أخلاقهم الرفيعة وبناء المساجد شاهدان عليه: بحث يُوضح دورَ التجار العُمانيين في نشر الإسلام بجنوب شرقي آسيا

أثير- تاريخ عمان

تلخيص: د. محمد بن حمد العريمي

لم يكتفِ العُمانيون بدخول الإسلام طوعًا، والإيمان برسالة النبي الكريم، وعدم الارتداد عن الدين كما فعلت بعض قبائل العرب البعيدة عن مركز الخلافة، ومبايعة الخليفة أبي بكر الصديق؛ بل أتبعوا ذلك بالعديد من الجهود الكبيرة التي بذلوها – ولا تزال- في سبيل نصرة الإسلام ورفعة شأنه، فشاركوا في حروب الردّة، ثم اشتركوا في فتوحات بلاد فارس.

ولم تقتصر جهودهم على الجوانب العسكرية، بل كان الأثر الواضح لهم هو في نشرهم لتعاليم الإسلام، ولمفردات الثقافة العربية والإسلامية في العديد من الموانئ التي كانت تصلها أساطيلهم في أفريقيا وآسيا، فكانوا رسل سلام وتسامح، وظهر عدد كبير من التجار والعلماء العمانيين الذين أسهموا في ذلك، ويدل على تلك الجهود العديد من الدراسات والبحوث التي توثق لتاريخ انتشار الإسلام والثقافة العربية في تلك المناطق.

ومن هذه البحوث التي ترصدها “أثير” وتلخصها للقارئ الكريم (دور التجار العُمانيين في نشر الإسلام في جنوبي شرق آسيا)، للباحث الدكتور ناصر بن علي بن سالم الندابي، والمنشور في العدد العاشر من دورية (الجامعة) التي يصدرها اتحاد جامعات العالم الإسلامي، والذي تضمن عددا من العناوين المهمة منها: التعريف بعمان، التواصل العماني بجنوب آسيا) ثغر الهند(، بداية العلاقة العمانية الهندية، نشر التجار العمانيين للإسلام في الهند، التواصل العماني مع جنوب شرقي آسيا، بداية العلاقة العمانية ببلدان جنوب شرقي آسيا، ونشر التجار العمانيين للإسلام في جنوب شرقي آسيا، حيث سنتناوله مع التركيز على جهود العمانيين في نشر الإسلام بتلك المناطق.

نشر التجار العمانيين للإسلام في الهند:

كان هناك طريقان يربطان بين عمان والهند: الأول بحري عن طريق المسطح المائي الكبير ) المحيط الهندي(، والآخر بري يتجه من عمان غربًا نحو هجر والبحرين ومنها إلى العراق، ثم يتوغل شرقا عبر الأهواز وكرمان ليصل في النهاية إلى بلاد السند، إلا أن هذا الطريق لم يكن كسابقه البحري، فقد كان يعتريه الكثير من المعوقات الأمنية، يأتي في مقدمتها قطاع الطرق والأخطار الطبيعية كندرة المياه ووعورة الطريق وشدة الحرارة.

إن كون التجار العمانيين يستخدمون الطريق البحري ويفضلونه على الطريق البري، جعلهم ينظرون إلى الهند على أنها من المناطق القريبة إليهم، فقد كانت سفنهم تمخر عباب المحيط الهندي مرتين خلال الموسم الواحد، وكان التجار العمانيون ينتظرون هبوب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية الصيفية، ليوجهوا سدة سفنهم نحو بلاد الهند، وتستغرق رحلتهم تلك حتى تبلغ هدفها أسبوعين تقريبًا، ثم تعود إلى موطنها عند هبوب الرياح الشتوية الشمالية الشرقية، ولكون رياح الإبحار نحو الهند تختلف عن رياح العودة نحو الوطن، وكذلك تنزيل البضائع وتحميل أخرى، يحتاج إلى وقت، فإن هذا الأمر فرض على هؤلاء التجار الإقامة في الهند بضعة أسابيع، وقد تصل إلى أشهر في أحيان أخرى، ومن هنا كان بقاء كثير من التجار العمانيين في هذه الأرض مدعاة إلى الدعوة للإسلام بين أهلها، نظرًا لحتمية اختلاطهم بالسكان الأصليين في توفير ما يحتاجونه من غذاء وماء وغيره.

