الشيخ حمود السيابي يكتب: في قصر العلّامة راشد بن عزيز وزير السلطان تيمور في سيب الظفر بسمائل

رصد – أثير

كتب الشيخ حمود بن سالم السيابي مقالًا عن زيارته لقصر العلامة راشد بن عزيز وزير السلطان تيمور الكائن في سيب الظفر بولاية سمائل.

“أثير” رصدت المقال من حساب الشيخ في فيسبوك وتضعه نصًا للقارىء الكريم.

“لم أشهدْ زمن العلامة الشيخ راشد بن عزيز الخصيبي ولكنني عشته حكاية جميلة على لسان أبي، وفصلاً تاريخياً نبيلاً من فصول الشموخ العربي.

ولم أعش عهد الرجل ولكنني شممتُ زمنه في نجله العلامة الشيخ محمد بن راشد الذي جلس على دكة المحكمة الشرعية بقصر العلم مع أبي والمشايخ إبراهيم بن سعيد العبري وهاشم بن عيسى الطائي وإبراهيم بن سيف الكندي. 

 

ورغم أن الحاتميين الذين يذبحون خيولهم لإكرام الضيوف قد غادروا البادية وانطفأت النيران التي تنادي الجياع، وطويتْ الصفحات الرومانسية الحالمة في الأيام العربية، إلا أن الشيخ راشد بن عزيز الخصيبي أعاد للصفحات العربية المنسية زهو الحبر، ولبادية العرب الشيم، ولخيام الصحراء الجمر، وللدلال القهوة السمراء، وللأباريق الإكسير القرمزي وتقارع الفناجين، فباع الشيخ بن عزيز خنجره الوحيدة في السوق لكي يشتري “دسوت” حلوى و”أمنان” قهوة “للفوالة” التي ستقدم للحضور في الاجتماع الحاشد بين أهل السفالة وأهل العلاية بجامع سمائل في زمن عمَّ فيه القحط وأهلك الجوع الناس. 

 

وقد ظنَّ أهلُ السفالة أن إخوانهم أهل العلاية هم الذين اشتروا القهوة والحلوى ليسجلوا السبق عليهم، وانتابت أهلُ العلاية الهواجس بأن أهل السفالة أحرزوا الهدف القاتل في المرمى، وأن بقهوتهم “تعشَّت” الدلال وتوزعت الفناجين، ليتضح الأمر للناس بعد وقت طويل من وقوعه بأن الشيخ راشد بن عزيز هو ذلك النبيل العربي الكتوم الذي باع خنجره الوحيدة لأجل “فوالة” دون أن يعرف المدعوون المضيف، تماما كما ذبح حاتم الطائي فرسه الوحيدة لإكرام ضيوفه. 

 

جاء العلامة الشيخ راشد بن عزيز الخصيبي إلى الزمن السمائلي عبر ثلاثة عهود من السلاطين هم تركي بن سعيد وفيصل بن تركي وتيمور بن فيصل، وقد تقلب في بلاط السلاطين الثلاثة من مدرس إلى والٍ إلى وزير للشؤون الشرعية في أول تشكيل وزاري في التاريخ العماني الحديث. 

 

ورغم جروح التاريخ التي تركت وشمها على الشيخ بن عزيز وباعدت بينه وسمائل التي أحبها إلا أن الفيحاء رغم تفهمها لمسألة تغريق الأموال التي فندها الشيخ العلامة عامر بن خميس المالكي قاضي قضاة الإمام سالم في أرجوزة امتدت لخمسمئة وستة وأربعين بيتا تناول فيها كل أقوال أهل العلم وساق فيها كل مبررات الحاكمين بالتغريق والتي رآها مستوفاة في ابن عزيز، ومع ذلك استمرت الفيحاء على محبتها للشيخ الخصيبي، واستمر بن عزيز أيقونتها النبيلة وحكايتها التي تتكرر في السبلات كعنوان للشهامة والجود. 

 

واستمر أبناؤه أقمار المجالس وندماء كبار العلماء، بل وأن أحد أبناء بن عزيز وهو الشيخ محمد نال ثقة الإمام الرضي الخليلي فقلده الولاية والقضاء على ولاية بدبد، إلى جانب عودة الرضي الخليلي مع بزوغ فجر عهده عن حكم التغريق وأمر بإعادة كافة أموال الشيخ راشد إليه.

أقف أمام قصر العلامة بن عزيز في سيب الظفر وقد تهشم المكان وتداعت الحيطان وجار الزمان على الزمان، إلا أن سيد المكان ما يزال يعزز أرصدته في الذاكرة السمائلية. 

 

هذا هو قصره الباذخ الخارج من التغريق بمعناه الشرعي أو التأميم بمعناه السياسي والباقي على شفير الوادي السمائلي يروي مجد قامة كبيرة كانت هنا، ومرجعية سمائلية ملأت المكان. 

 

أتأملُ الموقع فأقرأ بانيه الذي اختار له أن يتوسط الجغرافيا السمائلية كموقع سيد القصر الذي وضع نفسه دوما خارج الاصطفافات المناطقية بين السفالة والعلاية، فاختار موقعا لقصره حيث توشك السفالة أن تحصي آخر نخلاتها بقليل، وقبل أن تلوِّح نخلات العلاية للقادم من شرق البلدة بقليل. 

 

أدخلُ القصر الحزين القادم من القرن التاسع عشر الميلادي عبر دُرجة من ست رفصات ترتفع به عن الوادي فارتقيها لتصلني ببوابة كبوابات الحصون تتخللها “نقشة” للدخول فأقبض على حلق النقشة التي طالما قبضها الداخلين والخارجين. 

