فضاءات

د.راشد البلوشي يكتب: “باعتِ الأرضَ في شراءِ السمادِ”

د.راشد البلوشي يكتب: “باعتِ الأرضَ في شراءِ السمادِ”
د.راشد البلوشي يكتب: “باعتِ الأرضَ في شراءِ السمادِ” د.راشد البلوشي يكتب: “باعتِ الأرضَ في شراءِ السمادِ”

د. راشد بن علي البلوشي- أستاذ اللغويات المشارك- جامعة السلطان قابوس

لقد حاولت كثيرا ألا أكتب في هذا الموضوع، لكني لم أستطع التوقف عن التفكير فيه (وهل يستطيع أحدٌ ألا يفكر فيه؟)، وأرجو ألا يساء فهمي، فالمقال ليس اعتراضا على من طبّعوا، لأنه لا يحق لنا الاعتراض على أفعال الآخرين طالما أنها كانت ضمن حقوقهم السيادية (وخصوصا أنهم أعلنوا أنها ضمن علاقات الصداقة والسلام التي طالما آمنا بها)، لكن يجب علينا من واجب الأخوة الإسلامية أن نسأل الله تعالى لهم خير هذه العلاقات (مع الكيان الصهيوني) وخير ما فيها وخير ما بعدها وأن نستعيذ به جلت قدرته لهم من شر هذه العلاقات وشر ما فيها وشر ما بعدها.

عنوان المقال هو شطر بيت من إحدى قصائد الشاعر اليمني العظيم عبدالله البردوني، رحمه الله، بعنوان “إلا أنا وبلادي”. ولذلك أكتب هذا المقال للتحذير من أن الخسائر ستكون أكبر من المكاسب في حال قررت دولة أخرى التطبيع مع الكيان الصهيوني (ولا أظن أن ثمة مكاسب في التطبيع معهم، “يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا”، والغرور هو الخداع والباطل).

أولا، أود أن أشرح مسألة ليست بالبسيطة مرتبطة بلفظة “التطبيع” التي تُترجم بلفظة “normalization”، والتي تشير إلى أن المقصود من علاقات التطبيع هو إقامة علاقات دبلوماسية وأمنية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها، كاملة مع البلد العربي (أو غيره)، أي إن لفظة “normalization” تعطي الانطباع بأن المراد من إعلان البدء في هذه العلاقات هو أن يتعامل البلد العربي مع الكيان الصهيوني في هذه المجالات المختلفة كما يتعامل مع أي بلد عربي أو إسلامي آخر. وهذا هو المفهوم العام لمصطلح “التطبيع” ومرادفه الإنجليزي “normalization”، أي إن الأمور ستصبح “طبيعية” أو “normal” أو “طيبة” في التعامل مع الكيان الصهيوني.

لكن لفظة “التطبيع” في مفهومها في اللهجات الدارجة (ولا أظن الصهاينة غافلين عن هذا، بل أظن أن هذا كان هدفهم منذ البداية) تشير إلى “عملية تربية الأطفال والتنشئة الاجتماعية وتعليم النشء السلوك المراد أن “يتطبّعوا” به في تعاملهم مع الآخرين وفي طريقة تعاطيهم مع ما يدور حولهم”، أي ما يُعرف في اللغة الإنجليزية بلفظة “socialization”، وهو ما يُرسّخ لإنشاء ثقافة جديدة (في الدول المُطبِّعة) يُحدد معالمها الطرفُ ذو الثقافة الأكثر جاذبية وبريقا، والتي تعتمد على الماديات والتحلل من الالتزامات (الدينية والاجتماعية) والسعي وراء المُتع والمسليات.

إن الهدف الخفي وراء “التطبيع” ليس إقامة العلاقات مع الحكومات، لأن العلاقات بين الكيان الصهيوني وكثير من الدول العربية قائمة، على مستويات رسمية مختلفة وبدرجات متفاوتة من الحميمية، ولأسباب مختلفة، كالتواصل معهم من أجل إدخال المساعدات للأراضي الفلسطينية المحتلة أو للوساطات من أجل التهدئة، أو لمآرب أخرى! والصهاينة يعلمون أن الحكومات والحكام يذهبون ويأتي غيرهم، لكن الهدف هو تغيير تفكير الشعوب وثقافة أجيالها المتعاقبة وأسلوب تعاطيها مع القضايا المختلفة، وأهمها قضية القدس والأقصى، حتى يتقبلوا ما لم يتقبله أسلافهم ويرضوا بما لم يُرضِ المناضلين الذين ضحوا بدمائهم من أجل القضية الأم.

فالتطبيع هو “تغيير الطبع، وما يشمله ذلك من تغيير في الأخلاق والقيم والمبادئ والمواقف وكذلك تنشئة الأولاد، من أجل الآخر”، وفي هذه الحالة فإن الآخر هو الكيان الذي اغتصب الأرض وقتل الحرث والنسل وهدم البيوت واغتصب المقدسات، ولذلك فإن نتيجة التطبيع ستكون حتما سيئة بالنسبة للمطبِّعين لأن المطبَّع له، أي المراد أن ندخل معه في علاقة التطبيع، لم يُعطِنا سببا وجيها واحدا كي نرغب في التطبيع معه، فقد عُرِف سابقا بنقض العهود والمواثيق وحاليا بهدم البيوت وقتل الأطفال في أحضان آبائهم. ومهما كانت المكاسب كبيرة (والدلائل تقول بأننا خاسرون لا محالة في علاقة التطبيع مع الكيان الصهيوني) فإن من سيحقق هذه المكاسب ليس نحن، المرابطون على الحق القابضون على الجمر، وإنما أُناس آخرون، تطبّعوا للصهاينة (أي “غيروا طبيعتهم” فاكتسبوا الطبيعة التي تناسب الصهاينة وترضيهم وتعينهم على تنفيذ مخططاتهم)، فباعوا الأرض كي يشتروا لها سمادا، باعوا الطُهر كي يشتروا فضلات الحيوانات، باعوا الأرض المباركة (“الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ”) من أجل أن ترضى عنهم شياطين الجن والإنس. فهل لا زلنا نرغب في التطبيع، رغم إيماننا بأن التطبيع سيغيرنا وسيجعل منا الصهاينة الجدد؟ باختصار، بغض النظر عن المكاسب فإن نتيجة التطبيع بالنسبة لنا هي خسارة أنفسنا بكل مكوناتنا الدينية والتاريخية، فما هو المكسب إذا خسرنا أنفسنا؟

