أثير : مكتب صلالة
كتب – سهيل العوائد
بكلماتٍ صادقة ومشاعرٍ حانية وأمانٍ حالمة، ما بين مناجاةٍ ورجاءٍ ودُعاء، يبدأ الشاعر محمد بن سالم بن أحمد العوائد دبرارته في ابنه عزام حيث يقول :
“إد حلدار ليبري عزام يُنجف عيديد
لشنك بيري من أغيور عق أحجار اتهديد
تمثيل إذهن بمحجئ أحرف إذطيب إتخديد”
حيث بدأ الشاعر الـ”دبرارت” بالدعاء لابنه بالصحة والعافية وطُول العمر، وأن يُبعد الله عنه المرض والتعب والكدر، وأن يراه دائمًا بخيرٍ وعافية، يتقدم قومه وهو لسانهم وسيفهم وفارسهم يذود عنهم، ويُنير لهم الطريق ، وقد تمكّن الشاعر هنا من ترجمة مشاعره الأبوية الصادقة إلى قصيدةٍ شعريةٍ تُسمّى محليًا “دبرارت” حيث عبر فيها الشاعر عن حنينه وحبه وأمنياته لنجله البِكر أن يعيش في سعادة وعافية بين أهله ووطنه حيث يقول الشاعر :
“إد حلدار ليبري عزام ينجف اعيديد
اترف هير اذوك إذ شيك تدرؤ برقد اتمديد
بهئ صيريك ادآسيول بعق خطر ادشعيد”
إنها دبرارت الأبوة والحب والحنان والأمنيات، أبيات من الشعر المحلي الظفاري نسجها الشاعر بأحرفٍ من بحر عواطفه، على شكل قصيدة شعرية طويلة في غاية الروعة والجمال، عبر من خلالها عن مشاعره وأمنياته لابنه ولكل ما هو جميلٌ في هذه الحياة.

وهذا ما يميز فن الدبرارت عن فن النانا، حيث يمنح الدبرارت الشاعر مساحة مفتوحة للتعبير عن مشاعره ورسائله وما يجول بخاطره، عكس فن النانا الذي يُجبر فيه الشاعر على أبياتٍ محدودة من الشعر.
وإذا أردنا أن نتعمق في أبيات هذه الدبرارت المؤثرة، فسنجد أن الشاعر يتمنى لابنه العمر الطويل وأن يُعمر مثل “دهق نزول” وهي قمة جبلية مشهورة في أعالي قطن جبجآت، يستشهد بها عادةً شعراء ظفار في صورهم الشعرية المختلفة.

ثم يتجه الشاعر إلى وصف أهله وقبيلته، والاعتزاز بهم وذكر محاسنهم، وهو نوعٌ من الفخر الاجتماعي الذي يتغنى به الشعراء لوصف رموزهم ومدح قبائلهم والمفاخرة بها دون الانتقاض من الآخرين.
“بهير صفت إذ زادت تزدن بوهم ايركيد
بوليزبغنهم أبقت يقورب ادينئ تيرديد”
ويرتبط هذا الفخر عادةً بالكرم والشجاعة والحلم والوفاء والإحسان واحترام الآخر، وهو فخرٌ بعيد عن التعصب والمبالغة والتهويل، ويراعي الأعراف القبلية والدينية، وهو مرغوب السمع لدى الناس، على خلاف الفخر الذي يصاحبه ذمٌ وتحريض وإقصاء للآخر، وهو شعرٌ منبوذ ومذمومٌ ومرفوض لدى المجتمع.

ثم ينتقل الشاعر إلى وصف الطبيعة والقمم الشاهقة والسفوح العالية في القطن الفسيح، حيث يصف الشاعر موطن أهله وأجداده ” أخريف” وهي منطقة ريفية تقع في نيابة جبجات التابعة لولاية طاقة، وتتميز بإطلالات فريدة رائعة الجمال، كما تشتهر بأشجار الطلح الشامخة وارفة الظلال.
ويعد شهب أخريف من أجمل مناطق “قطن” ظفار، حيث الوجهة المفضلة للزوار في موسم الصِرب من كل عام، وهذا ما حاول الشاعر قوله في ختام قصيدته حيث يقول :

“عشش اقول اخريف إذ بارضيتئ كل ينديد
بجبجات بديهيق أموعر بوهم بوكيديد”

وهو تعبيرٌ عن الاعتزاز بمكان السكن، والافتخار بأرض الآباء والأجداد، حيث يدعو الشاعر إلى تأمل طبيعة منطقة ” شهب أخريف” والاستمتاع بمناظرها الجميلة وإطلالتها الجذابة، حيث لا حجر ولا منحدر والأرض مفتوحة ومستوية ومنبسطة وخالية من العوائق.
ويُعدّ فن الدبرارت مع فن النانا من أكثر الفنون المحلية التي يتم تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، حيث عملت هذه التقنيات الحديثة على انتشار قصائد الشعراء بشكل سريع وواسع لدى مختلف شرائح المجتمع.

ويترقب جمهور الشعر عادةً جديد الشعراء في فنون النانا والدبرارت، ليقفوا على حبكتهم ورسائلهم وأهدافهم وإبداعاتهم، ما يجعل الشاعر دائمًا في محك حقيقي ، ليقدم أفضل ما في جعبته من الشعر لإرضاء ذائقة جمهوره، وعند الحديث عن فن الدبرارت في ظفار لا يمكننا تجاهل عمالقة هذا الفن ومشاهيره الكبار” رحمهم الله” مثل: محاد الفهد كشوب وعامر شودر العمري ومحاد إرعيب العمري الذين صدحت حناجرهم ذهبا وشعرا ودررا حيث ما تزال أشعارهم تتردد في كل أرياف وسهول وبوادي ظفار.
وما يزال هذا الإرث الثقافي العظيم الذي خلفه هؤلاء الشعراء يثري مسامع عشاق فن الدبرارت إلى اليوم.
غير أن فقد مثل هذه الهامات الشعرية الكبيرة قد ألقى بظلاله على الساحة الشعرية في ظفار .
لكن يبدو أن شعراء اليوم ماضون بحماس في إكمال مسيرة الزمن الجميل، وعازمون على الحفاظ على هذا الفن وإحيائه من جديد، ولعّل يسعفنا الوقت في قادم الأيام للولوج إلى تفاصيل دبرارتٍ أخرى من ظفار.