د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
مع كل التغيرات الحاصلة في منظومة الجهاز الإداري للدولة تتجه الأنظار إلى التعليم عالي الجودة باعتباره الحلقة الأقوى في بناء معادلة التوازن لقراءة استحقاقات المرحلة المقبلة والتغييرات التي يجب أن تحدث في فكر وثقافة وقناعة وسلوك المواطن وأبجديات العمل والتعامل ومنطلقات التفكير وفرص الاختيار في إشارة إلى أن الوصول بها إلى حيز التطبيق الرصين والتجسيد العملي لها في واقع حياة المجتمع والمؤسسة والفرد والمنظومات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى بحاجة إلى مواطن يمتلك العلم والمعرفة والوعي والثقافة والفكر والرؤية وإدارة التغيير وإنتاج القوة وتقييم الواقع وتشخيص الحالة العمانية، إنها بحاجة الى تحول في مسار التعليم ودوره ونمطه وأسلوبه وأدواته وآلياته ومؤسساته، بحيث يقف على سياساته وبرامجه وخططه ورؤيته في التعاطي مع احتياجات المواطن وفي تنفيذ رؤية عمان 2040 وفي قراءة مسوغات الأحداث معطيات الواقع الجديد في ظل إعادة هيكلة المنظومة الإدارية للدولة، فيصنع من هياكله التنظيمية وبنيته المؤسسية نموذجا عمليا في الأداء الفعال والممارسة الوطنية الهادفة.
وعلى الرغم من أن التعليم العالي قد يكون نال حظا أكبر وفرصا أوسع في أشرعة التغييرات الهيكلية من التعليم المدرسي، إلا أن بناء عمان المستقبل تقرأ في عمومية التعليم ومراحله منظومة عمل وطنية واحدة، فالتغييرات التي اتجهت إلى منظومة التعليم العالي ليست ببعيدة عن التعليم المدرسي ولا تعفيه من استدراك مسؤولياته وتشخيص واقعه وبناء قدراته وتجديد موارده وتحسين مساراته وتصحيح انحرافاته وتوحيد جهوده، فإن ما تركته أحداث كورونا ( كوفيد19) من تساؤلات وعلامات استفهام حول مستوى حضور التعليم في واقع المواجهة، وما ارتبط بها من معطيات السلوك والمهارات وإكساب الطلبة العادات الصحية السليمة وعادات النظافة الصحيحة وغيرها كفيلة بتغيرات مساراته وإعادة توجيه أهدافه وغاياته، ذلك أن بناء عمان المستقبل لا يعني مجرد تغييرات في الهيكل التنظيمي والتقسيمات القطاعية بالوحدات الحكومية أو تغييرات في شخوص رؤساء الوحدات الحكومية من وزراء أو وكلاء وزارات ومن في حكمهم ، بل المقصود به ما يستهدفه تغيير الهيكل المؤسسي من تحول في الممارسة ورقي في السلوك وعصرنة في الأسلوب والآليات والأدوات وتأطير منهجي لأولويات العمل واستراتيجيات الأداء وعمق في استيعاب الخطط والبرامج للمشهد الوطني في القطاع، إنه بمعنى آخر تغيير في عمق التعليم ومحتوياته ونواتجه وقدرته على إحداث الإلهام في المخرجات التعليمية وإحداث تحول في سلوك العاملين بمؤسسات التعليم من أكاديميين ومعلمين وإداريين وموظفين وعاملين وغيرها من الوظائف الأخرى، وبالتالي أن يأتي التحول الحاصل في منظومة التعليم ملبيا للاحتياج، متناغما مع الهدف، متواكبا مع رؤية عمان 2040، صانعا لمحتوى تعليمي اكثر ابتكارية وجودة وإلهاما واقترابا من الواقع، متجسدا في قدرته على بناء المهارة وإنتاج الحياة وتوفير الخيارات المناسبة واكساب المتعلمين فرص بناء مشروعهم الحضاري القادم المتجه لعمان، واضعا مسار إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة بما يستهدفه من تعزيز منظومة الكفاءات وترقية السلوك في أولوية عمله وأن تجد الموجهات والأطر التي رسمها الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم حضورها في أروقة التعليم ومناهجه ومساراته وبرامجه وخططه والعمليات الإدارية اليومية الحاصلة في مختلف التقسيمات الوزارية وعلى مستوى المديريات التعليمية بالمحافظات والمدارس.
