د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
مجلس الدولة
يشكل التعليم عالي الجودة قيمة مضافة في بناء الأوطان ونهضة الإنسان، وإنتاج واقع اجتماعي متجدد قادر على صناعة المنافسة وتوظيف الفرص، وقد أدركت الدول ذات الأداء التعليمي المرتفع هذه الأهمية للتعليم فوضعته في مقدمة أجندتها السياسية والاقتصادية والاستثمارية والتسويقية ، كونه مسارا منتجا للقوة ، مؤسسا للمهارة، مؤصلا للقيم، مجددا للدوافع، مؤطرا للمفاهيم، مقننا للأدوات، صانعا للخبرة، موجها للسياسات، محققا للتشريعات؛ وهو الطريق لبناء مواطنة المواطن وتجسيد انتمائه وولائه إلى ممارسة عملية وسلوك واقعي يفصح عن ما يحمله من فكر وجاهزية واستعدادات ورقي ذهني وسمو عاطفي وتصالح نفسي مع الذات والآخر.
ومع أن التعليم في البلدان المتطورة في أدائها التعليمي لا يخلو من تحديات وعقبات تواجه مسيرة تطوره ، وهي تختلف في نوعيتها وطبيعتها ومستوى تأثيرها على الأداء التعليمي، كنتاج لتنوع وتعدد واتساع المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية للتعليم، وارتباطه بالكثير من المتغيرات والتوجهات الوطنية، وتأثره بالتوجهات العالمية السياسية والاقتصادية ودور الفضاءات المفتوحة والمنصات التفاعلية، والتطور الحاصل في منظومة التعليم العالمية ومجتمع المعرفة التي سرّعت من قوة التغييرات، ووسعت من دائرة التطوير، وأعطت فرص اكبر لصناعة بدائل الحل، وتقديم مساحات أنشط للمراجعة والتقييم ، وهي أمور أفرزتها في الأساس طموحات الإنسان من التعليم والحاجة المستمرة إليه.
غير أن التنوع الحاصل في طبيعة هذه التحديات كان إيذانا بالتفكير خارج الصندوق في توفير أرضيات صناعة الحلول وانتاجها مع المحافظة على سقف التوقعات عاليا، بشأن قدرة هذه الحلول على إعادة مسار الأداء لصالح الإنسان : وعيه وانتاجيته وأخلاقه ومواطنته وإيجابيته، وأن تتخذ مؤسسات التعليم العالي والمدرسي والجامعات الأكاديمية والمهنية مسارات محددة ونهج واضحة وآليات عمل مقننة في طريقة المعالجة، والآليات التي ينبغي أن تنتجها مؤسسات التعليم وجهود القائمين على رسم وتنفيذ البرامج التعليمية في طريقة معالجة التحديات : أهدافها وغاياتها ومساراتها ونواتجها، وهو ما قد نفتقده في طريقة معالجاتنا لتحديات التعليم، إذ ما زالت المعالجة تدور في حلقة مفرغه، دون وضوح مسار العمل من أين نبدأ وماذا نفعل وإلى أين ننتهي.
ولعل عقدة التشخيص وضعف الأدوات وتنازع الاختصاصات والتهرب من المسؤوليات وتدني مستوى الرقابة على التعليم أحد مسببات هذا الترهل الحاصل في معالجة تحدياته ، ولم يكن لدينا اليوم تصنيف واضح حول تحديات التعليم والأولويات التي يجب أن يفصح عنها والأجندة التي يجب أن يبحر فيها أو يعالجها، كما أن وضوح معايير العمل ومؤشرات الأداء ليست بالشكل الذي يصنع القوة في رصد تحديد التحديات والحسم فيها ، لذلك ظلت المعالجات تراوح مكانها في اكثر الأحوال، وأعين المنظرين التعليمين أو من يرسمون سياسات التعليم ما زالت تتجه إلى الموازنات المالية باعتبارها التحدي الأكبر الذي يعرقل قراراتهم أو يحد من مساحات الاستثناءات المنوحة لهم على الرغم من احتضان هذه المؤسسات للمئات بل الآلاف من الكفاءات والخبرات والتجارب والموارد والمبادرات والإنجازات التي تشكل الرأس المال الاجتماعي البشري، الغائب عن معادلة المراجعة والتصحيح.
