أثير- تاريخ عمان
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
برع العمانيون على مدى تاريخهم الطويل في العديد من المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية المختلفة، وقدموا للحضارتين العربية والإسلامية العديد من الإسهامات الفكرية المتنوعة في مختلف تلك المجالات، فظهرت سلسلة متواصلة من الشخصيات العمانية التي كانت أعلامًا مهمة بها.
ويعد المجال الأدبي من المجالات الكبيرة التي قدّم فيها أهل عمان الكثير من الإضافات والإسهامات منذ خطبائهم الأوائل زمن بداية الدعوة الإسلامية وما قبلها، مرورا بأسماء لا يمكن حصر إبداعاتها من أمثال الخليل، وابن دريد، والمبرّد، والستالي، والكيذاوي، والنبهاني، والدرمكي، وابن رزيق، وابن شيخان، والقائمة تطول كثيرًا.
“أثير” تقترب في هذا التقرير من أحد الدواوين الشعرية التي أخرجتها المكتبة العمانية خلال المائة سنة الأخيرة، والذي يمكن أن نعده شاهدًا على أحداث تاريخية عديده، بالإضافة إلى كونه يعبر عمّا وصل إليه الشعر العماني من تقدّم وإبداع، ونقصد به ديوان ” أبو الصوفي” للشاعر سعيد بن مسلم المجيزي.
“أثير”
الشاعر أبي الصوفي
هو الشيخ الأديب سعيد بن مسلّم بن سالم الجابري، وينسبه البعض إلى “المجيزّي”، وهي نسبة أوردها السلطان تيمور بن فيصل في تقديمه للديوان عند طباعته لأول مرة عام 1937 بأوساكا في اليابان، عاش في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ولد في بلدة الجيلة من أعمال ولاية سمائل عام 1281هـ، بدأ دراسته بقراءة القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة، ثم درس علوم اللغة العربية المختلفة التي وسّعت مداركه وأذكت مواهبه، ثم أصبح مدرسًا وأتقن علم الرسم.

شدّ رحاله في فترةٍ لاحقة إلى مسقط فاتخذه السيد بدر بن سيف بن بدر البوسعيدي أحد رجالات دولة السلطان فيصل بن تركي كاتبًا له وذلك لجودة خطه وبلاغة تعبيره، وكان مقربًا من السلاطين فيصل وتيمور وسعيد على التوالي، وتدل على ذلك العديد من الوثائق والقصائد التي يحتويها الديوان، كما وصفه السلطان تيمور بأنه ” شاعر الأسرة المالكة”.
توفي الشاعر ما بين عامي 1370 و1372 هـ.

ديوان أبي الصوفي
طُبِع هذا الديوان لأول مرة عام 1356 هـ الموافق 1937م، بمدينة أوساكا باليابان بمطبعة دار الطباعة الإسلامية العربية تحت اسم ” الشعر العماني المسكتي في القرن الرابع عشر للهجرة النبوية”، على نفقة السلطان تيمور بن فيصل، وأعادت وزارة التراث والثقافة طباعته عام 1982 مع زيادة بعض القصائد بتحقيق الدكتور حسين نصار، ثم أعيد طبعه عام 2004.

السلطان تيمور بن فيصل يطبع ديوان أبي الصوفي
استكمالًا لاهتمامه بالأدب والشعر العماني، قام السلطان تيمور عند وصوله لليابان في منتصف ثلاثينات القرن العشرين بطباعة ديوان الشاعر سعيد بن مسلم، حيث يقول السلطان في مقدمة الطبعة الأولى للديوان “.. وقد ساعدتني ألطاف الله وتوفيقه على طباعة ديوانه هذا وسميته الشعر المسكتي العماني في القرن الرابع عشر للهجرة النبوية، وتسنَّى لي طبعه في المملكة اليابانية ببلدة أوساكا التي هي أعظم وأهم بلدة بعد العاصمة. وقد تمّ الطبع في سنة ألف وثلاثمئة وست وخمسين للهجرة، مطابق سنة ألف وتسعمئة وسبع وثلاثين ميلادية، بمطبعة «دار الطباعة الإسلامية العربية»، لصاحبها منصور بن سليمان بن مرعي الكثيري الحضرمي”.
كما أشار السلطان إلى أسباب طباعة الكتاب بقوله: “فعزمت على تحقيق هذه الخاطرة بالفعل بإرادة اللَّه، فشمّرت عن ساعد الجِدّ، وليس القصد نشر المديح، لا وربّ الكعبة لا، ولكن القصد كما ذكرت، ولهذه الكلمات عسى يكون لها قبول، وهي حثّ رجال الوطن الكبار الأغنياء الميسورين الذين ينفقون أموالهم على غير معنى في هذا العصر…. فمثلاً لو ثُمن من تلك الأموال تتجمع بالاشتراك وتطبَع بها دواوين شُعراء عُمان القدماء والحديثين وتُنشر، لهبّ أهل عُمان بكل اشتياق لاقتناء شعر شعرائهم وأدباء بلادهم، ولتناقلتها الأيادي في الأقطار والبلدات (البلدان) المجاورة، ولتبقى محفوظة في خزائن المكاتب في الممالك، أليس الأمر كذلك؟ لا، بل أحسن وأفضل من أن يموت الشاعر والأديب العُماني ويموت شعره وذكره معاً! إلاّ من كانت معه نسخة من ديوان شعر أحدهم فهو محافظ عليها بين أثوابه لا أحد يعلم بها إلا اللَّه، والجرذان تأكلها!”.