 

وتقودني نقشة البوابة إلى ردهة صغيرة تنتهي بصباح، فردهة أخرى فصباح، فدُرجة على يمين الداخل تصل الصاعد بغرف الطابق الثاني ثم الصباح الثالث الذي يفضي إلى فناء مفتوح للسماء ينتهى بدُرجة من ثلاث رفصات تقود إلى ساقية فلج بوغول التي تتدافع داخل القصر طوال الليل والنهار دون توقف منذ أول حجر رُصَّ على حجر في ساس القصر وإلى أن يشاء الله فيتداعى المكان على المكان. 

 

وتتوزع غرف القصر على جانبي الصباحات لتنتهي ببوابة خلفية كبيرة أخرى جهة الغرب تنفتح على حديقة تغزلها ساقية الفلج ومحاطة بسور من الحجر يربط الواجهة الغربية بالجبل. 

 

وتتكرر مرافق الطابق الأول بمرافق الطابق الثاني من غرف ومجالس، بينما تتيح النوافذ الكبيرة إطلالات على حصن سمائل جهة الغرب والمرِّية في الجنوب، بينما جهة الشرق مفتوحة بطول الوادي السمائلي بدءًا بالجبيليات فالصفا فآخر نخلة تشرب من الوادي. 

 

وقد خُصص للشيخ بن عزيز درجة حجرية تصل الباب الجنوبي للقصر والمسجد الواقع شرقي القصر عبر ممشى على “جديل” الساقية. 

 

وقد أُدْخِلتْ توسيعات على المسجد الذي يعرف اليوم بمسجد أولاد راشد بعد أن أعيد بناؤه ليشمل مجلسا كبيرا في طابقه الأرضي ثم قاعة للصلاة في الطابق العلوي فمكتبة كبيرة زاخرة بأمهات الكتب وعلى رأسها مؤلفات الشيخ محمد بن راشد. 

 

هنا .. وفي هذا القصر الشامخ عاش الشيخ بن عزيز أجمل سنين العمر فتركه مكرهاً لدواعي الوظيفة وللتشطير السياسي للوطن الواحد، لدرجة أن مساعي التقريب بين مسقط ونزوى والتي انتهت باتفاقية السيب وضعتْ بين شروطها التفاوضية شرط إعادة الأموال المغرقة للعلامة بن عزيز. 

 

وهنا .. تداخل القصر مع البلاط في مسقط ومع الحصن في تخت الأئمة وبيضة الإسلام. 

 

وهنا .. عاش الشيخان رشيد ومحمد فكتبا القصائد على خطى الأب الشاعر. 

 

وفي جنبات هذا القصر لمعتْ في ذهن الشيخ محمد فكرة القصيدة التائية الجامعة لشعراء عمان والتي باتت موضع الاستشهاد متى ما ذكر الشعر العماني والشعراء حالها حال نونية أبي مسلم التي يستشهد بها في أنساب القبائل ومقاماتها، وقد شرحها الشيخ محمد بن راشد في ثلاثة مجلدات شملت خمسة طبقات من الشعراء، وقد كتبها متنقلا بين قصر “سيب الظفر” ومسقط، وحملت عنوان “شقائق النعمان على سموط الجمان”. 

 

ومن إرث كنوز الكتب التي يزخر بها القصر صاغ أبو يعقوب كتاب “الزمرد الفائق في الأدب الرائق” الذي قدمه ببيتين من الشعر:

جميع الكتب يدرك من قراها

ملال أو فتور أو سآمه

سوى هذا الكتاب فإن فيه

بدائع لا تمل إلى القيامه

وهنا .. بقصر سيب الظفر درس يعقوب بن محمد قبل أن يستكمل دراسته في مصر. 

 

وهنا .. غمس أبو معاذ مرشد الخصيبي اليراع في ساقية بوغول ليكتب قصائده على نهج الأسلاف.

 

لقد بدا القصر حزينا وذلك حقه فكل الكبار غمدوا الأقلام ورحلوا. 

 

وبدت مواقد الولائم باردة فالذي يشعلها ليستحث الندماء للقدوم قد ركب دابته وتيمم شطر البحر لينام بجانب دقل شراع قديم بينما نخيل سيب الظفر تتحرق شوقا لعودته، ونارنج المرِّية يتيبس في أغصانه دون قطاف. 

 

وقبل أن أترك المكان نزلت في ساقية بوغول لأتوضأ، ومشيت حيث مشى بن عزيز إلى مسجد أولاد راشد لأصلي الظهر. 

 

وبينما الساقية التي تركها العلامة راشد بن عزيز ما تزال تجري كانت قصائده حديث سمائل العاشقة للكبار وللشعر وللشعراء. 

 

ومع كل فنجان في السبلة السمائلية تتسكب أبيات الشيخ راشد بن عزيز الخصيبي:

هات اسقني قهوة قشرية فضحت

بكر المدام وشنفْ لي الفناجينا

تدعو إلى نحو ما فيه البقاء ولو

تدعو إلى نحو ما فيه الفنا جينا

لو أن ألفاً أناخوا حول ساحتها

قصد النجاة رأيت الألف ناجينا

يا ربة الحسن جلينا حماك فإن

نسل فجودي وإن تدعو فناجينا

—————————————-

مسقط في الثامن عشر من مارس ٢٠١٩م.

*الصور معظمها من تصوير كاتب المقال والباقي من صفحة العلامة بن عزيز في التويتر وملفات جوجل.

Your Page Title