خليفة السعيدي
بينما كانت سُرادِق المسجد النبوي تحتضن الزوار وتتهلل القبة الخضراء بعيون الناظرين، وتلتهب الزخرفات بأنفاس المحبين، وتأن الزركشات بصلوات العاشقين بعد الغلق الكوروني الذي افترس القلوب بتيار راجف من الشوق لسيد ولد آدم وعزف على الأنفس لحن حزين لا يبرأه إلا زيارة قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم.
دخل الزوار بعد انقطاع الزيارة قرابة أربعة أشهر بتلك النظرة المأتمية التائهة التي لا يجليها إلا النظر إلى ذلك القبر الشريف، وتلك الروح الملتهبة التي لا يُسكِنها إلا ذلك المناخ من الخشوع الذي يتغلغل قرب الروضة الشريفة، وذلك الجسد المترنح الذي لا يعيده إلى توازنه إلا تلويحة شوق نحو قبر الحبيب.
يجثو عاشق على ركبتيه، يحمل على كاهله أربعة أشهر من الوله
ويسفح عبرات الشوق، علها تطفئ لهفته.
تبرق القبة الخضراء، تتفتح مظلات بهو المسجد ويخفق حمام المدينة.
يترنح أكتوبر في باريس موطن الرومنسية والجمال، العقلانية وحرية التعبير تلك الازدواجية الصارخة المليئة بالجماجم والفكر الاستعماري التي تحمل على كاهلها عقود من مباركات الحملات الصليبية، وعشرة ملايين شهيد جزائري، 2500 معتقل للتعذيب والقتل، تلك الدولة المنتنة التي تطعن في العقائد والمقدسات، تاريخها الضارب في الدنائة الذي يستعبد البشر ويحول المساجد إلى اسطبلات ويتفنن في طمس هوية البلدان الإسلامية.
يتدفق نهر السين بالشر، ويرفرف برج إيفّل بالحديد المنهوب من خيرات الجزائر.
يغرّد ماكرون بوقاحة بعد أن فاحت عطور بلاده الفرنسية بالكِير والتهكم بالرسوم الفاضحة على نبينا (صلى الله عليه وسلم) وكان قبلئذ يعبّر عن تضامنه في الانفجار اللبناني بالكلام المعسول الذي يخفي وراءه أنهار جارفة من الحقد والتعصب قائلا:
(لا شيء أبداً يثنينا عن التراجع) التراجع عن ماذا يا ماكرون؟ فلتحلب بقرتك (لافاش كيري) بصمت، ولتتيبس مصارينك بجبنة أبو الولد ، لكنك قوَّال ليس بفعَّال تداري أفعالك بضجيجك.
يتدفق نهر السين بالشر ويلتصق حذاء على جبهة ماكرون.
يقف عاشقان على جسر الفنون يربطون أقفال العقلانية الزائفة والحرية الضالة التي وعدهم بها ماكرون، يُكرِّم ماكرون الرسام المسيء للرسول (صلى الله عليه وسلم) بوسام الحقد، وتتدلى جماجم الجزائريين في أقبية متحف الإنسان بباريس لنشر ثقافة القتل والتسامح.
لم يُوصّل إلينا الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الدين على محفة من الملائكة وعلى نمارق من الراحة لكن بالصبر والمصابرة، بأقدامه الدامية وهو عائد من الطائف، بسلا الجزور الذي يُوضع فوق ظهره وهو ساجد لربه، برباعيته المكسورة يوم أحد، بشوقه إلينا وهو ينادي أمتي أمتي، لكن ماكرون ومن هم على شاكلته استمرأوا الأمة الإسلامية وحسِبوا أنّ لحمنا لحم جزور، فلعبوا بمشاعرنا وأهدروا كرامتنا وسبوا مقدساتنا بعد التهاون من بعض صهاينة العرب، لكن (نبينا خط أحمر) فأبشروا ببلاطِ شهداء ثانية وبمقاطعة دائمة.
يا ربّ صلّ وسلّم ما أردت على
نزيل عرشك خير الرسل كلّهم
محي الليالي صلاةً لا يقطّعها إلا
بدمع من الإشفاق منسجم
مسبّحاً لك جنح الليل محتملاً
ضرّاً من السهد أو ضرّاً من الورم
يرتدي ذلك الزائر لقبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ساقيه ويغادر بنفثةِ مصدور، وقلب مضطرب مهدور، شوقا للقيا الرسول، ويسيل وسط ذلك الفوج من الناس إلى خارج المسجد النبوي الشريف غير مكترث بفرنسا وعطرها النتن وبرجها الحديدي وحريتها الزائفة.
تبرق القبة الخضراء، تُغلق مظلات المسجد النبوي،
وتهفهف حمام المدينة ويُخيَّم السكون كأن الكون نام فوق من فيه..