ثم يمضي السلطان تيمور قائلًا “..أيها الأدباء المسكتية (نسبة إلى مسقط) العُمانية، أيها العلماء الأفاضل في داخل القطر، نبّهوا القادة من (ممن) لهم شعور لهذا الذكر الحميد، واطلبوا من الرؤساء والأغنياء طبع الدواوين الشعرية التي ليستغني بها القطر العُماني عن قراءة كل ديوان قديم أو جديد لغير الشعراء العُمانيين. وأنتم أعلم مني لما في الشعر من الحكم وتاريخ وفوائد الفصاحة والمواعظ والصبر. وفي شعر شعرائكم من البلاغة والأمثال ليس بأقل من غيرهم (إن من الشعر حكمة) فهبوا وتجرأوا في بيع أموالكم في بلادكم لأبنائكم لكي يتعلموا الأدب من أدبائكم الأفاضل..”
أقسام الديوان
ينقسم الديوان إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول يتضمن القصائد الخاصة بالسلطان فيصل بن تركي مرتبة على الحروف الهجائية، وعددها (26) قصيدة تقريبًا، أما القسم الثاني فيشتمل على القصائد الخاصة بالسلطان تيمور بن فيصل بن تركي، وعددها (41) قصيدة، ويتضمن القسم الثالث حولي (95) قصيدة أغلبها في مجال التخميس والتشطير مما يدل على البراعة الكبيرة للشاعر وملَكته الأدبية والشعرية.
أهمية الديوان
يعد الديوان بمناسبة سفرٍ توثيقيّ مهم، ذلك أنه تناول العديد من الأحداث المهمة التي تتعلق بتاريخ السلطنة خلال المائة سنة الأخيرة وما قبلها بقليل، ووصف لنا جانبًا من أوضاع الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية خلالها، وعرّج على موضوعات وأحداث ربما لم يتم تناولها من قبل، ومن بين تلك الأحداث: فتح بيت سليط على يد الوالي سليمان بن سويلم سنة 1323 هـ، وذكر بناء قلعة صور سنة 1319هـ، ووصف مقتل السيد سعود بن الإمام عزان بن قيس في قلعة الرستاق، ووصف رحلة السلطان فيصل من ظفار إلى مسقط وما حل بهم من أنواء مناخية في بحر العرب في ذي الحجة سنة 1324هـ واسم السفينة التي أقلّتهم ” نور البحر”، واحتمائهم بخور جراما قرب رأس الحد، وهو المرفأ الطبيعي الذي كانت تحتمي به السفن التجارية خلال أسفارها الطويلة.

