د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
لم تعد جائحة كورونا ( كوفيد19) مجرد حدث عابر في حياة البشرية، بل هي مرحلة فاصلة في التاريخ، وعلامة فارقة على تحولات كبرى يشهدها العالم في العقود القادمة. مرحلة تصنع من فيروس كورونا مدخلات للتحول ومنطلقات للتغيير، ستظل لاصقه في فكر البشر وقناعاتهم، متأصلة في سياسات حكومات العالم القادمة، إلى أن تأتي جائحة أخرى تفوق في تأثيرها ما أحدثه كورونا من ارتباك عالمي وقلق لم تشهده في تاريخها الماضي رغم الحروب والأزمات، ذلك أن ما تعيشه البشرية من تغيرات في أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية اليومية التي أدت بدورها إلى تغييرات غير مسبوقة في مفاهيم العيش وأساليبه وطريقة التفكير وأولويات العمل العالمي، والجهود المبذولة في الحد من تأثيرات كورونا على الاقتصاد العالمي، وعلى الأمن الإنساني والكيان البشري، يصنع من كورونا مدرسةُ حياة مصغرة، لها مناهجها واستراتيجياتها وخططها وبرامجها وسياساتها وأنظمتها التي تندمج في مكونات الحياة وتفاصيلها اليومية، وتوفر البيئة المؤسسية والتشريعية والتنظيمية التي تتيح لمخرجات هذه المدرسة القدرة على العيش في ظروف صعبة، والتوافقية في عالم متشائم مضطرب، وإذا كان الأمر كذلك، فإن على العالم أن يقرأ ما تحمله تفاعلات هذه المدرسة وأجندتها، وما تنسجه خيوط التقاطع الحاصلة بين سطور القضية من أحداث ومواقف، فيدرس تفاصيلها ويفهم مغازيها، ويبتكر أدواتها ويستقرئ أحداثها، ويستحث خطى البحث والابتكار والاكتشاف والاختراع في توفير العلاج لفيروس كورونا، والحد من استمرارية تأثيره على حياة الإنسان واستقراره، ويوفر الممكنات النفسية والمهارية والأدائية والفكرية والجسدية وغيرها، التي تضمن صياغة مخرجات تحمل روح المسؤولية وتتعاطى مع مستجدات الوضع العالمي بكل مهنية واحترافية.
وبالتالي تصبح عملية البحث في مناهج مدرسة كورونا تجسيد عملي لهذه الأحداث، واستيعابها لحجم المنعطفات والمطبات، واستقرائها أرضيات النجاح؛ للوصول إلى قيمة تنافسية عالية الجودة، تصنع من هذه المرحلة الفاصلة محطة جديدة في بناء ثوابت تطوير مناهج التعليم وأدوات بنائها وفلسفة عملها، وإنتاج نظريات تعلم وتعليم عالمية جديدة تتناغم مع ما تركته مدرسة كورونا من بصمات على الأرض وأصلته من حقائق ومبادئ وإحصائيات ومؤشرات في مختلف مجالات الحياة، وإنتاج البدائل والحلول والمعالجات المبتكرة التي لا مجال للتنازل عنها أو تأخير العمل بها فيما يتعلق بالتعليم والتدريب الذاتي، والتعليم عبر المنصات الإلكترونية وعن بعد، والتوظيف الأمثل للتقنية في إنجاز المعاملات وبيئة الأعمال والتسوق الإلكتروني، والاعتماد على النفس والتثمير في الموارد الوطنية والبحث العلمي والابتكار وترقية ثقافة الادخار، وتنشيط مراكز البحث وتعليم المهارات وتحقيق مبدأ التعليم في الظروف الصعبة والمسؤولية الاجتماعية للتعليم، والتأكيد على دور التعليم في تحقيق الوعي المجتمعي والإنتاجية المقرونة بسقف عال من المعايير والاشتراطات والالتزامات، وتوجيه التعليم نحو تجسيد هذه المدخلات في واقع حياة المخرجات، وإيجاد البدائل الداعمة لتطبيقها في الواقع، والتثمير في المهارات الذاتية، والتثمير في الرصيد القيمي والأخلاقي الموجه لصناعة التغيير الذاتي وإصلاح النفس وترقية المناعة النفسية، وتركيز الاهتمام بالتطبيقات العلمية لمحتوى المنهج وربطها بالواقع، واعتماد أسلوب التجارب وحل المشكلات وبناء استراتيجيات العمل على المستوى الشخصي والأسري والمجتمعي، والانطلاقة من الخريج محور التغيير ورهان الوعي ومسار التحول، وإعطائه دورًا نشطًا في بناء معرفته القادمة، وتعاطيه مع الظروف المستجدة والثقة فيه، وتقريب صورة الواقع ومستجدات الحدث ومنعطفات التغيير، مستفيدًا من تجاربه ومعارفه السابقة وميوله في صناعة الفارق، وغيرها من المعطيات المرتبطة بمدخلات مدرسة كورونا.