ثانيا، في الحقيقة فإن في هذا (التطبيع أو عدمه) اختبار لإنسانيتنا وتديننا معا، وذلك لأن مناصرة صاحب الحق على المغتصِب هو المحك لأنه المراد من هذه الحياة الدنيا برمتها وهو جوهر الإسلام، وهو ما نادت به الشرائع السماوية المتعاقبة. فهو اختبار لعقيدتنا ومروءتنا. باختصار، هل سنقف مع صاحب الحق في النفس البشرية (وهو الله تعالى، خالقها ورازقها) الذي يريد إصلاحها لتكون سببا في إصلاح غيرها من البشر، أم سنقف مع من يريد اغتصاب إرادة هذه النفس البشرية (إبليس) بعد أن اتخذ على نفسه عهدا أن يفسدها وأن يجعلها سببا في إفساد غيرها، “لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119)”، الآيات من سورة النساء. وبتعبير آخر، فإن مناصرة صاحب الحق على المغتصِب هو المعيار والدليل على صدق الإيمان من عدمه، وما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلا رمز للصراع الأزلي بين الخير والشر، فمن ناصَرَ الخير كان مآله خيراً بإذن الله، ومن ناصر الشر كان مآله شرا والعياذ بالله.

ثالثا، وإذا كان لنا من عذر في عدم القيام بواجب المقاومة العسكرية أو محاولة تحرير المسجد الأقصى ونحن في هذه الحالة من الضعف والهوان، فلتكن مقاومتنا بعدم التطبيع وعدم إعطاء العدو مكاسب سياسية أخرى. ذلك أن في هذا خيانة لما قُدم من دماء وتضحيات لكي يبقى الأقصى لنا وكذلك نكوص وتراجع عن مواقف أسلافنا في مناصرة الحق، وتراجع حتى عن مواقف بعض السياسيين العرب المتأخرين الذين عاصروا حرب 1948 وحرب النكسة وحرب 1973. فإذا كانت خيانة الوطن والأمة تسمى خيانة عظمى فإن خيانة الدين أعظم من ذلك، فهي رِدّة. ولذلك إذا تنازلنا وطبّعنا واعترفنا للكيان الصهيوني بكل ما يريد، فستصدق فينا الآية الكريمة، التاسعة والخمسون من سورة مريم، حيث يقول تعالى “فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا”، و “الصلاة” في هذه الآية الكريمة ترمز إلى المسجد، والمقصود هنا المسجد المغتصب (المسجد الاقصى) الذي وجب الالتزام بتحريره، و “اتباع الشهوات” يرمز إلى ما عند الصهاينة من مُغريات. وإذا صدقت فينا الآية الكريمة، فسيحق علينا ما تنص عليه من عقاب، وهو “الغي”، ويعني الخسران، وكأنه جلت قدرته يتوعد من سيضحّون بالمسجد، وهو رمز عماد الدين (الصلاة)، طلبا للمكاسب من الصهاينة، يتوعدهم بالخسران. و”الخسران” كلمة تعني “الخسارة العظيمة”، أي خسارة الدنيا والآخرة، ذلك أن الحرفين الأخيرين من هذه الكلمة (ان)، وهما ما يميزها عن كلمة “الخسارة”، يفيدان تأكيد المعنى والمبالغة فيه وأحياناً الجمع للتضخيم (كما في الفرق بين “عطِش” و “عطشان”، وبين “سَلوى” و “سُلوان”، وبين “جنة” و “جنان”، وبين “إنس” و “إنسان”).
وحتى لا يُساء الفهم هنا، فأنا لست ضد اليهود الإسرائيليين الحقيقيين الذين ينتسبون لإسرائيل (سيدنا يعقوب) عليه السلام ويؤمنون بشريعته ويعملون بها، لكني ضد الصهاينة منهم وكذلك ضد الخزر (السبط الثالث عشر) وضد المتصهينين من الذين كفروا من أهل الكتاب وكذلك مِن مَن ينطقون بالشهادتين ولكن أفعالهم تناقض الإسلام وتحاربه في كل جبهة وساحة. فهل سنرضخ لترهيب وترغيب هؤلاء ونسعى لإرضائهم، ونضحي بمستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة، كما فعلت غيرنا من الأمم، أم سنصبر ونصابر مع أصحاب الحق (والحق هو الله تعالى)، ذلك أن التطبيع ليس فقط قرارا على المستوى الرسمي لإقامة العلاقات، وإنما تحوّل كبير على المستوى الشعبي يرافقه تغيّر تدريجي في ما يخص الثقافة السائدة والتنشئة الاجتماعية والثوابت الدينية. يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم “مَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي فَلَهُ أجر مائَة شَهِيد”.


Your Page Title