عمر بن حمد الفهدي – معلّم لغة إنجليزيّة
لماذا يهرب طلابنا من المدرسة بهذا التدافع المجنون؟ لماذا يخرجون من الفصول على وجه السرعة؟ يتهللون ويفرحون إن دقت ساعة الصفر. يتكرر هذا المشهد المفرح في ظاهره والمحزن في باطنه كل يوم وكل عام. فالمدرسة وهي المكان الذي نعتقد بأنه البيت الثاني يبدو أنه لا يحمل صفات البيت بأي شكل. فالبيت لا يَهرب منه أفراده بل يلجأون إليه بكل سعادة.
في أحد الأيام دخلت على طلابي وأنا أحمل أوراقًا ملوَّنة من النوع الذي يلتصق من الخلف، وطلبت منهم إدخال الكتاب وكل المتعلقات، فقط سيكون بيننا حوارٌ وقلم، ووزعت عليهم الأوراق، إلى الآن كان هذا منظرًا خارج المألوف، خارج التسلسل العملياتي المعتاد بالمدرسة، وطرحت عليهم السؤال التالي: ما الذي تحبونه ولا تحبونه في المدرسة؟، ولأنها من المرات القليلة التي يتم سؤالهم عن آرائهم واجهت صعوبة في تحرير أفكارهم، فهم من جهة غير معتادين، ومن الجهة الأخرى خائفين أن يكتبوا شيئًا يعرِّضهم للعقاب، ولهذا سحبت الخوف منهم بأن أخبرتهم بعدم الحاجة لكتابة أسمائهم، وبأني هنا لأسمع منهم أفكارهم.
لم أندهش حين وجدت أنَّ الجزء المتعلق بما يحبونه قد تكررت فيه كلمة واحدة أكثر من غيرها: حصَّة الرياضة، فماذا غير اللعب يحررهم من القوانين وتحفزهم النتائج ويستثير القدرات؟. أمّا ما يتعلق بالجزء الذي لا يحبونه فكثير من الإجابات كانت تتعلق بمواد معينة أو بأسلوب معلمٍ معهم أو النظام المدرسي كالطابور الصباحي وكأنهم يذكرونني برأيي عندما كنت طالبًا، حيث يتشابه الحال. وأخيرًا لم أستطع تجاهل مجموعة من الطلبة الذين لم يستطيعوا كتابة شيء أبدًا، ففي الحقيقة عدم القدرة على كتابة إجابة هي بحد ذاتها إجابة تستحق التأمل.
الحقيقة الواضحة التي قد يعرفها الجميع هي أننا نتعامل مع أجيال القرن الواحد والعشرين بنظام تعليمي لا يتناسب معهم، ولا يتناسب مع العصر وتغيراته المتسارعة؛ فالنظام التعليمي الحالي هو نظام صناعي ”Factory Model“ ظهر إبَّان الثورة الصناعية مطلع القرن الـ ١٩، وهو يركز على المهن الصناعية ولهذا كان ولا يزال الاهتمام محصورًا فيه على المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم بشكل عام، بالإضافة للطريقة الميكانيكية في التعليم بإدخال المعلومات في رأس الطلبة عن طريق التلقين ثم مطالبتهم بإخراجها في الاختبار؛ فالطالب لا يشارك في البحث عن المعلومة ولا يختبر أفكاره حولها ولا يبنيها بنفسه، وانتهى بنا الحال أن أوجدنا الميكانيكي والمهندس والطبيب ولكن نسينا بناء الإنسان المتعلم على مدى الحياة.
في كتابه الرائع ” المدارس الإبداعيَّة ” يطرحُ السير د. كين روبينسون وهو أحد أهم الخبراء في مجال ثورات التعليم فكرة “العودة إلى الأسس “، فلو عدنا بالطالب الحالي إلى مراحل طفولته لوجدناه يمتلك صفات العالِم بشكلٍ فطري، يواجه مُشكلة، يضع فرضياته حولها، يختبر إحداها، ثم يحاول مجددًا بطريقة أخرى، وقد يستعين بأدوات أخرى لحل مشكلاته إلى أن يصل لنتيجةٍ تقنعه، أليست هذه صفات العلماء؟، وأليست هذه هي العملية الطبيعية للتعلم وهي قائمة على أجمل الأنواع وهو التعلم الذاتي المنطلق من المشكلات الموجودة.
