مبارك بن محمد الخوالدي- محامٍ وباحث ماجستير في القانون الجنائي بجامعة السلطان قابوس
لاقت قضية دخول المساكن الخاصة جدلًا واسعًا في الآونة الأخيرة، ومما لا شك فيه أنّ المتتبع لنصوص القانون العماني يتلمّس مدى الحرص الشديد الذي أولاه المشرع؛ لصون حرمة المساكن، والحفاظ على خصوصيتها كونها حرزًا حصينًا يقي صاحبها من غيره، يحفظ فيه أسراره ويصون به عرضه، ويستمتع فيه بتفاصيل حياته بتفرد.
نبدأ من النظام الأساسي الذي رسّخ مبدأً عامًا بعدم جواز دخول هذه المساكن دون إذن أهلها إلا في الأحوال التي يعينها القانون، مرورًا بقانون الجزاء الذي رتّب عقوبات في مواجهة من يتعدّى على حرمة هذه المساكن، وانتهاءً بقانون الإجراءات الجزائية الذي أورد جُملةً من الاستثناءات على هذا المبدأ ورسم حدودها.
وعموماً فإنّ شريعتنا الإسلامية هي المرجعية الأولى في تقرير وحفظ حقوق الإنسان بما فيها المساكن الخاصة، وهذه المرجعية التي جعلها النظام الأساسي مصدرًا وأساسًا للتشريع، أفردت للمساكن منظومة حصينة، منظومة أرادها الله أن تكون منهجًا لكافّة النّاس في تقدير حرمة هذا الحق، فعندما يُشرَع لمن يُطّلَع على بيته أن يفقأ عين من أطلع، وعندما يأمرنا الشرع بإتيان البيوت من أبوابها وأن نرجع إذا لم يؤذن لنا فوق الثلاث، وعندما تؤكّد آيات القرآن على الاستئناس والاستئذان حتى من أهل ذات البيت، نعلم يقينًا أنّ المسألة عظيمة، وإدراك عامّة الناس لعظمتها في هذه الحقبة قد لا يتأتى إلا بوجود تنظيم قانوني يجرّم من يعتدي على هذه الحرمة.
فمن المسلم به أنّ رضا وإذن صاحب المسكن هو الأساس الجوهري لمشروعية الدخول، وأمّا الدخول بخلاف ذلك يشكل جريمة، سواء أكان الدخول من الأفراد العاديين أو من الموظفين، إذ لا تفريق في شخص من يتعدى على هذه الحرمة. واستدل بذلك قيام الشبهات حول بعض موظفي الكهرباء لدخولهم المساكن دون رضا وإذن صاحب المسكن، وتم إحالة بعضهم إلى القضاء للمحاكمة.
الشاهد في هذا الطرح أنّ نصوص قانون الجزاء جرّمت دخول المساكن الخاصة دون رضا من له الحق في المنع من الدخول، إضافةً إلى التعويض الذي يمكن أن يطالب به الأخير، وعلاوة على إمكانية توقيع بعض العقوبات التبعية والتكميلية الواردة بنص المادة (57) من قانون الجزاء، نجد أنّ القانون الأخير رتّب عقوبة حبسية تصل إلى سنتين، وقد تشدّد وتصل إلى ثلاث سنوات؛ إذا ما تزامن مع دخول المسكن ظرف مشدّد، كظرف الليل أو التسلق أو التسور أو الكسر، أو إذا كان الجاني حاملًا لسلاح أثناء الدخول أو في حالة تعدد الجناة كدخول شخصين فأكثر أو إذا انتحل الجاني صفة عامة أو ادعى أنّه يقوم بوظيفة عامة، كزعمه أنّه موظف الكهرباء ويعزم على قراءة العداد.
تتتابع نصوص القانون مؤكدةً على خصوصية المساكن حتى في إطار تحريك الدعوى العمومية، فالفرد هو من يقدر حجم الضرر الذي تعرض له نتيجةً لدخولِ منزله الخاص ومدى أثر ذلك على انتهاك خصوصيته، وترتيبًا على ذلك يكون هو الأول في استفتاح إجراءات المسائلة القانونية، ذلك أنّ مجرَّد ارتكاب فعل الدخول غير المشروع لا يجيز للإدعاء العام تحريك الدعوى العمومية بشكل تلقائي في مواجهة الجاني، إذْ أنّ سلطة الإدعاء العام مقيّدة بتقديم شكوى من المُجني عليه أو وكيله الخاص، فإذا ما باشر الإدعاء العام تحريك الدعوى العمومية دون مراعاة لقيد تقديم الشكوى قضت المحكمة بعدم قبولها، وكذا الحال إذا ما قُدمت هذه الشكوى من شخص ليس له صفة في تقديمها، والحال لا يختلف إذا ما تمّ تقديمها بعد مرور ثلاثة أشهر من تاريخ علم من له الحق في المنع من الدخول بارتكاب هذا الفعل.