من هنا كان على منظومة التعليم المدرسي بشكل خاص أن تقرأ في هذا المسار مرحلة عمل أخرى تعيد النظر في كل الممارسات السابقة التي أنتجت بعض الإخفاقات او التحديات في بعض الملفات المرتبطة بالتعليم، وعبر إعادة هيكلة مسار الممارسة التعليمية وضبط القرار التعليمي وإعادة هندسة السلوك اليمي والعمليات الإدارية اليومية بالمدارس وتوظيف الموارد، وتوجيه مواردها والاستثمار في الممكنات والفرص المتاحة لها، ونمط الإدارة وأسلوب العمل وأليات التعامل مع التحديات وتحقيق تميز ملموس في مؤشرات التقارير الدولية حول جودة التعليم، بما يستدعيه ذلك من تحول استراتيجي في تعزيز مفاهيم الرقابة والمحاسبية والمساءلة والنزاهة وتأكيد قيم الأمانة والمصداقية واحترام المال العام، وتوفير مظلة المراجعة المستمرة للأداء وابتكار الأدوات الضابطة للسلوك الإداري التعليمي، ومعالجة الفاقد والهدر التعليمي، وتبني سياسات أكثر انضباطا ومهنية وقوة في التعاطي مع تزايد التحديات المجتمعية المرتبطة بخصوصية التعليم والظروف التي يعيشها أو احتياجات أولياء الأمور ومطالبهم من الحافلات المدرسية واستيعاب الطلبة وجاهزية المدارس والمناهج، بما يضع التعليم المدرسي أمام فحص وتدقيق واستقراء ومراجعة وتشخيص وتحول في كل محطات أدائه واستراتيجيات عمله، بما ينعكس إيجابا على مدخلات التعليم العالي وقطاعات الاقتصاد والاعمال والمال والتشغيل والاستثمار.
أخيرا فإن تحقيق تحول على مستوى الإدارة وأساليب العمل وأدوات التعامل مع الموارد والفرص، والتأكد من وجود انتقال ممنهج في الممارسة التعليمية تتفاعل مع مقاصد الهيكلة، بحاجة إلى المزيد من التقييم والتصحيح والمراجعة وتشخيص الحالة التعليمية عبر منظومة محاسبية تضمن توفير التشريعات والقوانين الضابطة لمسار القرار التعليمي والاختصاصات الوظيفية، وإعادة توجيه البيت الداخلي التعليمي بما يرسم الآمال القادمة منه، ويعيد انتاج المسارات الهاملة التي لم تستثمر بعد في التعليم المدرسي خاصة ما يتعلق منها بالتعليم عن بعد والتعليم المدمج والتثمير في الموارد والكفاءات وصناعة القدوات وانتاج القيم والمواطنة والاستثمار التعليمي واقتصاد التعليم والانتاجية التعليمية، أو تلك الملفات التي ما زالت تشكل تحديا يبرز قصور التعليم المدرسي عن سبر استحقاقات المرحلة المتعلقة باستيعاب المدارس للمعلمين من مخرجات التخصصات التعليمية الوطنية والدولية، وتزايد أعداد مخرجات الدبلوم العام الباحثين عن عمل، والتحدي المرتبط باستقطاب المعلمين الوافدين في المدارس الحكومية، او الإشكاليات المتعلقة بالحافلات المدرسية وقانون التعليم وملفات أخرى، لتضيف إلى منظومة التعليم المدرسي اجندة عمل كثيرة بحاجة إلى معالجة جادة وفق رؤية عمان المستقبل وما رسمه الخطاب السامي من مسارات وأدوات لنقل التعليم من حالة التكرارية والنمطية إلى الابتكارية في إدارة الموارد وبناء الممكنات وصناعة الحلول وإنتاج الفرص وتجريب البدائل بما يعيد النظر في كل الممارسات السابقة التي وضع المجتمع عليها علامات استفهام كبرى، فهل سيواكب التعليم المدرسي استحقاقات المرحلة؟، وهل ستثبت الممارسة التعليمية القادمة قدرتها على صناعة الفارق في ظل التغيير الذي نال هيكلية منظومة التعليم المدرسي؟