يذكر المسعودي أن طائفة من العُمانيين سكنوا الهند في مدينة ساحلية تدعى (صيمور( وأنهم تزوجوا من بنات الهند وأنجبوا أطفالا، وهذه المصاهرة دليل قاطع على الدور الريادي الذي قام به هؤلاء التجار في نشر الإسلام، فكما هو معلوم أن المسلمين لا يجيزون الزواج من المشركات، فهذا يدل على أنهم قاموا بنشر الإسلام في تلك المنطقة، ثم أقدموا على الزواج من اللواتي اقتنعن بهذا الدين الجديد، كما يمكن أن نستنتج من هذه المصاهرة الأخلاق الحسنة والمعاملة المتميزة التي عامل بها هؤلاء التجار السكان الأصليين لدرجة أنهم وافقوا أن يزوجوهم بناتهم، على الرغم من ثقتهم التامة من إمكانية عودتهم إلى ديارهم في أي وقت.

وفي السياق نفسه، يذكر الرحالة ابن بطوطة عام742 هـ الوجود العماني والأثر الكبير للتجار في أسلمة بعض المدن الهندية، فحين زار مدينة (فندرينا) وجد بها الكثير من المسلمين والكثير من المساجد، في مقدمتها جامع كبير على ساحل البحر، وكان خطيب هذا الجامع من أهل عمان، وليس هذا فحسب، بل إن قاضي هذه المدينة كان من عمان، ويعدّ هذا الأمر دليلا على التأثير الكبير للتجار العمانيين على تلك المناطق الساحلية، وأن بقاءهم بها واعتلاءهم منصب القضاء فيها، لهو دليل على القناعة التي ترسخت في أذهان السكان الأصليين من الهنود بأن هؤلاء التجار هم من يستحقون أن يوضعوا في تلك المناصب الحساسة، كما أن إمساكهم بزمام القضاء في الهند، لهو دليل على معرفتهم بتفاصيل الحياة ودقائقها في المجتمع الهندي، فلا يمكن للقاضي أن يحكم في قضية ما دون أن يكون على معرفة تامة بما يدور في ذلكم المجتمع من أعراف وعادات وتقاليد، وهذا يدل في الوقت نفسه على قوة الاندماج والامتزاج لهؤلاء التجار في المجتمع الهندي، والصفات والأخلاق الحسنة والحميدة التي اتسموا بها، والتي جعلت من الهنود يزكونهم ويجعلونهم الحكم في خصوماتهم ومنازعاتهم.

ومن المحطات التي كان ينزل بها التجار العمانيون، مدينة منجرور )منجلور( الشهيرة بالفلفل والزنجبيل، وهذه المدينة كانت تضم العديد من الجاليات الإسلامية بلغت أربعة آلاف مسلم،وقد جعل على منصب القضاء فيها رجل فاضل يسمى بدر الدين المعبري.

نشر التجار العمانيين للإسلام في جنوب شرقي آسيا:

تذكر بعض الروايات أن الإسلام دخل إلى منطقة جنوب شرقي آسيا منذ القرن الأول الهجري / السابع الميلادي، وأن ذلك كان عن طريق التجار العرب، من عمان وحضرموت واليمن، وأن أوائل المناطق التي دخلها الإسلام في هذه الرقعة الجغرافية هي سواحل سومطرة الشمالية.

لقد تجلى دور التجار العمانيين في نشر الإسلام في أبهى صوره وأكبر مقاماته في قيامهم بتشييد المساجد، فقد سجلت المصادر التاريخية وجود مسجد في إحدى مدن دول جنوب شرقي آسيا، وكانت تسمى صندابور )سنغافورة اليوم(، وأثبت أحد الباحثين أن هذا المسجد يعود فضل بنائه إلى التاجر العماني الثري النوخذة حسن.