إن المشهد العالمي في التعليم يشير اليوم إلى دخول قضايا أخرى وأولويات يجب أن يقرأ فيها التعليم مساحات القوة وهيبة الإنجاز وكفاءة المنتج؛ غير الموارد المالية، ومؤسسة تحتوي هذا الكم من الثروات والموارد قادرة – إن أحسنت عمليات الإدارة والتنظيم ووجهت عمليات التطوير والتحسين فيها لصالح صناعة الفارق – قادرة على أن تصنع منها موارد أكثر ، وأن تتجه السياسات التعليمية بمدخلاتها وعملياتها نحو إعادة هندستها بشكل يتوافق مع المتغيرات العالمية، ليتربع على عرش هذه القضايا كفاءة التشريع والقوة التحفيزية والضبطية والرقابية والأدائية والمهنية والاستثمارية، إذ هي المدخلات لتحقق روح التعليم المنتج في الواقع العملي، لتصبح رباعية التعليم المشار إليها في تقرير أمة في خطر، حاضرة في المنتج التعليمي، ولتضيف جميعها إلى الهوية الوظيفية والقناعات المهنية والحس المسؤول الذي يظهر في مستوى المواطنة والانتماء والولاء الوظيفي والمسؤولية المهنية والدافعية المهنية وثقافة الموظف وحس التجديد والتطوير الوظيفي لديه، استحقاقات قادمة تستدعي معالجات نوعية تتسم بالتكاملية والتشاركية وتأخذ في الحسبان مدى وضوح أدوات العمل ومنهجيات الأداء ومستوى التفاعل الحاصل في منظومة التعليم مجتمعه داخليا وخارجيا، في إطار عمل مؤسسي مشترك يتسم بالاستدامة والابتكارية والديناميكية وفاعلية التنسيق وكفاءة الثقة والتشخيص الفعلي والتحليل النوعي المتسع الذي يقرا التحديات بعمق وينظر لها من زوايا عدة تتجاوز ذاتها إلى علاقتها بالأداء التعليمي والجودة في الممارسة التعليمية ومجتمع التعليم ذاته، للخروج برؤى واقعية وأدوات عملية للحل ومعالجات مبتكرة تتناغم في تحقيق مساراتها الامكانات وتدعمها الموارد.
ويبقى وضوح مسار الأداء نحو كفاءة المعالجة والاقتناع بما تحققه على مسار نواتج التعليم، مرهون بقوة الضبطية والمسار الرقابي والتشريعي الذي يعمل فيه التعليم وقدرته على توظيف معادلة تفاعل مدخلات الخبرة والتجربة والتنافسية ومؤشرات الأداء والجودة ووضوح غايات التعليم في كل المراحل والتطبيقات العملية لها؛ منطلق لرسم معالم التغيير وصناعة بدائل الحل، وتوجيه بوصلة العمل، وتوحيد الجهود، وبناء أطر محددة في التعامل مع التحديات مع الاحتواء الفاعل والمؤطر للخبرات الميدانية والقيادات المهنية الواعية في ميدان التعليم.
وبالتالي تناول البدائل والخيارات المدروسة والمخططة في ظل مستوى الانجاز النوعي المتحقق منها، مراعيا في ذلك متغيرات عدة، تتعلق بوقت الانجاز ومستوى تحقق المعالجة وارتباطها بالأداء التعليمي ونوعية الدعم المتحقق، ومستوى التفاعل الذي يقترب من البديل أو سيناريوهات العمل المعدة في هذا الشأن، ولذا كان لا بد في النظر إلى أي معالجة لقضايا التعليم وتحدياته أن تنطلق من مواقف التعليم وأحداثه السابقة كمدخل للتغيير وإدارة هندسة عمليات الواقع، وأن تنظر لواقعية الحاضر وإرهاصاته ومؤشراته ودلالاته ومساراته باعتبارها مدخلات استراتيجية تتفاعل خلالها القناعات والأفكار مع كل خطوات التنفيذ ومراحل العمل، مع استحضار العوامل المؤثرة في المجال أو موضوع التحدي، والمؤثرين الفاعلين فيه في ميدان التعليم أو الواقع الافتراضي والتأثير المجتمعي والعائلي في سياسات التعليم وقراراته ، وتصبح كفاءة عمليات الاستفادة من الخبرات والتجارب والمبادرات الفردية والجماعية الخيار الداعم لأي توجه نحو إعادة هندسة العمليات التعليمية.