في تجربة مثيرة قام بها ساجاتا ميترا (Sagata Mitra ) عام ١٩٩١ في نيوديلهي تبين لنا لأي مدى يتعلم الأطفال بالفطرة، حيث قام بتنصيب حاسوب على جدار الفصل وتوصيله بالإنترنت، لم يسبق للطلاب أن رأوا حاسوبا من قبل بل وأكثر من ذلك كانت لغة متصفح الإنترنت بالإنجليزية والتي لم يتعلموها. بدون تدخل المعلم وبعد وقت قصير تعلم الأطفال ما يمكن فعله بالحاسوب بل وقاموا بتعليم بعضهم البعض، وبعد مرور ساعات أصبحوا يلعبون ويسجلون موسيقاهم الخاصة بل ويتصفحون الإنترنت كالمحترفين.
المدرسة متى ما كانت معنيةً بتكوين إنسانٍ متوازن ذي قيم كالمسؤولية والمبادرة والتعاون وتصنع منه شخصًا قادرا على التواصل مع الآخرين والتأقلم بينهم ويستطيع حل المشكلات بطرق إبداعية، ويتمسك بالتعلم مدى الحياة، فستكون منبعًا لأغلى الثروات، وأهم المنجزات.
ويمكننا الوصول إلى ذلك إذا ما أعدنا تلوين مدارسنا وتعريفها ، ويمكن تلخيص أبرز أدوار المدرسة إلى ثلاثة أدوار أساسية:
الاتصال: فلا يجب على المدرسة بأي شكل من الأشكال أن تكون مجرد مبنىً ينقطع فيه الطالب عن مشكلات العالم الخارجية، بل أن يتصل بما يحدث في المجتمع من تغيرات وأحداث ومشكلات، ماذا لو علمنا طلابنا طرق حل المشكلات والتفكير ثم وضعناهم في مشاريع لحل مشكلات معينة في المجتمع كالشائعات والحد منها، أو التلوث البيئي والحوادث وغيرها؟. المدرسة أيضا يجب أن تعدَّ التلاميذ ليكونوا عالميين، لديهم قدرات التواصل في عالم تختفي منه الحدود وتندمج فيه الثقافات، ويصبح العمل عابرًا للقارات، وهذا الأمر لا ينسجم فقط مع تغيرات العصر بل هو امتداد للشخصية العمانية التي كانت متصلة عالميًا منذ القدم.
المهارات: يقول توني واجنر (Tony Wagner) مؤلف كتاب (Education gab)، في أحد الأيام وأنا على متن الطائرة في مهمة عمل جلس بجانبي أحد الرؤساء التنفيذيين لإحدى الشركات الصناعية، وبينما نتحدث عن التعليم سألته ما هي المهارات التي تبحثون عنها في الخريجين؟، وكانت إجابته مدهشة، بالنظر إلى مجال الشركة الصناعي اعتقدت بأنه سيقول نبحث عن المتفوقين ومن يعملون بجد لكنه قال نبحث عن من يستطيع طرح أسئلة جديدة ومبتكرة!. المشكلات في سوق العمل الآن أصبحت مُتجددة ولن يستطيع الطالب الذي حفظ أجوبة معينة من الكتاب أن يواجهها، نريد اليوم طُلابًا يجيدون الإجابة ولكن الأهم من ذلك لديهم المهارة على طرح أسئلة جديدة لمشكلاتنا المتغيرة. المدرسة أيضًا يجب أن تُكسب الطالب مهارة العمل التعاوني والعمل الإبداعي، فالنجاح في المشاريع يحتاج إلى تكامل الجهود بين الأشخاص ذوي المهارات المختلفة، فقد يمتلك الفرد مهارات عالية لكنه لا يستطيع العمل مع الآخرين وهذا لا يعطل مهاراته فقط بل يقتل فرص تعلمه من الآخرين.
الصحة الذاتية: لا يزال لدينا مفهومٌ ناقص عن الصحة فهي تقتصر على الجسد وصحيحٌ بأننا لن نملك عقولًا سليمة إلا إن كانت في أجساد سليمة، ولكن الصحة في مفهومها الحديث ليس الاهتمام الجسدي فقط بل الذهني والنفسي والروحي والاجتماعي، فالفرد الصحي هو فرد مستقرٌ في هذه الجوانب، ومهمة المدرسة أن تغرس هذا المفهوم الجديد وتهتم به في برامجها، وفي الحقيقة يجب أن تبدأ مع المعلم، فكلُّ معلم يتغير مفهومه وتستقرُّ حاجاته يعني تغير مفهوم مائة طالب على الأقل.
من المهم القول بأن المدرسة وبقدر أهمية دورها كإحدى ركائز التعليم إلا أنها جزء واحد من منظومة كاملة تشتمل على المؤسسة التعليمية والمجتمع والأسرة وغيرها، وتحقيق التطور التعليمي مرهونٌ أيضا بتكامل الجهود بين مختلف هذه العناصر، فلا يصلُح أن تبني المدرسة فردًا ولا تجد من يُكمل جهودها.