ولم يكتفِ العمانيون ببناء المساجد فقط، بل شيدوا المدن، إذ إن ذلكم المسجد الذي شيده النوخذه العماني قد بُني على أرض مدينة شيدها التجار العمانيون قبالة المدينة القديمة التي كان يقطنها السكان الأصليون. والمدينتان مطلتان على ميناء صندابور.

وقد عثر في جزيرة جاوه على مقابر كثيرة تظهر عليها نقوش عربية، تعود إلى عام 475هـ، فلا يستبعد أن تكون بعضها للتجار العمانيين، وفي الوقت نفسه تتعرض بعض الروايات إلى إحدى الشخصيات العمانية التي نزلت في جزيرة سومطرة، ويظهر أنه استقر بها، وأنه تمكن بحكمته وحنكته وحسن معاملته، أن يجبر ملكها على احترام المسلمين، وجعلهم يعيشون في أمان واستقرار، ولا يتأتى ذلك إلا بالأخلاق الحسنة والمعاملة الراقية التي لمسها حاكم وسكان سومطرة في هؤلاء الغرباء.

ومن أبرز التجار العمانيين الذين جابوا هذه المناطق متجهين نحو الصين، التاجر العماني أبو عبيدة عبدالله بن القاسم الذي وصل كانتون عام 133 هـ، حيث اشتغل بالتجارة هناك، ثم عاد إلى بلده، وقد اشتهر هذا التاجر العماني في الوسط الصيني بأخلاقه وصفاته الحسنة، والتي جعلت إمبراطور أسرة (سونج ) يعينه ضابطًا للهجرة في الصين، فهذه الأخلاق العالية من شأنها أن تؤثر في كل الذين تعاملوا مع هذا التاجر العماني، سواء في المدن التي مر بها أثناء توجهه إلى الصين، أو في مدن الصين ذاتها، وفي مقدمتها المدن المحيطة بميناء خانفو ( كانتون).

وبرز في السياق نفسه التاجر العماني النضر بن ميمون، الذي كانت له عدة رحلات إلى الصين، وكان من أبرز التجار الدعاة إلى المذهب الإباضي فلا بد أن تكون لهذا الأخير مساهمة في نشر الدين الإسلامي في جنوب شرقي آسيا إبان عبوره به.

وفي القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، اشتهر التاجر والبحارة العماني محمد بن بلشاد بن حرام، الذي كان يقود سفينته إلى جزيرة سومطره عبر سواحل شرق وغرب الهند، ثم يكر بها راجعًا إلى ميناء ريسوت على الساحل العماني الجنوبي، وفي أواخر العصر الإسلامي الوسيط ) نهاية القرن الخامس عشر الميلادي(، برز على الساحة الملاحية العمانية الملاح الشهير أحمد بن ماجد، الذي وضع أهم وثيقة في علم البحار وهي كتابه المعنون بـ”الفوائد في  أصول البحر والقواعد “.

وبصورة عامة، فإن المدن التي ظهر فيها الإسلام بصورة واضحة في العصور الإسلامية في منطقة جنوب شرقي آسيا كثيرة، تدل على الدور الملموس للتجار، كونها واقعة على السواحل البحرية، كموانئ كله بار (ملقا)، وجزيرة سومطرة، التي ظهرت بها في الشمال الغربي، ومن المدن التي ظهر فيها الإسلام أيضًا جزيرة جاوه ،كما انتشر الإسلام في باقي جزر أندونيسيا الأخرى، من بينها بورنيو التي ظهرت فيها سلطنة إسلامية تدعى سلطنة بروناي، كذلك عمَّ الإسلام أرجاء جزيرة سيليبس ودخل الإسلام إلى الأراضي الفليبينية، فقامت هناك سلطنة إسلامية في جزيرة مندناو.

*********************************

المرجع:

الندابي، ناصر بن علي. دور التجار العمانيين في نشر الإسلام في جنوبي شرق آسيا، مجلة الجامعة، العدد العاشر، 2014، ص ص39-53

Your Page Title