عليه تضع هذه التحديات مؤسسات التعليم أمام تحولات استراتيجية هيكلية وتنظيمية وإدارية وتشريعية متناغمة مع الغايات الوطنية الكبرى وأولوياتها في التعامل مع أرصدة التعليم واشكالياته المرتبطة بالمواطنة والتشغيل والباحثين عن عمل والثقة في الكفاءة الوطنية، في ظل نماذج عمل تطبيقية واستراتيجيات أداء مبتكرة تعزز فرص نجاح أدوات التعامل مع التحديات وتبويبها وتصنيفها وتحديد أولوياتها وبناء القدرات والمواهب وتمكين الخبرات وتعزيز الابتكار وفرص التجريب، وتعميق الجودة في الممارسة والإجراءات، وسرعة البدء في اتخاذ سياسات الدمج أو اعادة الصياغة أو التجديد في المنظومة الحالية وتهيئة الرأي العام لذلك، والبدء بحوارات وطنية مكثفة وشراكات استراتيجية، ومسارات مقننة في المعالجة الشاملة لسياسات التعليم، عبر مختبر التعليم الذي نقترح أهمية وجوده في صناعة تحولات أكبر في مسار المعالجة وآليات العمل وتقنينها ليضيف في صفوفها أفرادا ومؤسسات ومراكز بحث وارشاد وتوجيه، ومنصات للتحليل والتشخيص والدراسة والمقارنة، والحوار والنقد والتجريب والتصحيح، وبناء مؤشرات واقعية للأداء، ومنح مساحات أكبر للنقاش والرصد في إطار علمي منهجي مدعوم بالإحصائيات والشواهد والبدائل ونواتج العمل ونتائج الممارسة حتى يكتب لهذه المعالجات النجاح والاستمرارية.
ويبقى أن نشير إلى أن وجود مجلس التعليم اليوم في هرم المنظومة التعليمية بالسلطنة، باعتباره المرجعية الوطنية الحاضنة لمؤسسات التعليم، فرصة يجب أن تستثمر بشكل أفضل في بناء مدخلات القوة في تشخيص تحديات التعليم ومعالجة مشكلاته وتوفير البدائل والخيارات الاستراتيجية الداعمة لصناعة التحول والوقوف على واقع التنفيذ وأدوات العمل وكفاءة الممارسة، وتبني إطار عمل وطني شامل تعتمده مؤسسات التعليم في معالجة تحدياتها منفردة أحيانا ومجتمعة أحيانا أخرى بحيث يؤسس لمدخلات المعالجة وأدوات العمل وآلياته وكل المرحل المرتبطة به ليكون بمثابة موجه استرشادي للوصول إلى حلول ناجعة عبر إذكاء مشتركات التناغم وتقريب وجهات النظر بين مؤسسات التعليم ومدخلاته وعملياته، وتقف بشكل مباشر على واقع العمل المؤسسي من خلال كفاءاتها وخبراتها وما تمتلكه من موارد وكفاءات علمية وتشريعات واضحة، وان يتجه عمل المجلس بعد المبادرات التي اثبت حضوره فيها – الاطار العام لاستراتيجية التعليم 2040- نحو الرقابة والتقييم وتبني استراتيجيات تشخيص البدائل وإنتاج الأدوات وتجريبها وإنتاج الحلول، وفرض سلطة الأمر الواقع في التعامل مع أي انحرافات حاصلة في الممارسة التعليمية، وتبقى جاهزية تقديم البدائل وتجريبها مدخل لقراءة مستوى الاستعداد الفكري للقائمين على مؤسسات التعليم في تقبل الاخر – من يفكر خارج الصندوق- وحضوره في مشهد القرار التعليمي، والمساحة الممنوحة له في رسم ملامح التغيير وجعله واقعا ملموسا، ومدى حضور الممارسين في ميدان العمل والمتابعين والمهتمين والشركاء وغيرهم في القضايا المطروحة للنقاش، للخروج برؤية واضحة في معالجة قضايا التعليم وتحدياته. فهل ستسهم الجهود القادمة في حلحلة هذه التحديات وإعادة فرزها بطريقة أكثر ابتكارية في قراءة طموحات مجتمع التعليم ومخرجاته؛ وهل سيوفر الحراك القادم للتعليم محطات تأمل ومختبرات عمل وفرص للمنافسة، وتقديم أفضل الممارسات كشاهد اثبات لبدء تجربة المعالجة لقضايا التعليم وفق قاعدة التفكير الجمعي والعمل الفريقي الواحد، أم سيظل التفكير في إطاره الضيق وتستمر سياسة المعالجة في حلقة مفرغة دون ان يكون لها تأثير على أرض الواقع، تدوير للأفكار وترديد لها وخطابات رسمية لرصد التحديات التي تواجهها مؤسسات التعليم ليس إلا ، في حين أن يستهدفهم التعليم – مخرجات التعليم- يعملون في إطار واسع ويمتلكون رؤية أوسع وروحا أكثر تجديدا وحيوية.