أثير- موسى الفرعي
إن الرهان الحقيقي هو رهان معرفي، وإن كانت المعرفة مرتبطة بما يجده الإنسان في داخله من غير إعمال الفكر، ودون علم مسبق بأسبابها، هي أيضا في أحد وجوهها مرادفة للعلوم التجريبية التي تهدف إلى إضاءة الحقائق وكشف مساراتها، وقد جاءت كلمة معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي أمين عام وزارة الخارجية التي ألقاها خلال ندوة حوارية حول “العلاقات العمانية-الفرنسية بين الأمس والغد” بمناسبة اختيار السلطنة ضيف شرف خاص” لمعرض باريس الدولي للكتاب ٢٠١٩، واعية بكافة الفروق بين العلم والمعرفة، ومؤكدة الوعي التاريخي الذي يحمله السيد بدر بن حمد البوسعيدي، فأن تكون واعيًا بأبعادك التاريخية هذا يعني وضوح الرؤية وثبات الموقف، وأما الإحساس الخالي من الوعي فهذا ما يجعلك تتخبط مؤمنًا بشيء دون القدرة على إثباته.
افتتح معاليه تلك الكلمة التي كنت أتابعها حرفًا حرفًا بحرفية عالية في عملية الاتصال الإنساني بين الأجيال ونقل المعرفة للوصول لفهم عميق للواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي، مؤمنًا من خلال كلماته بقيمة الشعراء والمؤرخين والمثقفين بشكل عام، إلا أن دوره ليس مقتصرًا على الكتابة فقط، فهم مقياس حضارة الأمم حيث قال مبينًا هذا الأمر: شعراؤنا ومؤرخونا يؤلفون الكتبَ وينشرونَها، لكنهم يشكّلون أيضا عنصرًا رئيسًا من تقليدٍ عريقٍ من التواصل الشفهي، ويشاركون في عمليةٍ اجتماعيةٍ بدأت منذ قرونٍ عديدةٍ تنتقلُ خلالـَها قَصصُ الـماضي وصُــوَرُهُ من جيلٍ إلى آخر.
أما حديث معاليه عن العلاقات العمانية-الفرنسية فقد كان أكثر عظمة لوجهين؛ الأول وجه عام وهو البعد التاريخي للعلاقة بين الجانبين العماني والفرنسي الذي يعود إلى منتصف القرن السابع عشر، مؤكدًا بأن الشعب العُماني ما يزال حتى يومِنا هذا يحتفي بالعلاقةِ التي استمرت عبرَ الأجيالِ مع فرنسا وأصبحت اليوم تنعكس وتتطور في مختلفِ نواحي الحياةِ ومجالاتِ التعاونِ بأبعادِها الدبلوماسية والسياسية والاقتصاديةِ والعلميةِ والثقافية، وأما الوجه الخاص فهو شخصي جدا لا ينطق به سوى صدري فقط وفهمي الخاص ولحظة التلقي الشعورية المرتبطة بي وهي لحظة القول بأنه “في القرن الثامن عشر، نمت التجارةُ العمانيةُ الفرنسيةُ بعدما أصبحت مسقط ميناءً متعاظمَ الأهميةِ بالنسبةِ للتجارةِ في منطقةِ المحيطِ الهنديّ. وفي عام 1775، قررت عمانُ منحَ فرنسا حقوقًا رسـميّــةً لإنشاءِ مركزٍ تجاريٍّ في مسقط، ثم منحتها في عام 1786، الحقَّ في تعيين ممثلٍ دبلوماسي”. نعم هذه هي القوة العمانية في ماضيها العميق وحاضرها الزاهر فهي التي تقرر ما تعطي ومتى تعطي الحق على أرضها، ليس انصياعًا ولا تخطب ودًا من أحد.
وبعد ذلك المرور العطِر على التاريخ العماني والفهم العميق والإيمان الكامل بدور المثقفين والأدباء يصل معالي السيد بدر بن حمد إلى الجزء الأخير من كلمته والذي توافق كليًا مع مقتضى الحال وهو “الكتاب” وكأنه كان ينطق بحال الكثيرين عما آلت إليه رؤية البعض للكتاب الورقي وسُلطته في عصر الكتب الإلكترونية ومجالات البحث الجديدة قائلا: “إنَّ لكلِّ ثقافةٍ، ولكلِ لغةٍ، ولكل مجتمعٍ علاقَته الفريدةَ والخاصةَ مع الكتاب” وقد صدق في ذلك، لأنه برغم التحديات العصرية التي يواجهها الكتاب الورقي إلا أن علاقتنا مع الورق ورائحته وأثرنا عليه يبقى أمرًا سريًا وسُلطةً خاصة لا يفهمها إلا الذي علقت بين أصابعه رائحة الورق، وترك على صفحاته أثرًا عاطفيًا، أو استنتاجًا وتأمل نفس تواقة للاطلاع، مؤمنة أن لا سقف للمعرفة والعلم، وأن كل كتاب نقرأه يمثل إحدى عتبات السلم المعرفي الذي نصعده دون انتهاء.
باريس 17/3/2019م