مُحصّلة هذا القول أنّ تقديم الشكوى من صاحب الصفة خلال الميعاد الزمني هو الجوهر الشكلي في إمكانية اقتضاء الحق في العقاب.
ومن الوقائع التي طُرحت أمام القضاء وأثار فيها التساؤل حول تحقق شرط الصفة، قيام زوجة باستئجار منزل للحياة الزوجية، ثم قيامها بإدخال شخص غريب فيه، فما مدى أحقية زوج المستأجرة في رفع الشكوى رغم أنّه ليس هو المستأجر الفعلي للمنزل، بمعنى ما مدى تحقق الصفة في تقديم الشكوى، القضاء العماني حسم هذا التساؤل فقضى بتوافر الصفة لدى الزوج في تقديم الشكوى، حتى وإن كان هذا المنزل مستأجر من قبل الزوجة، على اعتبار أنّ الزوج هو ربّ الدار، وأنّ المنطق العادي للأمور يقتضي عدم إدخال أشخاص غير مرغوب فيهم من قبل ربّ الدار؛ ودونما اعتبار للعلاقة الزوجية بين الطرفين.
في الجانب الآخر من هذا المقال وتحقيقًا لمقتضيات السياسة الجنائية الحديثة التي تحفظ التوازن بين العدالة والأمن، وبين حماية خصوصية المساكن، فقد وردت هناك استثناءات على إمكانية دخول الأفراد العاديين أو مأموري الضبط القضائي للمساكن الخاصة في حالات معينة دون الحاجة لإذن أو رضا أصحابها، وقد تجد هذه الاستثناءات مصدرها حتى في الشريعة الإسلامية باختلاف طبيعتها، ولربما تكون لنا وقفة أخرى لبيان تلك المواضع.
أباح القانون دخول المساكن الخاصة في حالة الضرورة، وحالة الضرورة كما عرّفها القضاء العماني “ظروف تحيط بشخص أو أشخاص معينين تهدده أو تهددهم بخطر حال لا سبيل على تفاديه إلا بارتكاب الجريمة” . ويُفهم من ذلك أنّ حالة الضرورة تقتاد الفرد لدخول المسكن دون أن يكون لإرادته دخل في وجودها، وأن لا يكون بوسعه دفع الخطر الحال الناتج عن حالة الضرورة بوسيلة أخرى غير الدخول، كوجود حريق بمنزل شخص حتّمت عليه الضرورة تسلق الجدار ودخول منزل جاره بغية النجاة بحياته.
ورغم أنّ هذا الاستثناء ورد بقانون الإجراءات الجزائية، إلا أنّ قانون الجزاء بطبيعة الحال إلى جانب صغر السن والجنون والسكر والتسمم بالمخدرات والإكراه، جعل حالة الضرورة مانع من موانع المسؤولية الجزائية، بمعنى أنّ الشخص لا يُسأل جزائيًا إذا ما ارتكب فعلاً مجرمًا قانونًا واستُثني من الحالة الأخيرة جريمة القتل، استناداً لنص المادة (٥١) من قانون الجزاء.
وقد تنصرف أذهان البعض إلى استبعاد قيام حالة الضرورة في واقع الحياة، بل وأخرجوها من دائرة التصور العقلي، بيد أنّ واقع الحال يسرد قصصًا عجيبة طُرحت أمام القضاء ودفع فيها أصحابها بتحقق حالة الضرورة، وما ينبغي الإشارة إليه في هذا الإطار أنّ عبء الإثبات في تحقق حالة الضرورة من عدمه يقع على من يدعي وجودها، وللمحكمة بعد ذلك أن تعمل سلطتها في تقدير تحقق قيامها وفق ملابسات وظروف القضية.
تضمّنت نصوص قانون الإجراءات الجزائية حالة استثنائية أخرى على المبدأ العام وهي حالة طلب المساعدة من الداخل، وهذا الطلب يعبّر عن رضا من له الحق في المسكن، وبالتالي ينتفي معه القول أنّ هناك اعتداء على حرمة الحياة الخاصة، فمن يطلب المساعدة من الجيران لنقل أغراض معينة أو يطلب مساعدة العمال لمباشرة إصلاح في المنزل أو يسمح للمارة بالدخول لوجود حالة حرجة لمريض لديه، ليس له أنّ يتمسك بتحقق التعدي على حرمة حياته الخاصة إلا في حالة التجاوز الفعلي لحدود الطلب.