على أن هذه التكاملية في قراءة مخرجات هذه المدرسة في ظل ما تؤسسه من بدائل وتنتجه من فرص ونجاحات قادمة كنتاج لعمليات المشاهدة والمعاصرة اليومية للأحداث في أبعادها النفسية والفكرية والمهارية والإنتاجية، تعطي المنظومة القيمية والأخلاقية للمنهج موقعها الهام وحضورها الفاعل في عمليات التغيير القادمة وبناء شخصية المواطن وإنتاج مواطن الأزمات الذي يمتلك خطوط التأثير، والاحتواء وإدارة الظروف والأحداث والأزمات ويقف أمام المؤثرات السلبية الداخلية والخارجية الناتجة عن التهويل والإشاعة والتباين المعرفي موقف القوة موظفًا بذلك الممكنات والقدرات التعليمية العليا، كالتحليل والنقد والتصحيح وحس الاختيار والانتقاء للمعرفة الرصينة والفكرة المبتكرة في إعادة إنتاج الواقع، لذلك فإن التوقعات القادمة بأن تؤسس نواتج مدرسة كورونا لبناء نظام تعليمي قادر على رسم استحقاقات المستقبل، ويعيد توجيه مسار التعليم الحالي بصورة أكثر تفاؤلية وإيجابية ومواءمة للواقع متناغمة معه، بحيث تتكيف منهاج مدرسة كورونا – مدرسة المستقبل- وبرامجها الداخلية وأنشطتها الموجهة مع مبدأ تلبية الاحتياجات والتوافق مع الميول وحفز مخرجات هذه المدرسة نحو إنتاج بدائل ومستلزمات وحلول للواقع الناتج عن كورونا، منسجمة مع التوقعات والطموحات التي تحفظ مكاسب كورونا وتعيد إنتاجها عبر برامجها وأنشطتها وعبر تعريض المتعلمين لمواقف محاكاة للواقع.
وبالتالي تنطلق رؤية مناهج مدرسة كورونا من جملة المعايير التي أصبحت تميز المشهد العالمي في بناء المناهج وتحقق الجودة فيها، وتعكس ارتباطها بواقع الحياة في ظل قراءة شاملة واعية، تتسم بالعمق في التعاطي مع منظومة البناء الفكري والوجداني للمخرجات، باعتبارها محور الأداء ومعيار المنافسة، لتتجه إلى تأصيل البعد الإنساني في أهداف المنهج وفلسفة عمله وتطبيقاته، لتشمل مجمل التجارب والخبرات والمواقف التي تعيشها المخرجات في محيط هذه المدرسة وخارجها، مما يؤسس لمرحلة متقدمة في تعزيز التعلم المنتج المعزز للقيم والاتجاهات والمهارات.
أخيرا تبقى مناهج مدرسة كورونا إطارًا لبناء هوية تعليم المستقبل، في كيفية تأطير معطيات الواقع واستنطاق معالمها في مناهجه بحيث تعكس طبيعة التحول في المحتوى النوعي لها، وأنشطة التقييم والمراجعة عبر نقل التنويع في المسارات التعليمية والخطط الدراسية والمساقات الإثرائية إلى برامج عمل وتطبيقات حياتية، تعزز من حضور فرص الابتكار والاختراع وقواعد السلوك وتفعيل المهارات الحياتية، عبر ربطها ببرامج وتجارب وتطبيقات عملية وورش إنتاج ومختبرات للتجريب، وتعظيم قيمة التحولات الحاصلة في المفاهيم والمفردات والتفاعلات والأحداث في إنتاج مواقف الحياة، لتنعكس على طريقة تناول المناهج للقضايا العالمية والمشتركات في مواجهة كورونا وطريقة اختيارها لها، وانتقائها للمحتوى والأشكال التعبيرية التي تجسدها والنماذج والخبرات والتجارب التي ترصدها في صناعة البدائل وإنتاج الحلول للأزمات، وإعداد المتعلمين للعيش في ظروف صعبة وعادات مختلفة، آخذة في الاعتبار ما أفصح عنه الواقع من تدني امتلاك مناهج التعليم لمداخل التأثير ومفاتيح الإجابة عن التساؤلات التي طرحها كورونا في واقع حياة المتعلمين.