فضاءات

مصطفى الناعبي يكتب: كيف نعلّم أطفالنا الاقتصاد ليتجهوا للعمل الحر؟

مصطفى بن ناصر الناعبي – متخصص في الاقتصاد الإسلامي.

لا يمكن لأي أمة أن تقوم دون أن تركز على البناء في مختلف الأصعدة على الجيل الصاعد من أبنائها، فمتى ما تم الغرس فإن الحصاد سيأتي في وقته، والمجتمعات الناجحة هي تلك التي تبذر البذور اليوم لتنال نتاج علمها في الغد الذي سيقف خلف مقود البناء والتقدم أبناؤه، وهذا المنطق في التفكير لا بد أن يسود على كافة الأصعدة، وهنا نركز على ضرورة تدريس الاقتصاد وأصول الأعمال التجارية لطلاب المدارس على اختلاف مستوياتها، وتكمن هذه الأهمية في بناء ملكة ممارسة التجارة لدى الطلاب، وتوجد بعض الدول الرائدة في هذا المجال، فنجد مثلا دولا مثل بروناي و ماليزيا والبحرين تدرس هذه المواد لطلاب المدارس.

ففي ماليزيا على سبيل المثال نجدهم يدرسون الأسس الأخلاقية العامة في التعاملات التجارية منذ المراحل الدراسية الأولى، فيدرسون الطلاب في المراحل الأولى للتعليم قيم الادخار، وقيمة توفير المال وأهميته، وهنا تبنى لدى الطالب عدة قناعات مهمة جدا، منها أهمية التوفير، وأنه لا يكون مستهلكًا بل يستهلك قدر حاجته، والأهم من ذلك يبني عنده قاعدة الضبط في الإنفاق، وهذه القيم سهل تعليمها للأطفال، وتكون سهلة لفهمها وإدراكها ومعرفة المغزى منها نظرا لارتباطها بأمور محسوسة لدى الطفل الصغير، وفي المرحلة الابتدائية التالية يتم تعليم الأطفال التجارة فيقومون من خلال الأموال التي ادخروها بشراء مواد ثم يقومون ببيعها مع الربح فيها، وهذا مطلب كبير في حد ذاته، ويبني أمورًا كثيرة في شخصية الطالب – ليس هذا مجال ذكرها- ولعلي سأكتفي على سبيل الذكر لا الحصر : بناء شخصية الطفل وتكوين الجرأة لديه، الاختلاط بالآخرين، غرس قيم الإنفاق والاستهلاك، المعرفة العملية لآلية السوق من خلال التطبيق الفعلي ولو بصورته البسيطة التي تتلاءم مع مستواه العقلي والإدراكي، بل وتفتح أمامه آفاقا تخدمه في المستقبل بشكل أو بآخر. ثم يتم التدرج في المنهج الماليزي نحو تدريس الطلاب آلية عمل الأسواق من صورتها المحلية الصغيرة إلى الأسواق العالمية، والأدوار الاقتصادية وحركة السوق، مع التعريج إلى المحاسبة كي يتعرف على أسس ضبط النفقات والصادرات والواردت في العمل التجاري، فيخرج الطالب ويكون قد تعود على هذه الأعمال، بل قد يدرك الطالب من خلال المشاريع التي يقوم بها في مختلف المراحل الدراسية أن الدخل الذي يحصل عليه من التجارة أعلى بكثير من الدخل الذي يحصل عليه من الوظيفة الحكومية، فيكون في نهاية المطاف وعند تخرجه مقبلا على العمل التجاري الحر بدلا عن العمل في القطاع الحكومي، هذا القطاع الذي أصبحت الدول تخفف العبء في التوظيف فيه كونه مكلفًا على الاقتصاد، والتوجه نحو العمل الحر المنتج، والذي يؤدي إلى توليد الوظائف ومضاعفتها، فعلى سبيل المثال نجد أن التوظيف الحكومي في الدول المتقدمة نسبه منخفظة مقارنة بالعمل في القطاع الخاص.
ونجد أيضا في محيطنا الخليجي أن دولة البحرين تدرس هذا النوع من المساقات للطلاب في مرحلة التعليم الثانوي، حيث ينقسم عندهم إلى قسم علمي وقسم أدبي وقسم آخر يسمى “تجاري”، ويتم تدريس أساسيات العمل التجاري بما يتوافق ومتطلبات سوق العمل، ونجد مثالا آخر أيضا وهو المدارس المهنية التجارية المطبقة في تركيا، والتي يتم تكييف معطياتها مع متطلبات السوق، والحاجة إلى المهارات والخبرات التي يتطلبها سوق العمل، وكيف يمكن أن تتوافق هذه المخرجات مع الحاجة الفعلية إليها.
بعد الاستعراض السريع لواقع التعليم التجاري وتعليم الاقتصاد، وأهمية تدريس الاقتصاد نرى أهمية أن تخطو السلطنة هذه الخطوة في المناهج التعليمية، والتي لابد أن تبدأ مع الطفل في مراحله التعليمية الأولى، بما يتناسب مع قدراته العقلية، ويناسب مرحلته العمرية، والتجارب العالمية أمامنا يمكن أن نستفيد منها، وأن يتم التعديل بما يتوافق مع معطيات البيئة العمانية ومتطلبات سوق العمل في الفترات القادمة بما يتناسب مع الابتكار والإبداع والتصنيع والثورات الصناعية، فلا بد أن تتكاتف الجهود وأن يتم السعي إلى الاستفادة من آخر ما يتم تطبيقه في الدول الناجحة في ذات المجال، وأن يراعي مبدأ التدرج من الأساسيات البسيطة للتجارة إلى أن يتخرج الطالب وقد كوّن فكرة وافية عن طبيعة عمل السوق، وتكون عنده العلوم الأساسية لعلم المحاسبة، مع النظرة الإجمالية للدورة الاقتصادية، وهذه بدوره سيجعل الطالب متعودا على المصطلحات الاقتصادية، ويولد لديه القدرة والمعرفة للبدء في عمله التجاري الخاص وفقا لأسس علمية وقواعد تكون سببا لنجاح مشروعه، ويضييف لبنة من لبنات البناء والتنويع الاقتصادي في المجتمع. وسيخفف هذا بدوره على الدور المطلوب من الحوكمة على التوظيف، وسيزيد من الإنتاج بدلا من ثقافة الاستهلاك والاعتماد على الآخر.


Your Page Title