كما أباح القانون دخول المساكن الخاصة عند تحقق حالة التلبس بجريمة، كقيام الشخص بالسكر بجنب عتبة الباب على نحو يتيح للعامة مشاهدته، أو شُوهد وهو ينقل جثة شخص إلى داخل المنزل أو القيام بممارسات غير مشروعة قانوناً داخل المسكن، في هذه الأحوال يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يدخل المنزل ويضبط المتهمين ويتحفظ على الأدلة، وعمومًا يكون له من الصلاحيات الإجرائية ما هو مقرر لقيام حالة التلبس بضوابطها.
في بعض الأحيان يمكن للفرد أن يرتكب جريمة إلا أنّه يهرب فارًا ليختبئ في منزله أو منزل آخر، سعيًا منه للإفلات من قبضة العدالة، في هذه الحالة يجوز لمأمور الضبط القضائي دخول مسكن الشخص المطلوب شخصيًا أو حتى أي مسكن آخر إذا وجدت قرائن قوية على وجود الأخير فيه؛ بغرض القبض عليه سواء بموجب إذن القبض في جرائم الجنايات والجنح المعاقب عليها بالسجن أو قيام حالة التلبس لذات النوع من الجرائم، ومن الأمثلة الحاضرة في الوقت الراهن عدم الالتزام بالإجراءات والتدابير المقررة لمنع انتشار العدوى أو محاولة نقلها للعامة، وهذه التجاوزات تخوّل مأموري الضبط القضائي استصدار أمر بالقبض على المخالف، وبالتالي إمكانية دخول المساكن الخاصة تبعًا لذلك تنفيذًا لهذا الإذن، كونها جرائم من نوع الجنح المعاقب عليها بالسجن بموجب نصوص قانون مكافحة الأمراض المعدية وتعديلاته. وبطبيعة الحال لا حاجة لهذا الإذن في حالة التلبس بالجريمة.
بيد أنّ الدخول المشروع هنا يكون مقصورًا على البحث عن المتهم للقبض عليه ولا شي غير ذلك، والبحث عن المتهم في المنزل يجب أن يكون منصبًا على الأماكن المتصور أن يكون فيها بما يتوافق مع العقل والمنطق، ودخول المسكن للقبض على المتهم من الاستثناءات الواردة على الأصل العام تضمنته نص المادة (٤٥) من قانون الإجراءات الجزائية، واستقرت عليه أحكام المحكمة العليا وهو ما يدخل في عِداد ما يعرف بنظرية الضرورة الإجرائية.
ومن الاستثناءات التي أوردها المشرع لدخول المساكن الخاصة تضمينًا الإذن الصادر من الإدعاء العام بتفتيش المنزل، وتفتيش المنزل حتى وإن كان يختلف في الطبيعة عن مجرّد الدخول إلا أنّه يفترض دخول المنزل ابتداء، والإذن بتفتيش المنزل يفترض تحقق ضوابط وشروط قانونية حتى يكتسب شرعيته، وهذه الشروط حددتها المادة (٨٠) من قانون الإجراءات الجزائية، كضرورة صدوره مكتوبًا من الإدعاء العام، وأن يحدد المكان المراد تفتيشه، وأن يكون سببه اتهام موجه لشخص يقيم فيه بارتكابه جريمة من نوع جناية أو جنحة أو اشتراكة في ارتكابها، أو حتى وجود قرائن تدل على أنّه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة، وعدم جواز تنفيذ إذن التفتيش بعد مرور سبعة أيام من تاريخ إصداره.
كما أنّ هناك بعض الإجراءات اللصيقة بهذا التفتيش كجواز استعمال القوة، ووجوب مراعاة العادات والتقاليد في حالة وجود نساء بالمنزل، ومدى ضرورة حضور المتهم أو أشخاص معينين أثناء التفتيش من عدمه. والحديث عن القواعد الفنية الملازمة لإجراء التفتيش تحقيقًا لأغراض التحقيق الجنائي، تحتاج إلى مقال منفرد لتفنيدها وبيان أثرها الجوهري في تغيير مسار القضية.
خلاصة القول وبغض النظر عن العقوبات المقررة قانونًا لمخالفي الأحكام المنظمة للمساكن الخاصة، فإنّ علينا نحن كأفراد وموظفين أن نستشعر قدسية هذه المساكن، وأن ندرك ضرورة تقدير حرمتها، تحقيقًا للمراد من وجودها كما قال المولى عزّ وجل عنها ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)، وهذه السكينة والراحة لا تتحقق في تلك المملكة الخاصّة بالأفراد إذا ما كانت الأفعال مخالفة للشرع والقانون، لذا فلنكن حريصين.