كما يؤرخ أبي الصوفي لموت والي ظفار عبد الله بن سليمان الحراصي في قصيدة طويلة كتبها في “السياحة الظفارية” في العاشر من جمادى الثانية سنة 1342هـ، ويؤرخ كذلك لعودة السلطان تيمور بن فيصل من أوروبا ” اليورب” بعد المعالجة من المرض الذي يشكو منه، وذلك في يوم 19 شعبان 1347هـ.
كما وصف أبي الصوفي دخول الهاتف إلى مسقط عام 1328هـ في قصيدةٍ طويلة مدح خلالها السلطان فيصل، وتناول فيها المقارنة بين إنجازات الغرب “وانحطاط العرب عن درجة أسلافهم”، وهي قصيدة تحتاج إلى وقفة وتأمل كونها تؤرخ لحدث يعد مهمًا وقتها من حيث الأخذ بوسائل التكنولوجيا الحديثة، حيث إن دخول الهاتف إلى عمان لم يتم الإشارة إليه بشكلٍ واضح بحسب متابعتي واطلاعي البسيط.
كما وثّق أبي الصوفي لبعض الأحداث الاجتماعية في محيط الأسرة الحاكمة كقصيدته بمناسبة زواج ولي العهد (وقتها) تيمور بن فيصل من ابنة خاله السيد علي بن سالم بن ثويني سنة 1324هـ، وقصيدة أخرى يهنئ فيها السلطان تيمور بختان “نجله الميمون ولي العهد السيد سعيد بن تيمور” في السابع من شعبان سنة 1334هـ، عدا عن عديد من قصائد التهنئة بالمناسبات الدينية المختلفة.
كما يشتمل الديوان على قصيدة تاريخية يشير فيها إلى مرافقته للسلطان تيمور في رحلة الهند وركوبهم للقطار الذي أسماه بـ(الريل)، ومشاعره عندما فارق السلطان في طريق جوالير قافلين من دلهي في 25 جمادى الثانية سنة 1338هـ بصحبة القنصل الإنجليزي (ونجيت)، وأخرى بمناسبة قدوم السلطان تيمور من سياحة الهند سنة 1341هـ، وأخرى تصف عودة السلطان تيمور من ظفار إلى مسقط في المركب “السعيدي” بصحبة الوزير بروترام توماس، ووصولهم مسقط في الثالث من مارس سنة 1930، وقصيدة يودّع فيها جلالة السلطان في سفره إلى الهند ومهنئًا له بعيد الفطر في الثالث من شوال سنة 1342هـ ، و”القصيدة التاريخية في السياحة الرخيوتية” ويصف فيها زيارة السلطان للمناطق الجنوبية الغربية من ظفار ووصف عقبة جبل القمر وذلك في السادس من ذي القعدة سنة 1343هـ، ، وأخرى يصف فيها قيامه بمعيّة السلطان تيمور لعين أرزات بظفار، وتصدي جلالته في عمارة ظفار في 13 ذي القعدة سنة 1345هـ، وهذه القصيدة بها وصف “لحالة العمار والترقي والتمدن” لظفار.
كما يحتوي الديوان على قصائد تقترب من الحياة الاجتماعية وقتها مثل القصيدة التي يصف فيها الخيام والكلاب وأسماءها إبان خروج جلالة السلطان فيصل بن تركي للفرجة والقنص ببلدة قريات سنة 1318هـ، وقصيدة أخرى يصف فيها رحلة السلطان فيصل من قريات إلى بلدة السيفة للقنص والفرجة، ويتناول فيها حالة البحر ويودع الخيام المرتحلين عنها في ساحل قريات، وأخرى تصف ركوب السلطان تيمور للصيد في 3 شوال 1343هـ، وفيها يشير إلى شاعرية السلطان الذي بدأ القصيدة بشطرها الأول، ثم إكمال الشاعر لها حتى نهاية القصيدة.
كما يشير الديوان إلى مدى اهتمام السلاطين بالقضايا القيَميّة والأخلاقية للأمة العربية والإسلاميّة ومتابعتهم للوضع الفكري العربي العام، ويؤكد ذلك أمر السلطان تيمور بن فيصل للشاعر عام 1347هـ بنسج أبيات يرد فيها على إحدى قصائد الشاعر جميل الزهاوي الذي “انتصر فيها لمن شرع مذهب التبرج للنساء”.
كما يتضمن الديوان عددًا من قصائد التخميس والتشطير والمعارضة للعديد من كبار الشعراء العمانيين والعرب في العصور المختلفة كتشطير أبيات الشيخ ناصر بن سالم بن عديم البهلاني في قصيدة امتدح بها السلطان تركي بن سعيد فأمره السلطان تيمور بن فيصل بتشطيرها منوهًا بمعناها إلى ظفار، ومعارضته لبعض قصائد جميل الزهاوي، وتخميس أبيات لشعراء كبار من أمثال أبي الطيب المتنبي، وصفي الدين الحليّ، وابن رزيق، وسيف بن يعرب، والفارعة بنت طريف، وابن النحّاس، ومحمد رشيد رضا، ويلاحظ أن أغلب هذه التخميسات والتشطيرات كانت استجابة لطلب العديد من السلاطين والسادة والأعيان ومن بينهم السلطان فيصل بن تركي، والسلطان تيمور بن فيصل، والسادة علي بن فيصل، وملَك بن فيصل، وحمود بن فيصل، ونادر بن فيصل، وشهاب بن فيصل، والسيد هلال بن محمد بن سعيد، وأحمد الشبيلي، وغيرهم من السادة والأعيان مما يدل على ازدهار المُناخ الأدبي في مسقط وقتها، ومدى الاهتمام الكبير به.
المراجع
1- البسّام، خالد. يا زمان الخليج، ط1، دار الساقي، بيروت، 2012.
2- العياضي، ناصر بن سالم. شاعر من عمان..أبو الصوفي شاعر الدولة البوسعيدية، موقع السلطنة الأدبي، 15 يونيو 2010.
3- صفحة قلعة التاريخ في الفيسبوك، نبذة عن الشاعر أبي الصوفي، 25 نوفمبر 2013.
4- المجيزي، سعيد بن مسلّم. ديوان أبي الصوفي، تحقيق حسين نصار،ط2،وزارة التراث والثقافة،2004.