عن التجربة الفنلندية وقام فيها المعلمون ومديرو المدارس بالحديث عن السر الذي جعل التعليم في فنلندا هو الأفضل، فقد كان السبب الرئيس لتبوؤ التعليم القمة في فنلندا هو أنها منعت الواجبات المنزلية، وخفَّضت ساعات التدريس، وغيَّرت أساليب التعليم بحيث يكون التعليم تفاعلياً وتغلب عليه الحركة عوضاً عن الجلوس لعدة ساعات في الكراسي التي تقيد حركة الطلاب في عمر الطفولة، ومنعت الدروس الخصوصية فلم يعد الطالب بحاجة لها، لأن حتى الطلاب الذين مستواهم الدراسي ضعيف يتم الاهتمام بهم حتى يصل مستواهم للمستوى المطلوب، وفي الصفوف الأولى لا يوجد تقييم للطالب ممتاز أو جيد جدا، أو رسوب، ويتم التعامل مع كل طفل بحسب قدراته الذهنية، بحيث لا يكون هدف التعليم هو تلقين الطلاب دروسهم للوصول للدرجات العالية إنما التعليم هناك يتَّبع أسلوب الشغف والإبداع والابتكار حتى ينشأ الطالب وهو يستطيع التعامل مع كل مشكلات الحياة، فأصبح الطالب شغوفاً بالدراسة، مبدعاً، ومحباً للمدرسة، وبالتأكيد هناك عوامل أخرى ساعدت على أن يكون التعليم في فنلندا الأفضل، وللاطلاع على التجربة الفنلندية في التعليم يمكن قراءة كتب أو مشاهدة برامج وثائقية تتحدث عنها، وكذلك يمكن الاطلاع على مقال (نظام التعليم الفنلندي: معجزة تتحدى المنطق) للكاتب أحمد المشاري، ومما جاء في المقال: (أول خطوة اتخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم هو التخلص من الجراثيم، ينقل كتاب (الدروس الفنلندية) عن صحيفة (التايمز) أن التعليم الفنلندي أباد 99% من جراثيم التعليم العالمي، كيف؟ تكثيف المواد، كثرة الاختبارات والواجبات، إطالة أوقات الدوام، الدراسة المنزلية والدروس الخصوصية، كلها جراثيم قادرة على هدم أي نظام تعليمي يتكئ عليها، لأنها ممارسات غير تربوية من شأنها إرهاق الأستاذ والتلميذ معاً، وإضعاف عملية التعليم ككل) ويقول أيضا في مقاله: (اعتمد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، خلال فترته، استراتيجية تعليمية طموحة أطلق عليها اسم “السباق نحو القمة “، ووعد بنهضة تعليمية شاملة لأمريكا عن طريق إحلال أساليب محاسبية أدق، ومعايير تقويمية لأداء المدرسين، ومتطلبات إضافية لتحقيق تفوق الطالب. ينقل الفيلم الوثائقي «Waiting for Superman» أنه بعد سنوات من تطبيق الاستراتيجية زادت نسبة تسرُّب الطلبة وإغلاق المدارس وتسريح المدرسين، لقد أُعلِنَ عن فشل الخطة).
ومما ورد في المقال أيضاً: ( بعيدا عن الحفظ والحشو والتلقين يُحذِّر سالبرغ – هو الدكتور باسي سالبرغ الأب الروحي للتعليم الفنلندي- من إلزام الطالب بمعلومات تفصيلية لا يتداولها إلا أهل التخصص الدقيق، يسميها (المعرفة المعزولة). المواد التدريسية الفاعلة يجب أن ترتكز على تربية الطالب في الجوانب التالية:
1- التفكير الإبداعي 2- الضمير الأخلاقي
3- المهارات التواصلية 4- الموهبة الخاصة
هذه موضوعات دراسية لا تتطلب استظهار مصطلحات جامدة هو في غنى عنها الآن، ولا تستلزم حفظ نصوص مطولة لم يحفظها كتابها الأصليون أساساً، ولم يطلبوا من قرائهم فعل ذلك، إلزام النشء بهذه ” المعارف المعزولة ” سبب كاف لنفورهم من التخصص بها مستقبلا، وقدرة الطالب على إبداع أفكار جديدة، وتعليمه التفكير الابتكاري لا يقل أهمية على تعلمه القراءة والكتابة والحساب).
فلمَ لا يتم استقاء الخبرة من فنلندا، وذلك بزيارة وفود من وزارة التربية والتعليم للتعرف على طرق وأساليب التعليم المتبعة فيها، فساعات الدراسة الطويلة ليست سوى حشو لعقول الطلاب لمعلومات سوف ينسونها لاحقا، فقد أثبتت الدراسات أن التحصيل المعرفي لا يعتمد على ساعات تلقي الدروس إنما يعتمد على أسلوب تلقي تلك الدروس، ومكوث الطلاب لساعات طويلة يزيد من تأففهم من الدراسة، فهذا السبب الأول لكره الطلاب للدراسة، ومهما بذل أولياء الأمور من طرق لتحفيز أبنائهم لحب المدرسة تكون ساعات الدراسة الطويلة والمناهج الدسمة هي العائق الأول لنجاح التحفيز، ولذلك تبوء كل الطرق بالفشل، فيضطر الطلاب للذهاب كل يوم للمدرسة مجبرين، وأذكر كيف كان كثير من الطلاب يرجعون لبيوتهم فرحين ومنتشين لأن ساعات الدراسة خُفِّضت في مدرستهم بسبب الاستعداد للاحتفال بالعيد الوطني، ويظل السؤال: إلى متى تتجاهل وزارة التربية والتعليم مطالب أولياء الأمور؟!
الجزء الأول:
https://ath.re/2IshP6P
الجزء الثاني:
https://ath.re/2Iyvucz
الجزء الثالث:
https://ath.re/2P4KelM