د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
فرضت جائحة كورونا ( كوفيد19) على العالم واقعًا جديدًا وتحولات جذرية في كل قطاعات الحياة والإنتاج، ويعد قطاع التعليم من بين أكثر القطاعات المتأثرة من انتشار فيروس كورونا، والتي تحتاج إلى المزيد من الوقفات والمراجعات في سبيل إعادة بنائه بما يتوافق مع معطيات المستقبل وإنتاجه بطريقة أكثر ابتكارية ومهنية والتزامًا تتناغم مع ما أفرزه كورونا من مواقف وأحداث وما أوجده من فرص واستراتيجيات وما وضعه من خطط وسياسات وما فرضه من قرارات وإجراءات، والحديث عن تأثير كورونا في التعليم ينبغي أن يقرأ من أكثر من زاوية ويعالج من أكثر من منحى، وينظر للمستقبل بعين فاحصة تتسع لتشمل كل مدركات الإنسان الحسية والمعنوية والأخلاقية والمهارية وما يتعلق منها بالهوية والعيش بأمان في ظل ظروف صعبة وعوامل متغايرة، فمع انقطاع الطلبة عن الدراسة وتعليقها ومنع وصول أكثر من مليار ونصف طالب حول العالم إلى مدارسهم، نظرًا لما فرضه كورونا من أنماط اجتماعية جديدة عبر التقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي والجسدي وهو مما يصعب تحقيقه في بيئة المدرسة والصف الدراسي وذلك للكثافة الطلابية الكبيرة التي تعانيها المدارس حول العالم .
ومع الأثر الذي يحدثه انقطاع الطلبة عن الوصول إلى مدارسهم وجامعاتهم ومقاعد دراستهم، إلا أن العالم في ظل ما يعيشه من ميزة التقنية والاتصالات والفضاءات المفتوحة وتقنية الذكاء الاصطناعي، أتاح مساحات إيجابية أوسع وفرصًا أكبر عزز من دور كورونا الإيجابي كداعم للتعليم ومساند لإحداث التغيير فيه والتحول النوعي في هيكلته وبنيته وقضاياه وأدواته ووسائله وأساليبه وآليات عمله واستراتيجيات أدائه وخططه وبرامجه ومناهجه وطرائقه وأنشطته ومحتواه وأهدافه وغاياته بما يتناغم مع طبيعة المرحلة والمستجدات التي يعيشها مجتمع اليوم جراء جائحة ( كوفيد19)، وهو الذي ينبغي أن تتجه فيه الجهود إلى البحث عن الممكنات والفرص والأدوات التي قدمها كورونا للتعليم وساهم خلالها في إعادة توجيه التعليم وتحسين مساره بعد فترة انحرف فيها عن النهج واتجهت الممارسة التعليمية إلى الشكليات وضاعت الذائقة الجمالية للتعليم عبر تزايد فاقد العمليات المتكررة وانحسار المهارة والتطبيقات الميدانية التجريبية للتعليم.
وعليه يبرز في المشهد التعليمي القادم حضور فاعل للتعليم عن بعد وتعزيز منصات التعليم الإلكتروني ، والتحول إلى الكتاب والمحتوى الإلكتروني ، والاهتمام بالمحتوى الإلكتروني وإعادة تنظيمه وترتيبه وصقله وتهيئته للمتعلم وقدرة الأخير على استشعار أهمية المحتوى وما يقدمه من معلومات وخبرات ومواقف وكأنه يعيش الموقف بكل تفاصيله ويتفاعل مع الحدث بكل معطياته كما لو كان في غرفة صف مغلقة، هذا الأمر بلا شك يستدعي تقوية دور التقنية وتوظيفها في خدمة التعلم عن بعد وتوجيه الأخير إلى رسم ملامح إيجابية تظهر في عمليات التعاطي الإيجابي الطلبة ومجتمع المتعلمين مع ما يبث عبر هذه المنصات فيتفاعلون معه ويستثمرون فيه قدراتهم واستعداداتهم وإنجازاتهم للوصول إلى مستوى عال من التعليم يضمن تحقق الفهم والوعي والاستيعاب وقراءة الأحداث وتشخيص الواقع كما يضمن حصولهم على حقوقهم بشكل عادل في عملية التعلم، وبالتالي أن لا يفهم من مسالة تبني مسار التعليم عن بعد ترك الأمور للتقنية في تحديد مصير الطلبة أو هندسة سلوكهم الاجتماعي والفكري بطريقة تتوافق مع المعايير والشروط التي تفرضها عليهم دون مساحة حوارية تبرز فيها قدرة المتعلمين على التعاطي مع موقف التعليم ومعايشته وفهم الدلالات التي يحملها في حياة المتعلمين، بما يؤكد أهمية أن تكون العلاقة بين التقنية والطلبة قائمة على استقراء مساحة الشعور الذي ينطبع على سلوك المتعلم وهو يتابع هذه المنصات، إذ المسألة أكبر من كونها مرسل ومستقبل فقط، بل عليها أن تأخذ مسارات أخرى ترتبط بشخصيات المتعلمين وقناعاتهم ومستوى استيعابهم للموقف التعليمي ووجود حوارات داخلية تقرأ ظروف المتعلم واحتياجاته ومستوى واقعية التفكير والشعور لديه بما يساعده على تحقق نواتج هذه التقنية على حياته وتفكيره، وهو أمر يرتبط بمستوى الابتكارية في الطرح والمهنية في التقنين وكفاءة المحتوى وطريقة التدريس وحضور شخصية المعلم والممارسين الآخرين في عرض الموقف التعليمي، ومدى توفر التشريعات والقوانين والضوابط والمعايير الداعمة في هذا الجانب ومنع أي انحرافات قد تؤثر في فقه المتعلم وقناعاته ورؤيته للواقع الحقيقي يتسبب فيها العالم الافتراضي، والتقنية قد تشوه صورة التعلم في ذهن المتعلم أو يقرأها بصورة أخرى تنعكس سلبًا على مستوى تفاؤله بقيمه التقنية والتعليم عن بعد وأهميتها في حياته وتأثيرها على جانب الشغف والاهتمام وحب التقنية عنده، وما قد يجره المنظور الضيق في التعاطي مع التقنية والتعلم عن بعد من اختلالات في موازين الهوية والقيم والأخلاقيات وإدارة المشاعر، بما تفرضه من واقع جديد يقوم على التنمر وعدم قبول الآخر والأثرة والأنانية وحب التملك للمعلومة والسيطرة على الأفكار، وضعف مستوى تقبل المتعلم للنقد والتوجيهات.
وبالتالي التوجه نحو بناء سياسات تعليمية معززة لثقافة التعليم عن بعد ووضع الطالب في صورة مكبرة للمستقبل القادم ومعطيات التحول التي فرضتها جائحة كورونا ( كوفيد19) وتهيئته النفسية والفكرية والأدائية في التعامل مع المحتوى الرقمي عبر توفير البرامج الداعمة لهذا التحول والقادرة على خلق التأثير والدافع في سلوك المتعلم وقناعاته في التحول من التعليم داخل غرفة الصف وقاعة الدراسة إلى التعليم عبر التقنيات الذكية، بحيث تأخذ عملية التحول المرجوة في الحسبان قيمة التفاعلات الداخلية وتأثيرها النوعي في تكوين بيئة تعلم نموذجية محاكية للواقع الفعلي، بما يعني نقل التعليم الإلكتروني من كونه حالة وقتية وأداة مفروضة لتحقيق التعلم إلى محطة إنتاج تعليمية ومساحة أمان متجددة وإضافة جديدة في تنوع البدائل وتعدد المسارات بحيث يستطيع المتعلم أن يعبر فيها عن رأيه وأن يختار محور تعلمه بنفسه، ويصنع خلالها مساحة حوارية تفاعلية في استجلاء شخصية الطالب وسلوكه ومستوى استيعابه وفهمه للمحتوى التعليمي، وما يتعلق منها بفنيات المحتوى الرقمي ومستوى ما يحمله من مرافئ الذوق والإيجابية والنماذج والأمثلة التي يستطيع المتعلم أن يسترجعها في مواقفه الحياتية، وإدخالها في المناهج الدراسية وتأصيل مفاهيمها ومفرداتها ومبادئها ومعطياتها في المحتوى بصورة أكثر عمقًا، من حيث توجيه المحتوى التعليمي إلى تعزيز المهارات الحياتية الأساسية التي أفصح كورونا عن حاجة مختلف شرائح المجتمع إليها، وتجسيدها في ممارسة مهنية مقننة تعمل أدوات التعليم على تقييم مستوى تقدم الطالب فيها ومؤشرات استيعابها، ومساحة التحول والتجديد الذي تحمله طريقة تدريس المتعلم لهذه المهارات وتعريضه لمواقف محاكاة عملية في تطبيقها وطريقة استخدامها.
أخيرا يطرح واقع التحولات القادمة مراجعات تطال بنية التعليم ومساراته وأنواعه ونواتجه وقبل ذلك غاياته وأهدافه واختصاصات كل مرحلة فيه وأدواته ومدخلاته وعملياته الداخلية، مرورًا بهيكلة التعليم ووظائفه وتشعب مؤسساته وتعدد مستوياته ومراحله، فإن الظروف الناتجة عن كورونا ورؤية عمان 2040 وخطاب عمان المستقبل الذي وضع التعليم كأحد أهم الأجندة لبناء عمان المستقبل وأعطى مساحة تستشرف مراجعة تشريعاته وقوانينه وثقافة عمله وموجهات أدائه وفلسفته لتدخل في عمق تخصصاته ومهاراته وبرامجه، بما يؤكد أهمية البدء في رسم ملامح العمل الوطني الموجه للتعليم وإدخال تغييرات جذرية في بنيته الأدائية وهيكلته التنظيمية، آخذة في الاعتبار مكتسبات كورونا ( كوفيد19) ومعطيات رؤية التنويع الاقتصادي واقتصاد الأزمات التي أوجدها التذبذب والانحسار الحاصل في السوق النفطية.